لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو ، وهاجر معه رجل من قومه ، فمرض فجزع ، فأخذ مشاقص له فقطع بها أصابعه فشخبت يداه حتى مات ، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنة ، ورآه مغطيا يديه ، فقال : ما صنع بك ربك ؟ فقال : غفرلي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : مالي أراك مغطيا يديك ؟ قال : قيل لي : لن نصلح منك ما أفسدت . فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : اللهم وليديه فاغفر .هذه الحادثة التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيها عبر ودلالات كثيرة ، منها : -
1- تحريم قتل النفس مهما كانت الظروف ، وبيان أنه من أكثر الذنوب إقتضاء لحصول وعيده مهما كانت الحسنات المعارضة ؛فهذا صحابي ومهاجر ومع ذلك عذب على قتل نفسه !
2- أن صاحب هذه الكبيرة لم يكفر بما فعله ؛ولهذا استغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له . وفي هذا دلالة على أن صاحب الكبيرة مهما عظمت كبيرته لايخرج من الإسلام خلافا لمن كفره من أهل البدع أو جعله في منزلة بين المنزلتين !
3- صحة مذهب أهل السنة في القطع بإنفاذ وعيد بعض أهل الكبائر خلافا لمن جوز العفو عنهم كلهم من المرجئة ؛فإن هذا مخالف لقوله تعالى ويغفر مادون ذلك لمن يشاء فأخبر أن مغفرته تقع لبعض دون بعض ، وهكذا نصوص الشفاعة المتواترة فإنها صريحة في إنفاذ وعيد بعض أهل الكبائر ! ولكن ينبغي عدم الخلط بين إنفاذ الوعيد وإثباته على سبيل الدوام ؛ فإن أهل السنة مجمعون على أنه لايخلد في النار أحد من أهل التوحيد مهما عظمت كبيرته .
4 - أهمية الرؤى في الإسلام وأنها قد تكون سببا لبعض الأحكام الشرعية ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما شفع ودعا بسبب رؤيا الطفيل . ولكن ينبغي الاحتياط في هذا الباب بعد عصر النبوة ؛ فلا يعول على رؤيا تعارض ما استقر من الشريعة .
5 - إثبات شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر ، وأنها قد تكون في الدنيا كما في هذا الحديث ، وقد تكون في الآخرة ؛ وهو الأعظم والأشمل ؛ لحديث إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لايشرك بالله شيئا ! ولكن هل تكون قبل إنفاذ وعيد الكبيرة ؟ هذا محل توقف فيه ابن القيم ؛ لأنه لم يظفر بنص صحيح يدل على حصولها قبل العقوبة ، وكل حديث في الشفاعة في أهل الكبائر إنما يدل على حصولها بعد العقاب . والله أعلم .