بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومَن والاه ، أمَّا بعد :
{ سبحانك لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا إنَّك أنتَ العليم الحكيم } ، هذا مقالٌ مختصر في فقه الواقع ، وما يتعلق به ، كتبته على عجالة ، وأسأل الله أن ينفع به ..
-(())-
المسألة الأولى : مفهوم (فقه الواقع) :
معنى هذه الكلمة - التي هي (فقه الواقع) - : فهمٌ أو فقهٌ لحقيقة الأمور الواقعة أو الحادثة .
ويتردد هذا الاصطلاح في هذه الأزمنة بكثرة ، وربما قال البعض بأنَّه اصطلاحٌ حادث ، وهذا غير صحيح لأنَّنا عند النظر في مضمونه نعلم أنَّه صحيح ، فهو غير محدث في مضمونه ، إذْ هو تأكيدٌ وزيادة بيانٍ وعنايةٍ للفهم والفقه المشروط على المفتي ، فمن أنكر شرط الفهمِ للوقائع والحوادث على المفتي ، فقد أنكر الصحيح الذي فرضه الله تعالى ، وصار مِن أصحاب الأهواء ، قال تعالى : { وإنَّ كثيرًا ليُضِلُّون بأهوائهم بغير علم إنَّ ربك هو أعلمُ بالمعتدين } ، وقال تعالى : { ولا تقفُ ما ليس لك به علم } ، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنَّ الله لا يقبض العِلم انتزاعًا ينتزعهُ مِن العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبقَ عالمٌ ، اتخذ الناس رؤوسًا جُهالاً ، فسُئلوا فأفتوا بغير علمٍ ، فضلوا وأضلوا" .
-(())-
المسألة الثانية : عدم فقه الواقع عند المرء له حالتان :
الحالة الأولى : أن لا يكون المرء قادرًا على فهم الوقائع والأحداث فذاك المغفَّل ضعيف العقل قليل العلم والفهم لأحكام الله ، فلذلك لا يُطلِقُ العلماء اسم الفقيه على مَن يحفظ الفروع والأحكام دون فهمها ، فالفهمُ الصحيح الراسخ هو التأصيل .
وتنزيلُ الحكمِ على الحادثة والواقعة المعيَّنة منوطٌ بفهم ذلك الحكم ومعرفته ، في أي حالةٍ يُنزَّل الحكم ومتى ، ولو لم يكن مُغفلاً سليم العقل لما تعرَّض أصلاً لما لا يُحسِنُه ويفهمه مِن الأحكام التي نزَّلها في غير مواضعها الصحيحة ، فمعرفة الأحكام تقتضي معرفة الحالات والمواضع التي تُنزَّلُ عليها ، وتنزيلُ الحكم على الوقائع والحوادث يُشترطُ له فهم هذه الوقائع والحوادث والإحاطةُ بجميع لوازمها ، وهذا هو فقه الواقع .
الحالة الثانية : أن يكون عند المرء علمٌ بالأحكام الشرعية ولا يكون عندهُ علمٌ بحقيقةِ واقعةٍ أو حادثةٍ معيَّنة لأسبابٍ شرعيَّة ، فيفتي فيها بخلاف الحق ، فيُوصف المفتي حينئذٍ بأنَّه لم يفهم تلك القضية أو الواقعة المعيَّنة ، ولكن لا يوصف بأنَّه لا يفهم الواقع ، وهذا لا خلاف فيه بين العقلاء .
ففي الأصل : لا يكون العالمُ عالمًا أو فقيهًا حتى يكون فاهمًا للواقع فقيهًا به ، أمَّا العالِم الذي اجتهد في حادثةٍ وواقعةٍ معيَّنة فأخطأ فهذا لا يُقال عنه بأنَّه لا يفقه الواقع ، فهو يفهم الوقائع والحوادث ولكن التبس عليهِ أمرُ تلك الحادثة أو الواقعة المعيَّنة لأسبابٍ شرعيَّة ، فهناك فرقٌ بين عدم فهم الواقع وبين عدم فهم واقعةٍ معينة ، فالأولى صفة لازمة مُطَّردة ، والثانية حالة طارئة .
والفرقُ بين الحالة الأولى والثانية :
أنَّ الثاني : خفي عليه أمرُ الواقعة أو الحادثة المعيَّنة لأسباب شرعية ، وخطؤه لا يرجعُ إلى عدم التأصيل وعدم الفقه بالأحكام أو عدم قدرته على فهم الوقائع والحوادث ، إنَّما الأمرُ كما ذكرنا لأسبابٍ شرعيَّة .
والأوَّل : مغفَّلٌ لا يفهمُ الوقائع والحوادث فهمًا صحيحًا ولا يُحيط بكل ما يتعلَّق بها ، أو ليس عنده علمٌ صحيحٌ بالأحكام ، أو كلاهما معًا ، فتراه يخلط بين الأحكام لعدم فهمه فيها ، ويضطرب في إطلاقها ، وسبب ذلك كما قلنا : عدمُ التأصيل الصحيح في معرفة الأحكام الشرعية أو عدم القدرة على فهم الوقائع والحوادث أو كلاهما معًا . وهذا يُقال عنه بأنَّه لا يفهم الواقع .
قال ابن القيِّم رحمه الله تعالى : ( ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم مِن الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين مِن الفهم :
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقةِ ما وقعَ بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا .
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكمَ به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يُطبِّقُ أحدهما على الآخر ، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا ، فالعالِمُ مَن يتوصَّلُ بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ، كما توصَّل شاهِدُ يوسف بشق القميص من دبرٍ إلى معرفةِ براءته وصدقه ... ) .
ثم شرع رحمه الله في ذكر الأمثلة فيما ذكرَ ، حتى قال رحمه الله : ( ... ومَن سلَكَ غيرَ هذا أضاع على الناس حقوقهم ونَسَبَهُ إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله ) أهـ . انظر إعلام الموقعين (ص66) دار طيبة .
وروي عن الإمام مالك أنَّه قال : ( العلمُ : الحكمةُ ، ونورٌ يهدي به الله مَن يشاء ، وليسَ بكثرة المسائل ) انظر شرح السنَّة للبغوي (1/284) .
قلتُ : ذلك لأنَّ أصلَ الفقه الفهم ، كما قال ابن حزم رحمه الله حين وصف الفقيه ومَن يُطلق عليه اسم الفقيه : ( وأمَّا اسمُ الفقه : فهو واقعٌ على صفةٍ في المرء ، وهي فهمهُ لما عندهُ ، وتنبُّههُ على حقيقة معاني ألفاظ القرآن والحديث ، ووقوفه عليها ، وحضور كل ذلك في ذكره متى أراده ) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/119) .
وكم مِن عالمٍ في زماننا يدعي العلم ، وعند إطلاق الحكم نراه يتخبَّط ولا يُحسِنُ وضع الأمور في مواضعها ، بل الكثيرون – وخصوصًا مَن يظهر في القنوات الفضائية الفاسدة – يُجازفون في إصدار الأحكام قبل فهم الحوادث والوقائع ، ولا يملكون القدرة على استيعاب الأمر وإحاطته مِن جميع جوانبه ، بل بعضهم لا يُحاول على ذلك ، وأكثرهم مِن أصحاب الأهواء الضالين .
ومِن المعلوم أنَّ السلف كانوا يتوقفون فيما لم يفهموه حتى يتبيَّن لهم الأمر فلا يبقى معه أدنى شبهة ، ثم بعد ذلك يُطلقون الحكم وربما امتنع بعضهم وأحال الأمر على صاحبه حتى بعد أن تبيَّنت له حقيقة الواقعة والحادثة تنزُّهًا وتورُّعًا عن الفتيا .
-(())-
المسألة الثالثة : الخطأ يكون على ثلاثة أضرب بالاستقراء في الأدلَّة مِن الكتاب والسُّنَّة :
الضرب الأول : خطأ غير مرتبطٍ بالقصد ولا الإرادة ، كالذي رمى الصيد فأصاب إنسانًا بغير قصد ، وكالرجل الذي ورد في الحديث أنَّه وجَدَ راحلتهُ فقال مِن شدَّة الفرح : "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ مِن شدة الفرح ، أو كالذي أُكره على فعل مُحرَّمٍ ، كأن يُسقى خمرًا بالقوَّة ، فهذا مُخطئٌ في الحقيقةِ لكن مِن غير قصدٍ ولا إرادة ، ولا يأثم مَن كان هذا حاله .
الضرب الثاني : خطأ مرتبط بالإرادة غير مرتبط بالقصد ، كالذي أكل ناسيًا وهو صائم ، فهو مريدٌ للأكل فَعَلَ الفِعْلَ بإرادته مِن غير قصدٍ له ، إذْ هو لا يُريدُ إفسادَ صومهِ فلولا النسيان لما أكل ، وكالذي وطئ امرأةً لقيها في فراشه ليلاً ظانًّا أنَّها امرأتهُ ، فهذا فعَلَ الفِعْلَ بإرادتهِ مِن غيرِ قصدٍ لفعل المحرَّم ، ولولا ظلمة الليل والتباس الأمر لما فعله ، وهذا أيضًا خطؤه مغفور لا يأثم فاعله .
الضرب الثالث : خطأ مرتبط بالإرادة والقصد ، كأن يأكل الإنسان وهو صائم ذاكرًا بإرادته مِن غير إكراهٍ ولا عذرٍ شرعي ، أو لو وطئ أجنبيةً عالمًا بأنَّها لا تحل له ، فهذا آثمٌ عاصٍ .
وخطأ المجتهد في الفتيا يلزم منه فهم حقيقة الاجتهاد ، وكلام الأصوليين في باب الاجتهاد يُحيط بهذا عادةً ، ولعلي بالمناسبة أذكره توطئةً :
فالاجتهاد لغةً : مِن الجهدُ وهو الطاقة ، وهو استفراغُ الوسع لتحصيل أمرٍ شاق .
والاجتهاد اصطلاحًا : استفراغُ الفقيه وسعهُ بحيث تحس النفس بالعجز عن زيادة استفراغه لدَرْكِ حكمٍ شرعي . انظر شرح الكوكب المنير (4/458) طبعة العبيكان .
ولذا نستطيع أن نقول : أنَّ الفقيهَ أو العالم الذي يفقه الواقع ، وحَصَل منهُ الخطأ في واقعةٍ أو حادثةٍ معيَّنة ، فخطؤه في الغالب لا يخلو مِن حالتين :
الأولى : أن يكونَ خطؤه ناتجًا عن الهوى والرغبات والمصالح الدنيوية ، ومَن هذا حاله فهو مِن أصحاب الأهواء الضالين . ولا حاجة إلى التفصيل فيه ، فأمره ظاهر ، والنصوص في الوعيد على هذا أشهر مِن أن تذكر هنا .
الثانية : أن يكون خطؤه عن جهلٍ مركَّبٍ بالقضيَّة أو الحادثة أو الواقعة المعيَّنة بعدما استفرغَ وسعه في طلب الحق . لأنَّ الجهل نوعان : جهلٌ مركبٌ وجهل بسيط ، فالمركب هو تصور الشيء على غير هيئته ، والبسيط انتفاء إدراك الشيء بالكليَّة . وإذا كان الفقيه المجتهد قد أخطأ بعد أن اجتهد في واقعة أو حادثة فلابدَّ أن يكون خطؤه لأسبابٍ شرعيَّة منعت مِن تصور الواقعة أو الحادثة على غير هيئتها الصحيحة ، ومَن هذا حاله فخطؤه مغفورٌ ، وهو معذورٌ مأجورٌ إن شاء الله .
ويمكننا إدراج خطأ المخطئ في فهم واقعةٍ أو حادثة معيَّنَة بأنَّه مِن الضرب الثاني ، والمخطئ في فهم الواقع وفقهه مِن الضرب الثالث .
والله أعلم بالصواب ، وصلى الله على نبينا محمد ،،
كتبه : صالح الجبرين .
رابط المقال : http://albahethalsalafi.blogspot.com...blog-post.html