الحمد لله وصلَّـى الله وسلَّم على سيدنا محمدٍ رسول الله وعلى آل بيته وصحابته والتابعين , وبعد:
فإنَّ شأنَ الحِـفظِ وضبطَ المُـتونِ والمنظوماتِ وكُـلِّ ما يُستَـعانُ بهِ على إدراكِ حقائقِ التَّـنزيل مِمَّـا أجمعَ على طلَـبِـهِ وزَكـاتهِ برُّ طلبةِ العلمِ ونقيضُـهُ , وقد ضاقَ أقوامٌ ذرعاً بالحفظِ وضربوا الذكرَ صفحاً عن المتونِ وتنادوا بحناجرَ شتَّـى وصوتٍ واحدٍ يدعو إلى نبذها لأنَّـها في زعمهم مَشْغَـلةٌ عن الوحيينِ , ورحم اللهُ حماد بنَ سلمةَ القائلَ (مَن طَلبَ الحَديثَ ولمْ يعلمِ النَّحوَ أو قالَ العربيَّةَ فهُو كمِثلِ الحمَارِ تُعلَّقُ عَليهِ مِخلاَةٌ لَيسَ فيهَا شَعيرٌ) وابنَ الأنباريِّ القائلَ (وجَاءَ عنْ أصْحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّمَ وَتابِعِيهِمْ رِضْوانُ اللهِ علَيهِم، مِنَ الاحتِجَاجِ عَلَى غرِيبِ الْقُرآنِ وَمُشكِلهِ باللُّغَةِ والشِّعرِ مَا بيَّنَ صحَّـةَ مذْهَبِ النَّحْويِّـينَ في ذلك، وأوْضَحَ فَسادَ مذهَبِ منْ أنكرَ ذَلَكَ عَليْهمْ) , ومن زعمَ المقدرةَ في عصرنا على اقتفاءِ هذه الآثارِ الطيبةِ لأسلافِ الأمَّـةِ من غيرِ متنٍ أو منظومةٍ فهو أَفْلَسُ مِنِ ابْنِ الْمُذَلَّق وأفرغُ من فؤادِ أمِّ مُـوسَى.!
وبرغمِ ضيقِ الوقتِ وكثرةِ الصَّـوارفِ فإنِّـي طُفتُ طوافاً سريعاً ببعضِ أمَّـهاتِ ودواوينِ العلمِ التي يهتدي بها الحيرانُ ويروى الصديانُ لأستبينَ ما يراهُ أسلافُ الأمَّـةِ البررةِ من أهمِّـيةِ حفظِ المُتون العلميَّـةِ وإنشائها وتدارسها وشحن الحافظةِ بكلِّ نافعٍ وأُثبِتَ في ما وقفتُ عليهِ ثناءَ بعضهم على بعضٍ بغزارة المحفوظِ من غير اشتراطِ أن يكونَ المحفوظُ وحياً صِرفاً من عند اللهِ, ولم ألتفت في ذلك لصحيفةٍ سيَّـارةٍ أو أستكثرْ برفقةٍ ميَّـارة , بل قنِـعتُ بأخبارِ الماضينَ التي ينفحُ منها الطيبُ , ويطيبُ واديها الخصيبُ , ويلَـذُ عيشُـها الرَّطيب:
فخرجتُ من هذا الطَّـوافِ بجُـملَـةٍ = يُـطوَى بها الضلِّـيلُ أو يَتضاءَلُ
.
وقبلَ البَـدءِ في المقصُـودُ أهـدي لحفَـظةِ المُـتُـونِ هذه الصُّـورة المُعَـبِّرةَ الدقيقةَ لكثيرٍ من أدعـياءِ العلمِ والمعرفةِ , والتي يقول فيها محمد بنُ عبد الله المؤدِّبُ البصريُّ رحمه الله:
رُبَّ إنسَـانٍ مَلَا أَسْفاطَـهُ = كُتُبَ العِلْمِ يَعُدُّ وَيَحُطّْ
فَإِذَا فتَّشْتَـهُ عَن عِلْمِهِ = قَالَ عِلمِي يَا خَلِيلِي فِي السَّفَطْ
بِكَرَارِيسَ جِيَادٍ أُحْرِزَتْ = وَبِخَطٍّ , أيِّ خَطٍّ , أيِّ خَطّْ
فَإِذَا قُلتَ لَهُ: هَاتِ إِذَنْ ! = حكَّ لحَْيَـيْهِ جَمِيعًا وامْتَخَطْ
وهذا في عهده رحمه الله قبل تسعمائة عامٍ , أمَّا اليومُ فما عادوا يمتخطونَ أو يحكُّـونَ بل يتنحنحونَ ويكحُّـونَ فيُمَخرقونَ ويتكلَّـفونَ ما لا يطيقونَ ثمَّ لا يتوبونَ وَلاهُم يذَّكَّـرونَ.
وعَـوداً على غَـرَضِ المَـوضوعِ الذي سيقَ لهُ فهذا مَـسردُ الفوائدِ - التي اختطفتُها في تطوافٍ عاجلٍ – المبينة لحقيقة الفارقِ المانعِ من مباشرة الاستمداد (الكليِّ) من الوحي دونَ استعانةٍ بغيره , والمؤكِّـدةِ على أنَّ حفظَ العلمِ متونِـهُ ومنظوماتهِ ومُدَوَّناتهِ على اختلافِ أنواعها سُـنَّة من مضى من السلَفِ , وعُـدةُ من بقي من الخلفِ , ولا يجافيها إلا من طبعَ عليهِ الجهلُ أو الغُرورُ أو هُما معاً خاتمَ التَّـلفِ , وفي ثنايا هذا المسردِ تجدُ التوكيدَ اللفظيَّ والمعنويَّ على أنَّ من العلوم الشرعية ما يستحيلُ على الطالبِ أن يجوزَ على صراطه حتى يستعصمَ في ذلكَ ويستمتنَ بنظمٍ ارتضتاهُ الأئمةُ وتلقَّـتهُ عنهمُ الأمَّـة , وتجلَّت به للناظرِ حقيقة مناهجهم السامقةِ التي شيَّدوها
.
مسردُ الفوائد:
1-لا يكَـادُ يجهَـلُ منتسبٌ للعلمِ أنَّ الله تعالى شاءَ للأمَّـةِ أن تعيشَ أطواراً تضعفُ فيها الهممُ طوراً بعدَ طورٍ ويتَّـسعُ البونُ بين اللاحقِ والسَّـابقِ في كل ساعةٍ سبيعينَ ذراعاً , وإذا عرَفَ المُزهِّـدونَ ذلك أو عُـرِّفُـوهُ فلن تسعهم حيلةٌ في إنكـار أنَّ إنزالَ أهل هذا الزمنِ منزلةَ الأقحـاحِ الأوائلِ في استمداد المعارفِ مباشرةً عن طريق الوحيِ والتواصي بقفز هذه القرونِ الطويلة – الودودِ الولودِ لمتونِ العلمِ على اختلافِ شُعبهِ , والتي شهدتْ شهادةَ العدلِ الضَّـابطِ على عُمقِ الهُـوَّة بيننا وبين اللسان العربي مع استحكـامِ العُجمةِ - ضربٌ من خيالٍ أو الياءُ موحدَةٌ , ذلكَ أنَّ وسائطَ التحصيل العلميِّ عندهم لم تكن تتعدَّى المشافهةَ , بخلافِ واقعنا اليومَ فقد بلغتْ فيه اللغةُ مبلغاً مدهِـشاً لا يخفى معهُ أثَـرُ التداعياتِ التي طالتها ونالتها منذ عصر التنزيل مما جعلَ من لغةِ ذلك العصرِ عبئاً ذهنياً ومعرفياً تنوءُ به النُّـخبةُ أولو الشهاداتِ والمراكز العلمية فضلاً عن العامَّة والدَّهماء , فمن تأمَّـلَ هذه القضيَّـةَ ودرسَ أبعادَها وطالعَ امتدادها التأريخيَّ لم يعد مرتاباً في أنَّ المُتونَ العلميَّـةَ إنَّـما هي قسطاسٌ مستقيمٌ يستضاءُ بهِ الحلَك ويُنالُ به الظَّفرُ والدَّركْ.
2-لو تأمَّـلَ المُزهِّـدونَ أخبار الصاحبينِ العُمَرَينِ رضي الله عنهما لوجدوا أنَّ عملَهما هو أوَّلُ تأسيسٍ لوضعِ المصنَّـفاتِ وتقعيد العلمِ صيانةً للوحي وإن كانَ جهدُهما المبرور غيرَ مباشرٍ فقد رُوي جمعُ الصديقِ للناسِ وقولُهُ لهم (إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا), وتأمَّل قوله (والناس بعدكم أشد اختلافا) ففيهِ إلماحةٌ إلى مشقَّـة التثبُّـت وصيانة العلمِ عن الخلطٍ فيه كلما تقدمت بالناس أعصارهم وتناءت أمصارهم , ولا يخفى حديث عمرَ مع أبي موسى واستشهاده الأنصارَ على سماعِ حديث الاستئذانِ وأبو موسى أبو موسى رضي الله عن الجميع.
ومن أجل ذلكَ فإنَّـهما - رضي الله عنهما - بعد انقطاعِ الوحيِ أخَـذا يتثبَّـتانِ من الأخبار ويتحرَّيَـان عدالَـةَ النَّـقَلَـةِ وتابعهم على ذلك بقيةُ الصحابة وتابعوهم مع ملاحظة أنَّ الأمرَ يتَّـسعُ بمرور الزَّمن وتكاثر النَّـاسِ ومَشَـقَّـةِ انحصار العلمِ في بلدٍ حتى احتِيجَ إلى تغيير وسائلِ هذا القصدِ الأسمى إمَّا بالكتابة أو التعديلِ أو الإشهـادِ على الروايةِ طلباً لغايتهما رضي الله عنهما حتى نَشـأَ عن ذلكَ ما نرِثُـهُ نحنُ اليومَ من مصنفاتٍ ومطوَّلاتٍ ومُختَصَـراتٍ ومتونٍ ومنظوماتٍ , هذا فيما يتعلق بسبب اقتصار الأوائل على الوحيين وزيادة من بعدهم على ذلك متوناً ومنظوماتٍ ووسائلَ يحصِّلونَ بها ما نالهُ أولئك وعزَّ علينا بسبب امتداد الزمان و أمَّا فيما يتعلقُ بسُنَّـة الحفظ فهاكَ هذه الأخبار:
3-الطاهرةُ المُطَـهَّـرةُ أم المؤمنينَ عائشة رضي الله عنها كانت إلى جانب أخذها الوحيَ من ينبوعهِ الدفَّـاقِ ومجراهُ الرقراق تَغذُو حافظَـتها بلِـبانٍ لا تُحصَى لمعارفَ تعينُ على إعلاء صرحهِ وفهمه وشرحهِ , ولا بلغَ بأحدٍ تجَـنِّـيهِ أن يجعلَ هذا القدرَ الهائلَ من محفوظاتها وسيلةً للقدحِ , وهي تستخدمُ مجموعَ ذلكَ في خدمةِ الوحيينِ وتبيانهما للنَّـاسِ , قال عروةُ
وعن خالته:
لقد صحبت عائشة، فما رأيت أحدا قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بكذا، ولا بكذا، ولا بقضاء، ولا طب، منها , فقلت لها: يا خالة، الطب، من أين علمته ؟ فقالت: كنت أمرض فينعت لي الشئ، ويمرض المريض فينعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض، فأحفظه
(انظر سير أعلام النبلاء2/183).
4-هذا حبرُ الأمَّـةِ وترجمانُ القرآنِ ابنُ عبَّـاسٍ رضي الله عنهما كـانَ مِثَجَّـةً كثيرَ العلمِ وضمَّ إلى الوحيينِ شيئاً لا يُحصى من المتونِ المتمثِّلَةِ في الشعر الجاهليِّ - وهو– حاشاهُ - غيرُ هازئٍ بنفسهِ لأنَّهُ يرى حفظَ الشعرِ استعانةً على فهم القرآنِ – يقول عنهُ الحافظُ البغوي رحمه الله (دعا عمرَ بنَ أبي ربيعة المخزومي فاستنشده القصيدة التي قالها فقال:
أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكرُ ... غداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجِّرُ
فأنشده ابن أبي ربيعة القصيدة إلى آخرها، وهي قريبة من سبعين بيتًا، ثم إنَّ ابنَ عباس أعاد القصيدة جميعها، وكان حفظها بمرة واحدة). انظر تفسير البغوي لآخر سورة الشعراء , وأخرجَ عنهُ ابنُ سعدٍ والبلاذريُّ والقرطبي في مقدمة التفسير: أنَّـهُ كانَ كثيراً ما يُسألُ عن معنى الآيةِ فيقولُ رضي الله عنهُ : (هو كذا وكذا أما سمعتم الشاعر يقول كذا وكذا).
5-والإمامُ الجبلُ الجهبذ طـاووس بنُ كيسـانَ كانَ من حرصِـهِ على العلمِ يعُـدُّ حروفَ الحديثِ الذي يُحدِّثُ النَّـاسَ بهِ , ولاشكَّ أنَّـهُ يفعلُ ذلكَ تديُّـناً لا هزلاً وإن كانَ عدُّ حروفِ القرآنِ فضلاً عن السنَّـةِ لا يراهُ كثيرونَ ذا بالٍ. (انظر السير5/46)
6-الإمامُ البخاريُّ رحمهُ الله حفظَ كُتُبَ ابنِ المباركِ ووكيعٍ وهو دونَ السادسَةَ عشرةَ من عُمره. (تاريخ بغداد2/7 , وتهذيب الكمال3/1170) , وكـانَ رحمهُ اللهُ يعتني بشحن حافظته ويملأها بكثيرٍ من المحفوظات التي قد يراها بعضنا اليوم عبثاً كحفظه لقصصِ التأريخِ وحكاياته ورجالاته حتـى قال عن نفسهِ وهو يتحدثُ عن التاريخ الذي صنَّـفهُ بإملاء حافظته في الليالي المقمرة بجانب روضةِ الجنَّـةِ بالمدينة: ((وقَـلَّ اسمٌ في التَّـاريخِ إلاَّ ولهُ عندي قصَّـةٌ إلاَّ أنِّي كرهتُ أن يَطُـولَ الكِتابُ)) , انظر: تاريخ بغداد2/7, وتذكرة الحفاظ2/122.
7-وكـانَ الإمامُ ابنُ المديني رحمه الله تعالى يشغَـلُ حافظَـتهُ ويستودِعُـها تواريخَ السَّـماعِ من شيوخهِ ولا يعُـدُّ ذلكَ مهزلةً مع أنَّـهُ لا يغني في صحةِ الأخبارِ شيئاً فيقول عن نفسه رحمه الله وسماعه من حفصِ بن غياثٍ رحمه الله (سمعتُ هذا من حفصٍ سنةَ سبعٍ وثمانينَ ومائةٍ) . (انظر: الكفاية 115).
8-وطـالعَ القاضي عياضُ رحمه الله تعالى كتابَ مقاماتِ الحريريِّ في ليلةٍ ولم يرها منقصةً إذ أمضاها في حفظِ المقامات.! انظر(جهود القاضي عياض للبشير الترابي 119).
9-المُفَـسِّرُ الحافظُ ابنُ كثير رحمهُ اللهُ كانَ يحفظُ التنبيهَ للشيرازي ومُختصَرَ ابنِ الحاجبِ (البداية والنِّهاية 14/107) , ويقولُ عنهُ الحافظُ العراقي وقد سُئلَ عن أربعة رجالٍ أيهم أحفظُ (وأحفَظُـهم للمتونِ والتَّـواريخِ ابنُ كثيرٍ). (طبقات الحفاظ للسيوطي 533).
10-الإمامُ الدَّارقطنيُّ رحمه الله تعالى كان يُملي كتابَ العللِ من حفظهِ وعجب لذلك أكابر حُفَّـاظِ الدنيا كالذهبيِّ (السير 10/523) .
11-قَالَ يحيَ ابنُ مجاهدٍ رحمه اللهُ: كنتُ آخُـذُ من كُـلِّ علمٍ طَـرفاً فإنَّ سماعَ الإنسانِ قوماً يتحدَّثونَ وهُـو لا يدري ما يقولونَ غُمَّـةٌ عظيمة (رسائل ابن حزم مراتب العلوم 72).
12-الإمامُ ابنُ مالكٍ صاحبُ الألفيَّـةِ حفظَ خمسةَ شواهدٍ يومَ وفاتهِ مع أنَّـهُ إمامٌ في القرآنِ وعالمٌ بالقراءاتِ (الفَلاكَـةُ والمفلوكونَ للدَّلجي 69).
وهـذا الكتابُ نفيسٌ جداً وفيه من أخبار الأئمَّةِ وأحوالهم سلوةٌ لطلبة العلمِ الذينَ يُزدَرَوْنَ لإملاقهم ولأنَّ واحدهمْ لا يجدُ جديدَ الرياشِ ولا يتكئُ على وثير الفِراش - وغيرهِ من حملة العلمِ الذينَ تقَلَّصت عنهم دنياهم ولم يحظوا منها بطـائلٍ.
13-الإمامُ أبو بكرٍ ابنُ الأنباريِّ -إمامُ الوقف والابتداء والقراءات والعربية -رحمه اللهُ كانَ يحفظُ كلَّ أسبوعٍ عشرة آلاف ورقة. (الفَلاكَـةُ والمفلوكونَ للدَّلجي 131).
14-محمَّـدُ بن عبد الواحد الزاهد (غلامُ ثعلبَ) كانَ أغلبُ تصانيفهِ من حفظِـهِ حتَّـى أنَّـهُ أملى في اللغةِ ثلاثينَ ألفَ ورقةٍ. (الفَلاكَـةُ والمفلوكونَ للدَّلجي 100).
15-لِـسانُ الدينِ ابن الخطيب الغرناطيُّ رحمه الله حينَ وصَفَ الإمامَ البلنسيَّ صاحبَ مبهماتِ القرآنِ قال عنهُ (مُكبٌّ على العلمِ , حَريصٌ عَلَى استِفادَتِـهِ , قائمٌ على العَـرَبيَّةِ والبَيَـانِ , ذاكرٌ الكثيرَ من المَـسائلِ , حَافظٌ مُتقنٌ ..) انظر الإحاطة لابن الخطيب 3/38.
16-إنَّ مـن العُـلومِ المُستغلقَـةِ على المهوِّنينَ من قضيَّـةِ حفظ المتونِ علمَ القراءاتِ فهم أبصرُ بالسَّـاعة أيَّـانَ مُرسـاها منهم بهِ.!!
وهـذا العلمُ الذي هو أشرفُ العُـلومِ وإمامُـها ومُقَـدَّمُـها لا يمكنُ الإلمـامُ بهِ على حالٍ مُعتَبَـرةٍ حتَّـى يحفظَ باغيهِ متناً منثوراً أو منظوماً , وسببُ ذلكَ هو نسخُ عثمانَ بإجماعٍ من الصحابةِ بعضَ الأوجهِ القرائيَّـةِ من باب عدم الترخصِ كما يراهُ الطبريُّ , وهذا ما ألزم القراءةِ بمضمَّـنِ المصحف الإمامِ , ثمَّ تلا ذلك تدوين الأوجه التي يحتملها هذا المصحفُ حتى سبَّعَ ابنُ مجاهدٍ وتنامت الطرق وتوافرت الرواياتُ والأوجهُ مما حدا بالعلماء أن يضعوا مروياتهم عن الأشياخ الماضينَ في مصنفاتٍ تنضبطُ بها الروايةُ ويؤمنُ فيها الخلطُ والتدليسُ , وهذا ما جعلَ القراءة على ما رواهُ إمام من الأئمة المعتَبرين ممن تواترت صدارتهم عند الأمَّـةِ يقتضي العلمَ بمضمن كتاب من كتبهم أو كتب الثقاتِ النَّقَـلة عنهم , الأمرُ الذي أمس يقتضي من القارئ حفظ طرق ذلكَ الإمامِ والإلمامَ بها درايةً أو روايةً أو هما معاً حتى يأمن التباسَ الثابتِ بغيرهِ ويستوثقَ فلا يزيد ولا ينقص خصوصاً عند إدراكِ أن بعضَ أئمة الإقراء بلغت الطرقُ المرويةُ عنهُ عدة مئات , وهذا الأمرُ وأمثالهُ التي لا تحصَرُ تبقى أمامهُ دعوى مباشرةِ الاستمدادِ من القرآنِ عهناً منفوشاً.
17-لقد أخطـأَ ولا يزالُ يخطـئُ بعضُ النَّـاسِ الذين يحسبونَ كثيراً من التصانيف والتآليفِ مَـشغَلةً عن الوحيينِ , مع أنَّـها في حقيقة أمرها خادمةٌ ومعينةٌ تجعلُ القرآنَ والسنَّـةً فلكاً فسيحاً تدورُ في أرجائهما وتنطلقُ منهُ جاعِلتَـهُ مُرتكزاً للبحوث والنَّـشاطِ العلميِّ , ولا غرابةَ أن يوجَدَ ذلكَ مؤخَّـراً ويُفقَـدَ في عصر النبوةِ وما تلاهُ , لأنَّ ما كانَ مُدرَكا بالبديهةِ يومئذٍ أصبحَ قواعدَ ومسائلَ ومُعضِلاتٍ فيما وراءَ تلكَ العصور الزاهية , ومن أمثلةِ ذلكَ كتُبُ إعراب القرآنِ التي أصبحَ فهمُ القرآنِ على حقيقتهِ متوقفاً عليها مع أنَّ عصرَ التنزيلِ وما تلاهُ لم تكن ثمَّـةَ إليها حاجةٌ, وكذلك كتُبُ إعراب الحديث النبوي التي مسَّت إليها حاجةُ المسلمينَ عند فُـشُوِّ اللحنِ واستحكام العجمة , فأملى واجبُ تنزيهِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ وصحابته عن اللحنِ تأليفها وشرحها وتدريسها وإدراجها في سُلَّم التعليم خدمةً للكتاب والسنةِ.
18-إنَّ أشياخَ هذه الأمَّـةِ وسادتها (الصحابة) والمقدَّمَـانِ عليهما أبا بكرٍ وعُمرَ - رضي اللهُ عن الجميع - همُ الذينَ وضعوا أوَّل بذرةٍ للمتُـونِ , وتمثلت هذه البذرةُ في تحريهم استصدار الحكـام الشرعية عبر الوحيينِ , ثمَّ اللجوءُ بعد ذلك إلى اجتهادِ بعضهم ومقدَّميهم في العلمِ , ولذلكَ كانَ عُـمرُ يتحرَّى أقضيةَ أبي بكرٍ واجتهادَهُ , وهكذا كلُّ لاحقٍ يتحرَّى سابقهُ علماً وصُحبةً وفقها في الدينِ حتى تكونت للتابعينَ ثروةٌ فقهيةٌ ضحمةٌ بسبب اختلافِ وتعدُّد آراء الصحابة ومذاهبهم الذينَ لا يمكنُ لعاقلٍ أو غيرهِ أن يُزايدَ في أنهم أحقُّ العالمينَ بالقرآن والسنةِ وأسعدهم بهما.
19-وربَّـما تساءلَ بعضُ البُسطاءِ واستغلقَ عليه استيعابُ تفرُّقِ الصحابة العلميِّ والفقهيِّ مع أنَّ القرآن بين أيديهم والسنة كذلك , وجوابُ ذلك أنَّ أسباب الاختلافِ الفقهي الذي كوَّن بذرة التمذهب ومن ثمَّ المتون والمنظوماتِ يعودُ إلى أمورٍ من أهمِّها:
الاختلافُ في فهم المفردة اللغوية , والذي يسعهُ اصطلاحُ العرب واستعمالهم , كاحتمال اللفظِ الحقيقة والمجاز أو ترددهُ بين معنيين مُشتَركَيْن.
الاختلافُ في الجمعِ بين ما ظهرَ تعارضُـهُ من نصوصٍ كما في عدةِ الحاملِ المتوفى عنها زوجُـها.
لاختلافُ في العلمِ بأسباب النزول والظروف المحيطة بالآيةِ مما يزيدُ القارئَ والفقيهَ بصيرةً في الاستدلال بها.
هـذا وأسأل الله أن يعين ويباركَ , وأرجو من كل من يستطيعُ المشاركةَ والتقويمَ والزيادةَ أن يتفضَّلَ فيُشارك , والله تعالى أعلمُ.