وَمنْ ذَا يَعَضُّ الْكَلْبَ إنْ عَضَّ
بِقَلَم ربيع الأديب
كَثِيرٌ مِنَ الأغْبِيَاءِ السُّذّجِ عِنْدَمَا يَقُولُونَ فِيكَ كلاَماً قَبِيحاً أَنْتَ بَريءٌ مِنهُ بَرَآءة مَاء زَمْزَم من شَوائِبِ الأرضِ ..وَيَشْتُمُونَك َ وَيَصفُونَكَ بِأوْصَافٍ هُمْ أوْلَى بهَا مِنْكَ ..فَتُعْرِض عَنْهُم إعراضَكَ عنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ وَالأنْصَابِ والأزْلامِ وَمَا إلَى ذَلِكَ ... عَملاً بِقَوْلِ اللهِ جَلّ شَأنُهُ " وَأعْرِض عنِ الْجَاهِلِينَ " يَظُنُّونَكَ جَبانا رِعْدِيداً أوْ عَيِيّاً حَصِراً لاَ تَسْتَطِيعُ أن تبينَ عنْ نَفْسِكَ ، ولاَ أن تُجَلِّ عنْ ذَاتِكَ ..وَلَمْ يَدْرِ الأغْبيَاءُ أنَّ ذلِكَ الإِعْرَاضَ قِمّةٌ فِي الْعَقْلِ ورُسُوخٌ فِي الْفَهْمِ .. لاَ سيمَا إنْ كَانَ الرّادُّ مُبْطِلاً أَو الْمُتَقَوِّلُ فِيكَ جُوَيْهِلاً لاَ يَعْرِفُ مَا يَخْرُجُ منْ رأسِهِ ولاَ مَا يَصْدُرُ عَنْ قَلْبِهِ ، وأنتَ أعْرَضْتَ عنْهُ وبِاسْتِطَاعَتِ كَ أن تَكْتُبَ مَا يُبْكِي العَجُوزَ عنْ شَبَابِهَا والشّابةَ علَى أحْبَابها ، ولكِن أعْرَضْتَ عنهُ اقْتِداءً بالْكِتَابِ العَزيز : " وإذَا مَرّوا باللغْوِ مَرّوا كِراماً " وَ " إذَا خَاطَبَهم الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً "..وقدْ قَالَ الشّاعِرُ :
يَشْتُمُنِي عَبْدُ بَنِي مِسْمَعِ فَصُنْتُ عنهُ النّفْسَ وَالْعِـرْضَ
وَلَمْ أجِبْهُ لاحْتِقَارِي لَهُ وَمنْ ذَا يَعَضُّ الْكَلْبَ إنْ عضَّ
هَلْ رأيْتَ -أَيُّهَا الْمُوفّقُ- إِنْسَاناً رَدّ عَلَى كَلْبٍ نَبَحَهُ أَوْ سَلُوقِي عَضّهُ ؟؟! هَذَا مِنَ الْمُسْتَحِيلاَ ت أرْشَدَكَ اللهُ ..
لِذَلِكَ أَقُولُ لَكَ أَخِي الْحَبيبَ امضِ قُدُماً وَلاَ تَلْتَفِتْ للأوْبَاشِ والأوْغادِ الّذينَ لاَ يَرْقُبونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاًّ ولاَ ذِمّة..أهل الْحَسَدِ وَالحِقْدِ وَالإحَنِ ...وَتَذكّرْ دَائِماً الْجبالَ الشّوامِخَ منْ أمثَالِ أبِي بكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ وَعَائِشَةَ وغيرِهِم -رَضيَ اللهُ عنهم أجمَعِينَ- الّذِينَ تَكَلّمَ فيهمُ السِّفَلَةُُ والسُّوقَةُ وَالرّوَيْبِضَة ُ وَالسّفَهاءُ وَالْخُبَثَاءُ.. .بلْ اقْتَدِ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَدْ أعْرضَ عَن الْمُشْرِكِينَ لَمّا قَالُوا عنه : مجْنُون ، سَاحِرٌ ، كَاهِن ، شَاعِر ، يُعَلّمُهُ بَشَر ، وَمَا إلَى ذَلِكَ منَ الألفَاظ التِي هُمْ - لعنهم اللهُ- أَوْلَى بِها مِنْهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ :
" يَا أيّهَا الّذينَ ءامَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالّذينَ آذَوا مُوسَى فبَرّأهُ اللهُ مِمّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً " ...
فَمَنْ نَحْنُ إذاً أمَامَ هَؤلاَءِ الْعَمالقَة الّذين أُوذُوا فِي سبيلِ دَعْوَتِهم وَمَبْدَئِهم الْحقِّ الْمَبْنِي علَى تَوحِيدِ اللهِ عَزّ وجلَّ وَإخْلاَصِهِ سُبْحَانَهُ ...
فَمَاذَا يَضِيرُكَ قَوْلُهُم : فُلاَنٌ تَكْفِيرِي ، فلاَنٌ قُطْبِي ، فُلانٌ خَارِجِي ..فُلانٌ إرْهَابِي ، فلانٌ رِجْعِي ، فلانٌ ظلاَمِي ، فُلانٌ حِزْبِي ، فُلانٌ حَرَكِي ...إلَى آخِر هَذِهِ المُصْطَلَحاتِ الّتِي لَقّنَتُهم إيّاها أمْريكاَ وَمَا جَاوَرهَا !! ...قَالَ كُثيّرُ عزّة :
يكَلِّفُهَا الْخِنْزِيرُ شَتْمِي وَمَابِها هَوَانِي وَلِكِنْ للْمَليكِ استذلَّتِ
وَحَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الْوَكيلُ ....
وَقْفَةٌ :
في عصر الهِجاءِ المعروفِ بالنّقائضِ بين جرير والفرزدق عِمْلاَقَيْ الشِّعر في ذلك العصر ؛ حاول بشَّارُ بنُ برد في شبابه وكان يطلب الشهرة أن يتحرش بـ [جريربن عطية ] ويهجُوه طمعًا بأنْ يستفزَّه ليردّ عليهِ ، ويذكَره في شعرِه ؛ وهو يعلم علمَ يَقين أن مجرَّدَ ذكره في بداياته وهو شاب غَرَر في أشعار ( جرير ) كاف لتسيرَ باسمه الركبانُ ،ويشهره ذلك في الآفاق ، ويُذكر في منتدياتِ زمانِه على لسان الصَّغيرِ والكبيرِ ، ويخطّ اسمه في شعر (جرير ) بماء الذهب..
هذه الحيلة ُالخبيثةُ من بشّار لم تنطلِ على ( جرير الشاعرُ العملاقُ ) ولم يخرجه سِبابُ بشّار وهجائُه عن رزانَتِه بل استصغرَه واستحقرَه ولم يردَّ عليه ..
وكأنه تمثّلَ بقول القائل:
وعوراءُ الْكَلاَمِ صَمَمْتُ عَنْهَا وَإِنِّي إِنْ أَشَاءُ بِهَا سمَيِعُ
وكان بشَّارُ يتحسَّرُ عَلَى إِهْمالِ جريرٍ لِهِجَائه وعدمِ التفاتِه إليه ويقولُ [ لَوْ رَدَّ عَلَيّ جريرٌ لأصبحت أشعرَ العَالمين] .
في الحقيقة ربما يفسر بعضُ الناس هذا الفعل من[جرير ] بالكبر ..
وربما يفسره بعض الجهال المتعصبين لبشار بالعجز عن الرد عليه ، متناسين أن جريرَ أُسطورةٌ من أساطيرِ الشِّعرِ العربي ، وبشَّار لم يكن آنذاك إلا غلامًا يافعًا لا زالَ يحبُو على شاطيءِ بحورِ الشِّعرِ ، ويتدرب على صنعةِ الشعر ونظم القوافي..
وربما وربما...
وفي النهاية يُجْمِعُ العقلاءُ على أنَّ فعلَ جريرٍ كان قمَّةَ الْعقلِ ، وكمالِه ورزانَتِهِ ،وهو في الحقيقةِ تصديقٌ لقولِ الشَّاعرِ:
لايَضرُّالبحرَ أمسَى زاخِرًا أنْ رمَى فيه غلامٌ بحجرْ
صَفْوَةُ الْقَوْلِ :
" وسأفيدُكَ فَائِدةً يَا أَخِي يّجلُّ نَفْعُها وتعْظُمُ عَائِدَتُهاَ ، ومَا أقُولُهَا إلاّ عن ودٍّ لكَ وشَفقَةٍ عَليْكَ ، فَإنَ البَلْوَى فِي مُعَاشَرَةِ أهْلِ زَمَانِكَ عَظيمةٌ ، فاستَعِن بِهَا عَلَى مَا يَلْقَاكَ منْ أذَاهم ، فَإنَّكَ لاَ تَخْلُ مِن قَليلِه وإنْ سَلِمتَ مِنْ كَثيرهِ ، وَذَلِكَ أنّكَ قَدْ تَرَى الوَاحِدَ بعْد الوَاحِدِ مِنْهُم يَتَكَالبُ علَى النّاسِ ويَتَسفّهُ على أعْرَاضِهم ويَنبح فيها نُبَاحَ الكَلْبِ ، فَيَهُمُّكَ منْ شَأنِهِ مَا يَهُمُّكَ ، ويَسُوؤُكَ منْهُ مَا يَسُوؤكَ أنْ لا يَكُونَ رَجُلاً فَاضِلاً يُرْجَى خَيْرُه ويُؤْمَنُ شَرُّهُ ، فَيَطُولُ فِي أمْرِه فِكْرُكَ ، ويَدُومُ بهِ شُغْلُ قَلْبِكَ ، فَأزِحْ هَذا العَارِضَ عَنْ نَفْسِكَ بَأنْ تَعُدّهُ عَلى الْحَقيقَةِ كَلْباً خِلْقَةً ، وزِدْ بِهِ في عَدَدِ الكِلابِ وَاحِداً ، ولَعَلَّكَ قَدْ مَرَرْتَ مَرّة من المِرارِ بِكَلْبٍ منَ الْكِلاَبِ يَنْبحُ وَيعْوِي وربّما كانَ أيضاً قَدْ يُسَاوِرُ [ يعني يُهاجِمُ] ويعقرُ ، فَلَمْ تُحَدِّث نَفْسَكَ فِي أمْرِهِ بأنْ يَعُودَ إنْسَاناً يَنْطِقُ ويُسَبِّح ، فلاَ تتأسّف لهُ ألاَ يَكُونَ دابّةً تُرْكَبُ أوْ شَاةً تُحْلَبُ ، فَاجْعَلْ أيْضاً هذا المُتَكَلِّبَ كلْباً مِثْلَهُ واسْتَرِح من شُغْلِهِ وارْبحْ مَؤُونَةَ الفِكْرِ فِيه ِ، وكَذَلِكَ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ منْزِلة منَ جَهْلِ حَقِّكَ وَكُفْرِ مَعْرُوفِكَ فاحْسِبْهُ حِمَاراً ، أوْ زِدْ في عدد العانةِ [أي قطيع الحُمر الوحشية ] واحِداً ، فَبِمِثْلِ هذا تَخْلُصُ من آفاتِ هذا الباب وغائِلته ، واللهُ المُسْتعانُ ". اهـ كتاب العُزلة للإمَامِ أبي سُليمان الخطّابي ((عليْهِ رَحْمَةُ اللهِ )) ص 67.