بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم هيىء لنا الخير، واعزم لنا على الرشد، وآتنا من لدنك رحمة، واكتب لنا السلامة في الرأي، وجنبنا فتنة الشيطان أن يقوى يها فنضعف أو نضعف لها فيقوى.. آمين.
الحمدلله الذي خلق من الماء بشرا، وجعله نسباَ وصهراَ، والصلاة والسلام على خاتم الرسل القائل ( إن أحقّ الشرط أن يوفى يه ما استحللتم به الفروج ) وعلى آله وصحبة أجمعين..
أما بعد: فكثيرا ما يحلو لنا - معشر الرجال – الحديث عن النساء –هذه الفتنة العظيمة – التي حذر منها معلم الناس الخير محمد صلى الله عليه وسلم بقوله (ما تركت فتنة أضرّ على الرجال من النساء )، وتتصدر هذه الأحاديث خاصة لما نبتعد عن أجواء المنزل والعمل..نستلقي في ردهات الاستراحات هنا وهناك فنتحدث في –المنوع المرغوب!- بعرف العوام – زواج المسيار..
وعندها ننقسم في آرائنا أقساماَ ثلاثة :
قسم مؤيد على الاطلاق..وآخر معارض مانع..وثالث يقف على الحياد قلبه مع المؤيدين يصرخ! وعقله مع المعارضين يسرح!
فأردت الوقوف في كلماتي هذه التي عنونتها [ المسار في زواج المسيار ]عند أمور:
تعريف المسيار لغة واصطلاحاَ
شرح صورته وكيفيته وبيان محل النزاع والخلاف
مناقشة أدلة كل فريق بعد عرضها بشكل مبسط
بعض الاضرار المترتبة على هكذا زيجات
بعض الفوائد المترتبة على هكذا زيجات
حكمه الشرعيّ عند المانع والمؤيد ومن قال بالكراهة
الخلاصة المتوصل اليها
ما ذهبت اليه - الخاتمة –
رب يسر يا كريم..
* المسيار لغة : من السير وفي المُضيّ في الارض، يقال سار يسير مسيراً وتسايراً وسيرورةً اذا ذهب . تقول العرب : سار القوم يسيرون سيراً ومسيراً اذا امتد بهم السير في جهة توجهوا لها ، والتساير تفاعل من السير : ومسيار صيغة مبالغة يوصف بها الرجل الكثير السير تقول رجل مسيار وسيار . - لسان العرب –
* المسيار اصطلاحا : لم اقف له على معنى اصطلاحيّ كون هذه اللفظة مستحدثة لا أصل لها – من الناحية الشرعية الفقهية – وهذا ان الزواج في الاسلام كلٌ واحد لا يتجزأ.. وأطلقت هذه التسمية العامة لتميزه عن الزواج الأصلي الزواج المعروف ، واختاروا له هذا الاسم لأن الزوج يسير الى زوجته في أوقات متفرقة ولا يستقر عندها.. وبإمكاننا تعريفه – كما سيأتي معنا – أنه زواج مستوف كل الشروط والأركان تتنازل فيه الزوجة عن شيء من حقوقها كالنفقة أو المبيت..
* صورة زواج المسيار:
يستوفي العقد جميع شروط وأركان الزواج كالقبول والايجاب والشهود والولي والمهر.. ولا يُذكر فيه شرط تنازل المرأة –مثلاُ- عن النفقة أو المبيت او السكن..
بل يكون هذا التفاهم خارج صلب العقد – وهنا وجدت مكمن الخلاف – على ثلاثة أقوال :
> قال أهل الظاهر ببطلان الشرط ، قال ابن حزم في المحلى (كل شرط خالف مقتضى العقد فإن كان في العقد أبطله وإن كان خارج العقد بطل الشرط ) ودليل من قال بهذا الرأي قوله صلى الله عليه وسلم ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) .
> صح العقد وبطل الشرط ، وهو معتمد في مذهب الشافعية ورواية عند الحنابلة ، قال الثوري : ودليلهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) .
> صح العقد وجاز الشرط وهو رواية عند الحنابلة إذ رويّ عن الامام أحمد قوله ( يجب الوفاء بالشرط مطلقا ) وهو قول الأوزاعي وبه قال أصحاب الرأي –الحنفية- وفي مصنف ابن أبي الشيبة عن الحسن البصريّ وعطاء بن ابي رباح أنهما لا يريان بأساً بتزويج النهاريات – وكانوا يسمون مثل هذه الزيجات بالنهاريات لأن اصحابها كانوا يأتون نسائهم نهاراً متى أرادوا ويبيتون عند غيرهن.. وهذا واضح بتجويزهم تنازل المراة عن حقها في المبيت ، والعمدة في ذلك ما ثبت في السنة من أن أم المؤمنين سودة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنهما فكان رسول الله يقسم لعائشة يومين.. ووجه الاستدلال ظاهرٌ وهو جواز تنازل المرأة عن شيء من حقوقها ولو لم يكن جائزاً لأنكره صلى الله عليه وسلم وما قبله وما أسقط يوم سودة ولا أثبت يوماً زائداً لعائشة رضي الله عن أمهات المؤمنين.. وهذا فيه أيضاً جواز عدم العدل بين النساء في المبيت إن قبلن..
واستدلوا بصحة العقد والشرط بأمور عمدتها قوله صلى الله عليه وسلم : (المسلمون عند شروطهم ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن أحقّ الشرط أن يوفى يه ما استحللتم به الفروج ) .
ملاحظة : لقد ذكر أيضا في مصنف ابن ابي الشيبة أن محمد بن سيرين وحماد بن ابي سليمان والزهريّ كرهوا زواج النهاريات.
يتضح بعد هذا الطرح المجمل أمور : أن هذا الزواج استوفى كل الشروط والأركان الشرعية وجوهر الخلاف في أنه هل يجوز الابتداء به يعني اشتراط الرجل على المراة تنازلها عن المبيت او النفقة.. أو اتفاقهما الضمني عليه بحال.. والظاهر ان الادلة الاقوى هي الدالة على جواز الاشتراط ابتداء أو قبول وروده لاحقاً كون هذا الشرط لا يؤثر في صحة العقد ولا يبطل لذاته.. فـ( إن أحق الشرط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج ) او كما قال عليه الصلاة والسلام..
* بعض الاضرار المترتبة على هذا النوع من الزيجات :
> الإخلال بمفهوم الأسرة من حيث السكن والرحمة والمودة بين الزوجين.. وهو إخلال لمتطلبات الزواج الأصلية المتحققة بين الزوجين..
> تحول هذا الزواج لدى بعض الشهوانين الى سوق للمتعة ينتقل فيه الرجل من امرأة إلى اخرى.. والمرأة من رجل لآخر.
> عدم إحكام تربية الاولاد – كثيراً لا غالباً –
> شعور المرأة بحرية زائدة وفراغ يترتب من عدم فرض القوامة عليها بشكل حقيقي مما يؤدي الى سلوكها طرقاً سيئة تضر بها وبمجتمعها..
(هذا مختصر لبعض الاضرار وإلا فالأمر أوسع)
*بعض فوائد وأسباب هذا النوع من الزيجات :
> كثرة عوائق الزواج : كغلاء المعيشة والنفقة.. عدم القدرة على تحمل المسؤلية.. وغيرها
> إعفاف الرجل نفسه والمرأة أيضاً – خاصة لدى الشباب –ويمثل هذا الزواج حلاً لهم..
> كثرة وجود المطلقات والأرامل والعوانس ويمثل هذا الزواج حلاً لهن..
> رغبة الرجال في التغيير ورفض الزوجة الاولى لفكرة التعدد ومشاطرة أيامها ولياليها مع أخرى – ولا حول ولا قوة الا بالله –
> الرجال – جزء منهم – كثيروا التنقل والسفر لتجارة أو لعلم او لغيره.. فيعفون أنفسهم ويتزوجون زواجاً شرعياً صحيحاَ مستمراً في البلد الذي قصدوه ويبقى العقد والرابطة الزوجية قائمة..
(هذا مختصر لأهم الفوائد والأسباب وإلا فالأمر أوسع)
*حكمه الشرعيّ :
> قال بعضهم بجوازه مع الكراهة وعللوا ذلك بأن هذا الزواج لا يحقق الهدف المنشود منه وهو المودة والرحمة والسُكنى وإنما تحقق هو المتعة والانس فقط ! وعدم تحقق الاهداف كلها يبطل العقد ، فكرهوه لأنه حقق جزأً..
> قال آخرون بمنعه وعللوا ذلك بأن الزواج هذا يتنافى مع المقاصد الشرعية للزواج على أركانه الثلاثة : المودة ، الرحمة ، السُكنى ، قال تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة.. ) وزواج لا تتوفر فيه هذه الاركان لا يصح وهو يتنافى أيضا مع قوله جل وعلا : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم ) فالقوامة تقوم بالانفاق وانتفاء الأخير يمنع الاول.. وقالوا هذا الزواج فيه استغلال لحاجة المراة فيتمتع بقضاء الوطر دون تحقيق أهداف الزواج المنشودة..
مناقشة : إن القول بالكراهة أو بالتحريم أو إطلاق أي حكم شرعيّ يحتاج لدليل أي : نص من كتاب أو سنة ، وهذا ما لم نجده عند القولين مع الموافقة التامة على ان هذا الزواج لا يحقق كل الاهداف الاصلية للزواج.. لكن أن نعتبر الاهداف والغايات أصلاً ونبطل الزواج على أثرها وكأنها أركان هذا ما لم يدل عليه دليل نتبعه ، وزيادة أقول لو نظرنا الى كل زوجين اليوم وحققنا بعلاقتهما لوجدنا عند الكثيرين خللاً فإن صح قول من قال بالكراهة أو بالتحريم لوجب علينا التفريق بينهما عند أول إشكال يُفسد المحبة والمودة بينهما !!
وهذا - ليت شعري - ضابط يحتاج لضبط ابتداءً !!
> ومنهم من قال بالإباحة على الاطلاق وسردنا أدلتهم ولعلها الاقوى والله تعالى أعلم..
الخلاصة :
زواج المسيار زواج شرعيّ مستوف الشروط والاركان كلها لا لبسَ فيه..
له من الفوائد الشيء الكثير وله من الاضرار أيضاً نصيب..
بقي لي سؤال لم استطع الفصلَ فيه :
هل نبيحهُ هكذا دونَ تقييد ؟ هل واقعُ المسلمينَ اليوم يسمحُ بذلك ؟
لعلي في مقام تجرء الآن لكنه أمر وقع في القلب وقيده البنان :
( لا يحدث بهذا الزواج إلا الخاصة – خاصة من يحتاجه أقصد – دون العامة حتى لا يكون لهم فتنة فيحلوا لضعاف النفوس والمرضى العبث..)
ما كان من صواب فمن الله.. وماكان من خطأ فمن نفسيَّ والشيطان..
كتبهُزَكَريا أبو يَحيَى الشَاميّ الطَرَابلسيّ25صفر1431هـ