رسالةٌ إلى كل مُبتلى بالخمر
هذه أصلٌ لرسالة أرسلتها لصديق لي قديم من أيام الدراسة – غير النافعة – وقد بلغني أنه ابتليّ بشرب الخمر وأنا أعرف الأخ جيداً ، ففيه من جميل الصفات الشيء الكثير مما دفعني لمكاتبته ناصحاً مشفقاً..
والحمد لله كانت النتيجة أن هاتفني معلناً توبته ومُقسماً أن لا يعود لها ثانيةً..
فأسال الله لي وله الثبات حتى الممات ، وإليكم نص الرسالة :
الحمد لله الذي أحلَّ لعباده الطيباتِ من الرزقِ وحرمَّ عليهم الخبائث ،
والحمد لله الذي أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسلين فقال سبحانه آمراً المؤمنين :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
وقال آمراً المرسلين:
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }
والصلاة والسلام على من علمنا أن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً ،
وسبحان من بفضله أرشد أن الجنة طيبة وهي مثوى الطيبين الطاهرين ،
ففيها وعلى بابها تُصَفُّ الملائكة حيث تفتح لهم أبوابها حتى تقول الخزنة للداخلين :
{ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين }
فما أجمله من ترحاب ولقاء !!
وما أحلاه من سرور وهناء !!
ويا ليت شعري كم هي المفارقة بين من هذا حاله ومآله ،
وبين أهل الخَبث والخُبث الذين قال الله عنهم :
{وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُم الخاسرون}
نعم أولئك هم الخاسرون ،
فأي خسارة لهم أعظم من تلك الخسارة فهل يستوي هذا وذاك ؟!
الجواب كما قاله رب الأرباب :
{ قل لا يستوي الخبيث والطيب } .
أما بعد : فهذه رسالة طيبة من عبدٍ ما طاب إلا بتوحيد ربه ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قيل فيه :
" إن لم تطب في طيبة عند طيب به طابت الدنيا فأين تطيب ؟! "
أُرسِلُها الى طيبٍ إبن طيب ، وأقول أنك طيب بدليل شهادتك أن لا إله إلا الله ،
وقد سمى الله هذه الشهادة بالكلمة الطيبة فقال :
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ}
وأما ابن طيب فدليلي عليه أن الله ثبته على هذه الكلمة الطيبة التي لا يثبت عليها الا الطيبون ،
وقد بلغني أنه خُتم له بكلمة التوحيد أطيب كلمة في الوجود .
فيا أيها الطيب لا ينبغي للطيب أن يخبُث ،
وسبيل ذلك أن لا يقول الا طيباً ،
ولا يطعم ولا يشرب الا طيباً ،
هل يليق بالطيب أن يتجرع ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أم الخبائث) ؟!
وهي الخمرة وإن تعددت مسمياتها ،
ناهيك عن قُبحها ووصْفِ أحكم الحاكمين لها في نص تحريمه لها :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْإِنَّمَاالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِالشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}
فالطيب لمَّا يسمع ربه يقول
(فهل انتم منتهون)
يقول انتهينا يا رب ولا نعود ،
وكيف يعود الطيب الى مُعاقرة ما وصفها الله بأوصاف تدل على كُنهها ، بأنها "رجس " ..
فتأمل أول وصف من ربك الذي خلقك وهو الأعلم بمصلحتك من نفسك وأرحم بك من والدتك .
قال ابن عباس رضيّ الله عنهما : معناه _ أي الرجس _ السخط والنتن ،
وقال القرطبي : النجس وقال رحمه الله في بيان قوله تعالى { من عمل الشيطان } : أي من تزينه لأوليائه ،
ثم أمر الملك: { فاجتنبوه }
وهذه هي أشد صيغ التحريم ،
وقد تتبعت ورودها في القرآن الكريم فرأيتها لم تأتِ إلا بالنهي عن الشرك والكبائر .
ثم رغّب جل وعلا عباده بقوله :
{ لعلكم تفلحون }
ومفهوم المخالفة هنا أنه لن يفلح من لم يحقق الاجتناب .
والفلاح في القرآن معناه الفوز في الآخرة والسعادة في الدنيا .
ثم بين الله مُراد الشيطان من إيقاع أوليائه بالخمر والميسر لأجل أن يوقعهم في العداوة والبغضاء ،
ذلك أن السكّير يكتسب صفات عدوانية فيتعدى على الخلق بغير حق ، فيحصل له جرَّاء ذلك البغضاء في قلوب الخلق ،
لأن الرجل عندما يحتسي الخمر يذهب عقله فتذهب مروءته ويصبح أضحوكة للناس ،
وهذا لا يقبله على نفسه شهم فضلاً عن مسلم طيب .
ويبين الله في الآيات التي ذكرتها لك أيضاً المراد الأعظم لإبليس في إيقاع أوليائه :
{ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة }
انظر كيف أدخله في المعصية ليتدرج به حتى يوصله الى الكفر ، فينظُرُ شارب الخمر الى نفسه فيحقر نفسه ويقول أنا أشرب الخمر أيعقل ان ألتزم الصلاة ؟!
فيتركها..
وإذا أراد أن يذكر الله تذكر أن فاه ما فَتِئ يشرب الخمر فكيف يذكر اللهّ !!
لذلك كانت الخمرة جِماعاً لألوان الخبائث وسماها رسول الله : " أم الخبائث "
وإليك حبيبي بعض ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الخمر ووعيد شاربها عسى الله أن ينفعك بها ،
وأحسب أنك إن قرأت كلامه صلى الله عليه وسلم ستنتهي وتقلع وتتوب ،
والله يتوب على من تاب ..
أخبر الله في كتابه الكريم أن في الجنة أنهاراً من خمرٍ لذة للشاربين فمن عاقرها في الدنيا _ فإنه وإن كان ممن عاقبة أمره بعد العذاب دخول الجنة بشفاعة الموحدين أو بشفاعة رب العالمين - سيُحرم لذة شرب خمر الجنة ، وهذا باب عظيم من الحسرة والندامة لو تعلم .
- وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن شارب الخمر أنه :
" ... ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمنٌ ) : معناه أن الإيمان في حال شرب الخمر يكون مرفوعاً عن الشارب فإذا أدركته المنية على هذه الحال مات بغير إيمان والعياذ بالله..
- وروى الإمام أحمد وصححه الشيخ الألباني :
" من ترك الصلاة سُكراً مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسُلِبها ، ومن ترك الصلاة سُكراً أربع مرات كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال . قيل وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال عصارة أهل جهنم " .
قلتُ : فكما أنه شرب أنتن ما في الدنيا من مشروبات كان جزاؤه شراب أنتن ما في الآخرة ، وهذا من بديع وصف الله لها بأنها رجس كما في الآية فتأمل !
وعن عبد الله بن عمرو قال: " جاء في التوراة أنَّ الخمر مرّ طعمها ، أقسم الله بعزته لمن شربها بعدما حرّمتُها لأعطشنّه يوم القيامة ".
والعطش هنا معناه الحِرمان من السقاية من يده الشريفة صلى الله عليه وسلم ونحن نقول في الدعاء المشهور اللهم اسقنا من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً .
- وصحح الألباني رحمه الله حديثاً عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر، ولا منان ، ولا شيخ زان " . وفي لفظ : ولا يُكلمهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم .
وهذه عقوبة ما بعدها عقوبة فأهل الإيمان عيونهم يوم القيامة إلى ربها ناظرة ، وهؤلاء حرموا ليس فقط أن ينظروا الى الله ، بل من أن ينظر هو إليهم جل وعلا ..
وأحدنا إذا كلم أباه وكان غاضباً فلم ينظر إليه وهو يكلمه يصيبه من الهم والحَزن ما يصيبه فكيف بالله جل وعلا وله المثل الاعلى!
- وعند أحمد - رحمه الله - قوله صلى الله عليه وسلم : "لعنة الخمر على عشرة أوجه: لعنة الخمر بعينها ، وشاربها ، وساقيها ،وبائعها ، ومبتاعها ، وعاصرها ، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه وآكل ثمنها - واللعن هو الطرد من رحمة الله- وكل هذه النصوص لمن مات على ذلك ولم يتب ، أما من تاب فإن الله يبدل سيئاته حسنات..
فبادر أخي إلى التوبة ولا تُوفَق لها إلا بالهجرة أي أن تهجر ما نهى الله عنه وتهجر مواطن السوء وصحبته وكل ما يذكرك به ، وتضع نصب عينيك الجنة والنار فليس ثمة مثوى غيرهما ..
وأوصيك بأهلك خيراً وكان آخر وصايا رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم النساء فقال: " استوصوا بالنساء خيراً " .
وكان بعض السلف يرى أثر معصيته لله في دابته وزوجته فلما يسوء خلق المراة فليراجع أحدنا نفسه وينظر معصيته ويتوب منها..
ثم إن الله أمرعباده
{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}
فأين عداؤنا لعدو الله ،
وأعظم باب للنيل منه الاستجابة لأوامر الله والانتهاء بنهيه ..
فلا تجعل الغلبة لعدوك فالحرب ناشبة وعدوك لا يُغلب إلا بالله فاعتصم به واستمسك بحبله ولازم التوبة ،
فقد كان - من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلى الله عليه وسلم _ يتوب الى الله في اليوم مئة مرة.
هذا وقد أخبر الله عن نفسه جل وعلا أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين ..
فالتائب حبيب الله ومن أحبه الله لم يعذبه..
أسأل الله بأسمائه وصفاته أن يتوب عليّ وعليك وعلى جميع المسلمين إنه هو التواب الرحيم ..
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ..
ربنا هدنا اليك فاغفر اللهم ذنوبنا
.. واستر ما اطلعت عليه من خفي أعمالنا ولا تفضحنا يا من يعلم ما في القلوب والضمائر ..
وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد – صلى الله عليه وسلم.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
أخوك مصباح الحنون
الاثنين 17 ذوالقعدة 1431
راجياً به وجه الله والدار الآخرة
عملاً بقول رسول الله " الدين النصيحة "
وامتثالاً لأصل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
وطمعاً في أن أحشر مع الفرقة الناجية الذين يتواصون بالحق
اللهم انفعني بما علمتني واهدني به واجعله ذخراً لي يوم ألقاك.. آمين