الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أما بعد:
فاعلمْ أنّ منبرَ النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم –مِنْ حيث صفتُه- كان صغيرًا وقصيرًا ومتواضِعًا، صُنِعَ مِن خشبٍ لا يتعدّى ثلاثَ درجاتٍ، وكان يقف على الدّرجةِ التي تلي المستراحَ(١)، وكان بين موضعِ منبرِه وبين الحائطِ قدْرُ ممرِّ شاةٍ، فلم يكن منبرُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم –مِن جهةِ صفتِه وموضعِه- ليقطعَ صفًّا أو يُبَعِّدَ بين المصلّين أو يُؤْذِيَهم، تَتَحَقَّقُ معه سنّةُ بروزِ الإمامِ في الصّلاةِ والخطبةِ؛ لأنّ رؤيةَ المصلّين له أشدُّ تأثيرًا على النّفسِ وأبلغُ لموعظتِه وتوجيهِه، كما يتحقّق معه أيضًا سنّةُ الاستقبالِ، ويدلّ على ذلك حديثُ أنسِ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه «أَنَّ رُومِيًّا صَنَعَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْبَرًا لَهُ دَرَجَتَانِ، وَيَقْعُدُ عَلَى الثَّالِثَةِ»(٢)، وحديثُ ابنِ عبّاسٍ رضي اللهُ عنهما قال: «وَكَانَ مِنْبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصِيرًا، إِنَّمَا هُوَ ثَلاَثُ دَرَجَاتٍ»(٣)، وحديثُ جريرٍ رضي اللهُ عنه قال: «فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ صَعِدَ مِنْبَرًا صَغِيرًا»(٤)، وحديثُ سلمةَ بنِ الأكوعِ رضي اللهُ عنه: «كَانَ بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الحَائِطِ كَقَدْرِ مَمَرِّ الشَّاةِ»(٥).
هذا، ولم يقتصرِ النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم على الوعظِ عليه يومَ الجمعةِ فحسْبُ، بل كان رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم يستعمل مِنْبرَه وسيلةً للتّعليمِ والإرشادِ وبيانِ الأحكامِ ونصحِ النّاسِ في سائرِ الأيّامِ حالَ اقتضاءِ الحاجةِ على ما هو ثابتٌ في السّننِ، وبقي منبرُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم على هذه الحالِ حتّى بعد عهدِ الخلفاءِ الرّاشدين.
قال النّوويُّ -رحمه الله-: «أجمع العلماءُ على أنّه يُستحبّ كونُ الخطبةِ على منبرٍ للأحاديثِ الصّحيحةِ التي أشرْنا إليها، ولأنّه أبلغُ في الإعلامِ، ولأنّ النّاسَ إذا شاهدوا الخطيبَ كان أبلغَ في وعظِهم»(٦).
ثمّ أحدث النّاسُ في صفةِ المنبرِ وشكلِه وموضعِه وعددِ درجاتِه ممّا هو معلومٌ مخالفَتُه للهديِ النّبويِّ، فأقاموا المنابِرَ الطّويلةَ العاليةَ ذاتَ الدّرجاتِ الكثيرةِ التي تقطع الصّفَّ وتحجب الرّؤيةَ عنِ المصلّين وتُؤذيهم، وفي الحديثِ: «كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا»(٧).
واتّخذ بعضُهم منبرًا له سقفٌ مرفوعٌ وعليه قبّةٌ شامخةٌ، وله بابٌ يدخل منه الخطيبُ لوحدِه ويُغْلَق مِن وراءِه، وقلّد آخَرون أهْلَ الكتابِ مِنَ اليهودِ والنّصارى في عاداتِهِمُ الدّينيّةِ، فجعلوا منابرَهم محشُوّةً في وسطِ الجدارِ المقابِلِ للمصلّين على هيئةِ شرفةٍ أو نافذةٍ يُطِلُّ منها الخطيبُ على الجميعِ، وهذا –بغضِّ النّظرِ- عما زِيدَ فيه مِنْ بِدَعِ الزّخرفةِ والنّقوشِ وفَرْشِ دَرَجِه والزّيادةِ في عددِها والسّتائرِ والأعلامِ، وغيرِ ذلك مِن أنواعِ مُحْدَثاتِ الأمورِ(٨).
أمّا الاحتجاجُ بأنّ منبرَه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم مِنَ الأدواتِ المقترِنَةِ بفعلِه، ولا يلزم مِنَ التّأسّي به في فعلِه الاستعانةُ بأدواتٍ مماثِلةٍ، مثل مسجدِه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: بُنِيَ مِنْ طينٍ وسعفِ النّخيلِ، ولا يلزم في بناءِ المساجدِ الاستعانةُ بجنسِ الموادِّ المستعمَلةِ، فكذلك منبرُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم، فإنّ الغرضَ مِنِ اعتلائِه في الخُطَبِ هو الإسماعُ، وذلك يكون بالعلوِّ على المكانِ الذي يكون فيه السّامعُ عادةً، فشأنُه كالأذانِ الذي يحتاج إلى موضعٍ مرتفِعٍ ليكونَ أسمعَ، فالغرضُ –إذنْ- مِنِ اتّخاذِ المنبرِ إنّما هو تحقيقُ مصلحةِ الإسماعِ بغضِّ النّظرِ عن موادِّه المركبّةِ وأدواتِه المستعملةِ في زمانِه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم، ومتى احتيج إلى منبرٍ مغايِرٍ في شكلِه ونمطِه وعلوِّ درجاتِه جاز ذلك تحقيقًا للمصلحةِ، وقد زاد مروانُ في خلافةِ معاويةَ رضي الله عنه على منبرِ النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم ستَّ درجاتٍ مِن أسفلِه، وقال: «إنّما زِدْتُ فيه حين كَثُرَ النّاسُ»(٩)، ونقل أنّ معاويةَ رضي الله عنه هو أوّلُ مَنْ بلغ بدرجاتِ المنبرِ خمسَ عشرةَ مرقاةً(١٠).
فجوابُه: إذا تقرّر أنّ الأصلَ في التّأسّي به صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم في فعلِه أنّه لا يقتضي الاستعانةَ المثليّةَ بالأدواتِ المقترِنَةِ بفعلِه، فإنّ ذلك مشروطٌ بما إذا لم يَقُمْ دليلٌ أو اقترن به ما يبيّن أنّه مقصودٌ لغرضٍ شرعيٍّ، فإنّه يصبح –حالتئذٍ- مطلوبًا –شرعًا-، فموافقةُ النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم لتميمٍ الدّاريِّ رضي اللهُ عنه حين قال له: «ألا نتّخذ لك منبرًا يحمل عظامَك؟» قال: «بَلَى»، فاتّخذ له منبرًا(١١)، وكذا إقرارُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم لذلك المنبرِ والارتقاءُ عليه والاستنادُ إليه في الخُطبِ يدلّ على مطلوبيّةِ المنبرِ بالأوصافِ المُقَرِّ عليها لعمومِ الأمرِ بالاقتداءِ به صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم واتّباعِ سنّتِه، لذلك بقي المنبرُ النّبويُّ في عهدِ الخلفاءِ الرّاشدين على حالِه بأوصافِه جميعًا بما في ذلك كونُه ذا ثلاثِ درجاتٍ مع ازديادِ عددِ المصلّين وكثرةِ الوافدين على مسجدِه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم، ناهيك عنِ الاستعانةِ في الخطبِ بمنابرَ ذاتِ أوصافٍ منهيٍّ عنها: إمّا لأجلِ ما فيها مِنَ التّشبّهِ باليهودِ والنّصارى في خصوصيّةِ منابرِهم وعاداتِهم الدّينيّةِ، وإمّا لتضمُّنِها النّقوشَ والسّتائرَ والفُرُشَ وغيرَها؛ لورودِ التّصريحِ بالنّهيِ عن زخرفةِ المساجدِ، والمنبرُ مِن خصوصيّاتِ المسجدِ، وإمّا لترتُّبِ مضارٍّ على المصلّين بوجودِ أوصافٍ منهيٍّ عنها كقطعِ الصّفوفِ وحجْبِ الرّؤيةِ عنِ المصلّين ونحوِ ذلك، وتعلُّقُ أحدِ الأوصافِ بالأدواتِ المستعانِ بها على الخطبةِ يُكْرَهُ، فما الظّنُّ بمَنِ اجتمعتْ عنده كلُّ الأوصافِ المنهيِّ عنها؟
أما نسبة الزيادة في عدد درجات المنبر إلى معاوية رضي الله عنه فمما لا يثبت عند أئمة الحديث(١٢).
أما الاستدلال بالمصلحة فمن ضوابطها أن لا تكون مصادمة لنص أو إجماع، وأن تعود على مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة(١٣)، وأن لا تعارضها مصلحة أرجح منها أو مساوية لها، وأن لا يلزم من العمل بها مفسدة أرجح منها أو مساوية لها(١٤).
فالحاصلُ أنّ عمومَ المنابرِ المحدثةِ –فضلاً عن مخالَفتِها الظّاهرةِ لهديِه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم في صفةِ منبرِه- إلاّ أنّها تتجلى فيها سنّةُ اليهودِ والنّصارى في بِيَعِهم وكنائسِهم، وتختفي فيها مظاهر سنية كثيرة كبروزِ الإمامِ، والتّعليمِ وبيانِ الأحكامِ سائر الأيام، واستقبالِ الناسِ الإمامَ، والتّحليقِ عليه وغيرِها، فحَرَمُوا أنْفُسهم مِنْ هذا الخيرِ كنتيجةٍ حتميّةٍ مرتَّبةٍ على مخالَفةِ سنّةِ النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم.
فالأصلُ أن يقتدي النّاسُ بسيّدِ الورى محمّدٍ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم بما في ذلك إعدادُ منابرِهم وتهيئتُها بما يُشبه منبرَه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم، ذلك لأنّ أجلى فائدةٍ تحصيليّةٍ ينتفع بها المقتدي به إنما هي اتّباعُ النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم والارتباطُ بسنّتِه اعتقادًا وقولاً وعملاً، وأعظمُ ضررٍ يكمنُ في مخالَفةِ هديِه وسلوكِ طريقِ الحوادثِ والبِدَعِ، وَقد جاء في الحديث «أَنَّ أَحْسَنَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍِ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ»(١٥).
وآخِرُ دعوانَا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 23 شوال 1431 ﻫ
الموافق ﻟ: 02 أكتوبر 2010م
١- المستراح: هو أعلى المنبر الذي يقعد عليه الخطيب ليستريح قبل الخطبتين حال الأذان وبينهما وهي السنة.
٢- أخرجه الدارمي في «سننه» (1/ 32) باب ما أكرم النبي صلى الله عليه وسلم بحنين المنبر، وابن خزيمة في «الجمعة» (3/ 139) باب ذكر أن موضع قيام النبي صلى الله عليه و سلم في الخطبة، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (5/ 206).
٣- أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 268) رقم (2419)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 416)، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ«مسند أحمد»(4/ 136).
٤- أخرجه مسلم في «الزكاة» (1/ 452) رقم (1017).
٥- أخرجه أبو داود في «الصلاة» (1082) باب موضع المنبر. وصححه الألباني في «الإرواء» (3/ 78).
٦- «المجموع» للنووي (4/527).
٧- أخرجه ابن ماجه في «إقامة الصلاة والسنة فيها» (1002) باب الصلاة بين السواري في الصف، من حديث قرة بن إياس المزني رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/ 655).
٨- انظر: بدع الجمعة في «الأجوبة النافعة» للألباني (66)، و«الثمر المستطاب» له (1/413).
٩- «فتح الباري» لابن حجر (2/ 399).
١٠- «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 157)، «التراتيب الإدارية» للكتاني (2/440).
١١- أخرجه أبو داود في «الصلاة»، باب في اتخاذ المنبر رقم (1081)، والبيهقيّ في «السّنن الكبرى» في «الصلاة» (3/ 195) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، باب مقام الإمام في الصلاة، وصحّحه ابن حجر في «فتح الباري» (2/ 490) وقال: «إسناده جيد»، والألباني في «السّلسلة الصّحيحة» (1/ 624).
١٢- انظر: «الأجوبة النافعة» للألباني (67).
١٣- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (11/343).
١٤- «المصالح المرسلة» للشنقيطي (21).
١٥- أخرجه النسائي في «صلاة العيدين» (1578) كيف الخطبة، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «الإرواء» (3/ 73).