1) الاستجابة لنفير الجهاد في سبيل الله (الآية 41 من سورة التوبة):
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) ﴾التوبة: ٣٨ - ٤١
قال تعالى: ﴿ انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾التوبة: ٤١
يقول ابن كثير في معرض تفسير الآية في "تفسير القرآن الكريم": قال سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى مسلم بن صبيح: هذه الآية: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ أول ما نزل من سورة براءة، وقال معتمر بن سليمان عن أبيه قال: زعم حضرمي أنه ذكر له: أن ناساً كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلاً وكبيراً فيقول: إني لا آثم، فأنزل الله: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ الآية، أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب، وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال؛ في المنشط والمكره، والعسر واليسر، فقال: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾. وقال علي بن زيد عن أنس عن أبي طلحة: كهولاً وشباباً، ما سمع الله عذر أحد، ثم خرج إلى الشام، فقاتل حتى قتل. وفي رواية: قرأ أبو طلحة سورة براءة، فأتى على هذه الآية: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَـٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً، جهزوني يا بني، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه فيها. وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة وأبي صالح والحسن البصري وسهيل بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم: أنهم قالوا في تفسير هذه الآية ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ كهولاً وشباناً. وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن حيان وغير واحد، وقال مجاهد: شباناً وشيوخاً، وأغنياء ومساكين. وكذا قال أبو صالح وغيره. وقال الحكم بن عتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ يقول: انفروا نشاطاً وغير نشاط، وكذا قال قتادة. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ قالوا: فإن فينا الثقيل، وذا الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره، فأنزل الله، وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا ﴿ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾أي: على ما كان منهم. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضاً: في العسر واليسر. وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية، وهذا اختيار ابن جرير. وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: إذا كان النفير إلى دروب الروم، نفر الناس إليها خفافاً وركباناً، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافاً وثقالاً، وركباناً ومشاة، وهذا تفصيل في المسألة. وقد روي عن ابن عباس ومحمد بن كعب وعطاء الخراساني وغيرهم: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾]التوبة:122[ وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله، وقال السدي: قوله: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ يقول: غنياً وفقيراً، وقوياً وضعيفاً، فجاءه رجل يومئذ - زعموا أنه المقداد وكان عظيماً سميناً - فشكا إليه، وسأله أن يأذن له، فأبى، فنزلت يومئذ: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ فلما نزلت هذه الآية، اشتد على الناس، فنسخها الله فقال:﴿لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾]التوبة: 91[. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب عن محمد قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا عاماً واحداً، قال: وكان أبو أيوب يقول: قال الله تعالى: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً. وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمرو السكوني، حدثنا بقية، حدثنا جرير، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة، حدثني أبو راشد الحبراني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فصل عنها من عظْمه يريد الغزو، فقلت له: قد أعذر الله إليك فقال: أتت علينا سورة البعوث: ﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً﴾. وقال ابن جرير: حدثني حيان بن زيد الشرْعَبِي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان والياً على حمص، قِبَل الأفسوس إلى الجراجمة، فرأيت شيخاً كبيراً هِمّاً، قد سقط حاجباه على عينيه؛ من أهل دمشق، على راحلته فيمن أغار، فأقبلت إليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك، قال: فرفع حاجبيه فقال: يا بن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله عز وجل. ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله فقال:﴿وَجَـٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي: هذا خير لكم في الدنيا والآخرة؛ لأنكم تغرمون في النفقة قليلاً، فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا، مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة " ولهذا قال الله تعالى:﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ]البقرة: 216 [ ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: " أسلم " قال: أجدني كارهاً، قال: " أسلم وإن كنت كارهاً. "[1]
": ذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل الله، والتذكير لهم بما كان من نصر الله لرسوله، قبل أن يكون معه منهم أحد، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير. ﴿يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟﴾. .. إنها ثقلة الأرض، ومطامع الأرض، وتصورات الأرض.. ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع.. ثقلة الدعة والراحة والاستقرار.. ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب.. ثقلة اللحم والدم والتراب.. والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه: ﴿ اثاقلتم﴾.. وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل! ويلقيها بمعنى ألفاظه: ﴿ اثاقلتم إلى الأرض ﴾.. وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق.. إن النفرة للجهاد في سبيل الله انطلاق من قيد الأرض، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم؛ وتحقيق للمعنى العلوي في الإنسان، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة؛ وتطلع إلى الخلود الممتد، وخلاص من الفناء المحدود:﴿أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ﴾. وما يحجم ذو عقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله، إلا وفي هذه العقيدة دخل، وفي إيمان صاحبها بها وهن. لذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -" من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق " فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر، والآجال بيد الله، والرزق من عند الله. وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد: ﴿إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً، والله على كل شيء قدير﴾.. والخطاب لقوم معينين في موقف معين. ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في الله. والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو ذلك عذاب الدنيا. عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء. وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء..﴿ويستبدل قوماً غيركم﴾.. يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله:﴿ولا تضروه شيئاً﴾.. ولا يقام لكم وزن، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب! ﴿والله على كل شيء قدير﴾.. لا يعجزه أن يذهب بكم، ويستبدل قوماً غيركم، ويغفلكم من التقدير والحساب! إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس، إثبات للوجود الإنساني الكريم. فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة: إن التثاقل إلى الأرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم. فهو فناء في ميزان الله وفي حساب الروح المميزة للإنسان. ويضرب الله لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه، على نصرة الله لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء:﴿إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا، ثاني اثنين إذ هما في الغار. إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا. فأنزل الله سكينته عليه، وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم﴾.. ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق، لا تملك لها دفعاً، ولا تطيق عليها صبراً، فائتمرت به، وقررت أن تتخلص منه؛ فأطلعه الله على ما ائتمرت، وأوحي إليه بالخروج، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق، لا جيش ولا عدة، وأعداؤه كثر، وقوتهم إلى قوته ظاهرة. والسياق يرسم مشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه:﴿إذ هما في الغار﴾. والقوم على إثرهما يتعقبون، والصديق - رضي الله عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب، يقول له: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. والرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزل الله سكينته على قلبه، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ". ثم ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلها في جانب، والرسول - صلى الله عليه وسلم - مع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس. وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار:﴿وجعل كلمة الذين كفروا السفلى﴾. وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة:﴿وكلمة الله هي العليا﴾.. وقد قرئ " ﴿ وكلمةَ الله ﴾ بالنصب. ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى. لأنها تعطي معنى التقرير. فكلمة الله هي العليا طبيعة وأصلاً، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة. والله ﴿ عزيز ﴾ لا يذل أولياؤه ﴿ حكيم ﴾ يقدر النصر في حينه لمن يستحقه ذلك مثل على نصرة الله لرسوله ولكلمته؛ والله قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون. وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول الله إلى دليل! وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة، لا يعوقهم معوق. ولا يقعد بهم طارئ، إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الآخرة:﴿انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾ .. انفروا في كل حال، وجاهدوا بالنفوس والأموال، ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير، ولا تخضعوا للعوائق والتعلات.﴿ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾. وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير. فنفروا والعوائق في طريقهم، والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار. ففتح الله عليهم القلوب والأرضين، وأعز بهم كلمة الله، وأعزهم بكلمة الله، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح. قرأ أبو طلحة - رضي الله عنه - سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً، جهزوني يا بني. فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك. فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه بها. وروى ابن جرير بإسناده - عن أبي راشد الحراني قال: " وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة، وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو؛ فقلت له قد أعذر الله إليك. فقال: أتت علينا سورة البعوث. ﴿انفروا خفافاً وثقالاً﴾. وروى كذلك بإسناده - عن حيان بن زيد الشرعبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيراً هِمّاً ، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار، فأقبلت إليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك. قال: فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا الله، خفافاً وثقالاً. ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل. وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات الله انطلق الإسلام في الأرض، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة. [2]
الهوامش:
[1] - ابن كثير – تفسير القرآن الكريم