حصار العراق وغزة ... بوّابة للتشيع/العدد الخامس والثمانون - رجب 1431هـ
خاص بالراصد
نعيش في أيامنا هذه حادثة الاعتداء الإسرائيلي على سفينة الإغاثة التركية "مرمره"، والتي جاءت كمحاولة جريئة لفك الحصار اليهودي الظالم على قطاع غزة، والذي فرضته إسرائيل بعد فوز حماس بانتخابات (2006) وبدء الصراع بين حماس وفتح، وأصبحت هناك حكومتان في أرض فلسطين المحتلة؛ حكومة فتح في الضفة، وحكومة حماس في غزة (2007)، وقد ساهمت الحسابات الخاطئة للدول العربية بعدم مساعدة حكومة حماس وعدم الاعتراف بها، إلى حصار غزة لمنع حماس من التسلح والمحافظة على قوتها، بيد أن الحصار تحول شيئا فشيئا إلى حصار للشعب الفلسطيني من جميع النواحي الإنسانية، مما دفع حماس بشكل أكثر نحو اللجوء لإيران كداعم ومساند لها.
ولقد كانت إيران تميل أكثر إلى حركة الجهاد الإسلامي، لوجود علاقات قديمة مشتركة وإعجاب بالثورة الإيرانية من قبل د. فتحى الشقاقي زعيم الحركة([1])، ولم تكن العلاقة بحماس كذلك، بل كان بعض قادة حماس حجر عثرة بوجه التدخل الإيراني، ولكن الوضع الذي نجم عن فوزها بالانتخابات فرض على حماس زيادة اقترابها من إيران، سيما بعد تسلّمها السلطات كاملة، فغدت حماس راعية ومسؤولة عن مليون ونصف فلسطيني بعد أن كانت راعية لقوة مقاومة فحسب، هذه التعقيدات دفعت بحماس تدريجياً أكثر نحو إيران، ومع استمرار الحصار العربي والغربي زادت بوادر التشيع داخل غزة؛ وكل هذا لا يبرر لحماس تهاونها نحو التشيع وإيران، إلا أنّ الحصار هو سبب واضح لذلك أو أحد الأسباب، لقد كسب التشيع أرضاً ما كان يحلم بها، وكسبت إيران موطئ قدم قريباً من إسرائيل لتسخره في مصالحها كورقة تلعب بها مع إسرائيل كي تقاسمها النفوذ في المنطقة.
هذا الحصار كان مدعاة لتلميع صورة إيران وجناحها في العالم العربي والإسلامي "حزب الله اللبناني" وهذا ما ورد في الخطة الإعلامية السرية: "ويجب ألا يغيب عن البال أمر مهم وهو: أنّ السيطرة على العراق لن تنجح إلا إذا كنّا مبادرين ضد أمريكا والكيان الغاصب لفلسطين وطرقنا على رأسيهما بقوة تثير إعجاب العرب، وتوفر دعمهم لنا مهما كانت سياستنا في العراق مرفوضة"([2])، إذاً هدف إيران هو كسب الشارع العربي واستغلال قضية فلسطين من أجل تمرير المخطط المراد لإيران.
ولم يفهم الساسة العرب أن تحول حماس لتصبح إحدى أوراق إيران جعل المواجهة في المنطقة تختلف، فبعد أن أسقطت الدول العربية بطرحها مبادرة السلام العربية مزاعم إسرائيل بتهديد العرب لأمنها الوطني، أصبحت إيران ومن حالفها من القوى الإسلامية السنية في فلسطين هي مصدر التهديد لأمن إسرائيل الذي تستصرخ به إسرائيل حلفاءها في أمريكا وأوروبا، واستغلت إسرائيل هذا الوضع لتهديد أمن جيرانها العرب كما في حالة الأردن بالتلويح بفرض "الترانسفير" أوالوطن البديل عليه، كما ضغطت إسرائيل على مصر لتشارك في الحصار على غزة، لتقع مصر في موقف محرج مع شعبها، وقد ساهم كل ذلك في تعزيز الخلافات بين الشعوب العربية وحكوماتها، هذا الخلاف الذي يصب في مصلحة إسرائيل ويبعد شبح الخطر عنها.
وإيران أيضاً استغلت الحصار وسخرته لصالحها من خلال تحريض الشعوب العربية على زعاماتها، مع أن قيادة إيران مشغولة بقمع شعبها وليس نصرة غزة!!
وكل هذا بسببنا نحن العرب والمسلمين، وما كان ذلك لولا سوء التخطيط العربي حتى أصبح وضع حماس اليوم يلخصه المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي حيث قسم الجبهات في منطقتنا إلى جبهتين:
جبهة إيران وسوريا وحزب الله وحماس، وجبهة أمريكا وإسرائيل والدول العربية.
وأصبح حصارنا البغيض سبباً للتوغل الإيراني والتشيع السياسي الذي انتشر بين كثير من النخب العربية، فهل نعي هذا الدرس؟! وهل نعي أن حصار الغرب مهما كان قويا فإنه لن يمرر إلا بموافقتنا، فنحن منْ نملك الأرض، ونحن منْ نملك ألف طريقة وطريقة لفك الحصار، هذا هو الدرس الأول.
حصار العراق:
أما الدرس الثاني فقصته أطول لأنه في منطقة حساسة ومدته أطول فالجغرافيا والتاريخ مختلفتان، إنه درس العراق وهو الدرس الأهم – كما نتصور- وما أقصده الحصار الذي ضرب على العراق بعد غزوه للكويت في سنة 1990م، والذي انتهى بعد احتلال العراق من قبل أمريكا وأعوانها في سنة 2003م.
12 سنة من الحصار الدولي شاركت فيه كل دول العالم، ومنها الدول العربية، كانت محصلته تدمير الإنسان العراقي من الداخل وأصبحت الإنسانية هناك منهارة ومسحوقة ومتصدعة ومدمرة، على حد تعبير الإعلامي أحمد منصور([3]).
بدأ الحصار بعد انتفاضة شيعة الجنوب في شهر آذار سنة 1991م والمسمّاة "بالانتفاضة الشعبانية" عقب انسحاب الجيش العراقي من الكويت، وكان حزب الدعوة والمجلس الأعلى وغيرهما من الحركات الشيعية المحرك الرئيسي لهذه الانتفاضة التي شهدتها محافظة البصرة ومحافظات ذات أغلبية شيعية مثل: ميسان والقادسية والمثنى وذي قار وكربلاء والنجف وبابل، واستمرت هذه الانتفاضة قرابة الشهر، وقد طلبت قيادات شيعية خارج العراق من الأمريكان إسقاط صدام، مما دفع السعودية وبعض الدول العربية للتدخل من أجل وقف إسقاط صدام وحكومته؛ خشية من سيطرة التيارات الشيعية الدينية على العراق، وهذا يعني سيطرة إيران بعد هزيمة مُرّة من قبل الجيش العراقي سنة 1988م.
وكان موقف هذه الدول السياسي جيداً ويحمل قسطاً من الوعي للقضية الشيعية بسبب قُرب العهد بالحرب العراقية الإيرانية ومعرفة خطر تصدير الثورة الإيرانية.
ولم تنجح هذه الانتفاضة وذهبت أرواح آلاف الشيعة بسبب القيادات الشيعية الفاسدة، كما تسبب حزب الدعوة من قبل – في السبعينات والثمانينات – بمقتل الآلاف من الشيعية في محاولته للانقلاب، ثم يعد الشيعة أنفسهم مظلومين!!
بعد فشل انتفاضة شيعة الجنوب بدأت تتشكل في إيران وسوريا ولبنان وبعض دول الخليج (السعودية، الكويت، الإمارات، البحرين) ولندن وبعض الدول الأوربية وأمريكا معارضة عراقية شيعية ـ كردية([4]) مع قلّة من السُنة تحلم بإسقاط النظام على يد الأمريكان.
ومن هناك بدأ الشيعة بعمل مدروس شارك به جمهرة من العلمانيين والمتدينين الشيعة والأكراد لبلورة عدة أفكار تقدم للنخب ويتم بثها عبر وسائل الإعلام لتكوين رأي عام لتغيير الواقع العراقي نلخصها بما يلي:
* أن الشيعة أكثرية بينما السُنة لا يشكلون سوى 20% من سكان العراق.
* أن هذه الأكثرية ظُلمت على مدى سبعين عاماً، أي منذ تشكل الدولة العراقية سنة 1921م، ولا بدّ أن تأخذ دورها الذي انتزع منها.
* أن الحكومة البعثية هي حكومة طائفية (سُنية) أقصت الشيعة.
* أن شيعة العراق ليس لهم علاقة بإيران.
هذه القضايا كانت مطروحة من قبل بشكل محدود، لكنها ضخمت من قبل المعارضة وبُثت في وسائل الإعلام بشكل مكثف، وأُلفت فيها الكتب وأُعدت لتكريسها تقارير وساعد على تثبيتها بعض صناع القرار في دول الخليج بُغية التخلّص من صدام نتيجة نظرة ضيقة وقتية، ومصالح أنانية تستهين بمصير الأمة، فقامت بدعم المعارضة الشيعية، وأصبحت أراضيهم مسرحاً للمعارضة، وقُدمت لهم التسهيلات المالية واللوجستية وغيرها من أجل هدف ندموا عليه جميعا فيما بعد.
محاربة التيار الذي كان يقاوم الشيعة في العراق:
كان العراق من الداخل ينخره الحصار، في الوقت الذي استمرت فيه الدعوة السلفية بالنشاط، في مقابل هذا نشطت الدعوات الشيعية مُستغلة الحصار وضعف الحكومة المركزية، وأصبح هناك صراع فكري واضح بين السُنة والشيعة الملتزمين (طلبة الحوزة).
ازداد الحصار قوة في أوائل التسعينيات، وازدادت معه الضربات على الحركة السلفية من قبل الحكومة العراقية بتهمة تبعيتهم للسعودية!! فاعتقلت الدولة العشرات من الدعاة السلفيين، وأعدمت آخرين، وغادر البلدَ كثير من الدعاة والكُتّاب بسبب ذلك إضافة إلى الأوضاع السيئة أمنيا واقتصاديا.
عانى الدعاة السلفيون في العراق من كثرة الاعتقالات إلا أن دعوتهم كانت مستمرة زاحفة نحو أماكن لم تعرف التدين من قبل؛ فبنيت المساجد وكثر الدعاة وأقيمت المناظرات بين السُنة والشيعة، وعاد كثير من الشيعة للسنة([5])، كما برزت جهود عراقية جيدة لمقاومة التشيع فكرياً، فظهرت كتب محلية للرد على كتب المتشيع التونسي محمد التيجاني السماوي (ثم اهتديت وغيرها) إذ أن الشيعة كانوا يهاجمون السنة فكرياً بشبهات كثيرة نجح الشباب السلفي بردها ودحضها.
كان العلمانيون الشيعة والعامة متأثرين بدعاية "المظلومية" في العراق وأنهم أكثرية مهمّشة، وغيرها من الطروحات المختلقة التي بثتها المعارضة في كل المحافل، فباشروا بالعمل ضد الدولة في المحافظات الجنوبية ودعم بعض الأنشطة والأعمال التخريبية.
ومع الحصار واحتياجات العراق المادية بدأ مشروع إيران بالتدخل في العراق بعد استعادة عافيتها من الحرب العراقية الإيرانية في عهد خاتمي، وحاول حزب الدعوة والمجلس الأعلى بالتخطيط لعمليات اغتيالات في داخل العراق، ونجحوا بإصابة نجل صدام الأكبر "عدي"، كما نجحوا بتشويه صورة الدعوة السلفية بواسطة أجنحة شيعية في حزب البعث وفي مديرية الأمن العام، وساعدهم في ذلك التيارات الصوفية بالاستعانة بعزة الدوري (نائب رئيس الجمهورية) والذي كان يبغض التيار السلفي، كما ساعدهم – بصورة أقل- بالتخلص من وجود التيار السلفي المزاحم لهم في المساجد، كما ساعدهم على ذلك التعامل القاسى والتشدد من بعض السلفيين في مواطن لا تستحق ذلك.
تأثير العامل الاقتصادي للحصار واستغلال إيران لذلك:
أدى الحصار الاقتصادي وما نجم عنه من آثار إلى اختراق العراق من قبل الأحزاب المعارضة الشيعية ومن قبل إيران ومن قبل مخابرات الدول الغربية، كما كان العامل الاقتصادي في نفس الوقت يشكل تُهمة للسلفيين بزعم أنهم يستلمون مساعدات من السعودية، وهو ما لم يكن له نصيب من الصحة، فمعظم المساعدات كانت تأتي من العراقيين القاطنين في أوروبا وأمريكا وأستراليا وبعض البلاد العربية.
ورغبة بفك الحصار الاقتصادي بمساعدة دول الجوار سمح العراق عام 1996م للإيرانيين بزيارة "الأماكن المقدسة"([6])، مما سهل دخول وخروج المخابرات الإيرانية "الإطلاعات" وغيرهم لدراسة وضع العراق، كما كان لمنطقة الأهوار – الخاصرة الرخوة للعراق- دورٌ فعّال في إتعاب الحكومة العراقية؛ لأنها مأوى للهاربين ومأوى للتدخل الإيراني؛ لذا كانت الدولة تسعى لتجفيف الأهوار لضمان السيطرة عليها.
نشاط الشيعة في الشارع العراقي:
كانت المواجهات بين الشيعة والدعوة السلفية ذات صبغة سلمية وعلمية، تأخذ شكل المناظرات والمحاججة، وكان هَمُّ الشيعة في هذه المرحلة نشر الشبهات في الشارع العراقي وكان السنة يحاولون إزالة الشبهات والرد عليها، ولم يكن للحكومة أي دور يذكر في محاربة التشيّع سوى متابعة التوجهات الإيرانية المباشرة، كما انتشرت في السوق العراقية العديد من الكتب المسمومة مثل كتب التيجاني السماوي وغيره، وبدأت بعض الكتب الشيعية تنتشر بطريقة التصوير (الاستنساخ) وكانت الدعوة السلفية هي وحدها من يجاهد لمقارعة المد الشيعي والذي بدأ يزداد يوماً بعد يوم، وبدأت إيران تخطط لتدريس آلاف الشباب في الحوزة ودفع تكاليف دراستهم ومعيشة عوائلهم، وكانت أموال الخُمس تتدفق من الخليج ومن شيعة أوربا وأمريكا لهذا الهدف، بينما غرق سُنّة الخليج - حكاما وعلماء - في سباتهم وفي نوم عميق، رغم أنّ هذه الأنباء المؤلمة وصلت للمعنيين وعلموا أنّ وضع العراق لا يسرُ، وأن الشيعة لهم رغبة في السيطرة الفكرية على العراق وأنه لابدّ من التصدي، وأنّ الحصار لا يساهم إلا في إضعاف السُنة، هذه الرؤية تبين صدقها فيما بعد، واليوم عضّت هذه الدول أصابعها ندماً ولات حين مندم، وما بخلوا به يومئذ دفعوه اليوم أضعافا مضاعفة.
دخول العراق بمرحلة جديدة :
كان وضع في العراق يزداد سوءا، فقد برز المرجع الشيعي محمد صادق الصدر([7]) كمرجع عربي دعمته الحكومة، فكثر أتباعه وأصبح ظاهرة مخيفة لأنه – بذكاء - أرجع صلاة الجمعة للشيعة وبدأ الشيعة يتجمعون حوله، وأزعج وجوده إيران لأنه عربي الأصل.
بيد أنّ الوضع الشيعي أصبح خطراً بيناً؛ فقد ظهرت تنظيمات شيعية سرية، وتساهلت الحكومة معهم، أو الأصح أنّ الحكومة أصبحت أضعف منْ أن تواجهها بالأخص في المناطق الجنوبية، وتساهل رجال الحزب ورجال الأمن الشيعة مع تحركات الشيعة في الاغتيال والاعتداء على السُنة وعلى المسئولين الحكوميين، وكانوا يحاولون التكتم على ما يحصل في جنوب العراق كي لا تصل الأخبار إلى المركز بغداد.
كما كان هناك تنظيم دقيق داخل الشيعة مستعدا للتحرك بعد إسقاط الحكومة؛ ففي السنين الأخيرة قبل السقوط وردت أخبار عن أن الشيعة يقومون بإعداد مسح للسكان السنة في المناطق ذات الغالبية الشيعية في بغداد فضلا عن المناطق الجنوبية، وقد ظهرت فعالية ذلك بعد السقوط بالتهجير القسري والاغتيال بشكل واضح.
كما امتلأ الشارع بالكتب الشيعية المطبوعة في إيران وبيروت وغيرهما، وكانت أموال الخمس تتدفق إلى العراق من الخليج في غفلة واضحة من حكومات هذه الدول أو على علم منهم، وعزز ذلك الحقد لدى الحكومات الخليجية على نظام صدام حسين، كما كانت سوريا مرتعاً للأحزاب الشيعية، وأخطأت الحكومة العراقية التي سهلت للإيرانيين الدخول بكثرة بحجّة توفير سيولة مالية من السياحة الدينية، هذه السياحة التي مكنت المخابرات الإيرانية من دخول العراق، والتخطيط لأشياء كثيرة ظهرت بعد الاحتلال.
وكان العراق يسهّل للشيعة الخليجيين دخول العراق عبر الأردن، بعد ختم الجواز بختم دخول العراق، طمعا بدخول رؤوس أموال ولكنهم أهملوا ما يُدخل هؤلاء من أموال تصب في دعم الشيعة، وكل ذلك في غفلة من دوائر الأمن الخليجية كما مرّ ذكره.
عمل حصار العراق على إضعاف الحكومة العراقية وأصبحت مقاومتها وجيشها من الضعف بمكان، وانهار العراق عندما هاجمته أمريكا في سنة 2003 بسرعة كبيرة وبصورة غير متوقعة، وكان الكاسب الأكبر هو إيران والخاسر الأكبر هو العراق ومن بعده الدول الخليجية وبقية الإقليم.
لقد لعبت إيران لعبتها وعلمت أن المواقف المهمة تشترى ولا تقدم مجاناً، وكانت الدول التي فرضت الحصار بحاجة لإيران للمشاركة في فرض الطوق الأمني على العراق، و قد يكون الثمن ذلك موطئ قدم في جنوب لبنان، أو دوراً قيادياً في الخليج أو إفراجاً عن ودائعها المجمدة، ومع ذلك فالساحة العراقية بتركيبتها الطائفية سيما جنوب البلاد تعد مطمعا إيرانياً، وأنّ ما فشلت في تحقيقه في حربها مع العراق يمكن تحقيق جزء منه عبر فرض الحصار.
وأختم بما ذكره الكاتب د.محمد الأحمري في مقال رائع له بعنوان "عودة إيران لحراسة الجيران"[8]:
"بعد استسلام العراق تتابع العرب الخليجيون، وحتى من قبل الهزيمة، في البحث عن البديل المستقبلي، فزعمت أمريكا أنها سوف تعطيهم عراقاً علمانياً متغرباً وصديقاً موثوقاً! وبعد عشر سنين لم يتغير شيء ولم تأت العلمانية العراقية الأمريكية، وبقي صدام وشبحه مخيماً والاستغلال والحرب قائمة. بل الذي حدث أنّ إيران مدّت أيديها لطلاب الحوزات وللسياسيين الشيعة، وفتحت جامعاتها ومعاهدها ومدارسها لشيعة العراق وأقامت حركة سياسية ودينية وزرعت الولاءات في كل مدينة، ولما هددت أمريكا بضربة نهائية لصدام مرة أخرى في عام 1999م هرب عدد كبير من سكان بغداد إلى القرى السنية لأنهم رأوا أن الشيعة سيأخذون بغداد حال حدوث أي اضطراب. فهم القوى التي قوي وعظم شأنها في عهد صدام الأخير.
أما العالم السني المجاور للعراق والذي يمثل العراق عمقاً وامتداداً لعشائره وقبائله ولدينه فقد ترك ما بيده من إمكان صناعة مستقبل العراق، أو المساهمة في صناعته، كما ينفع المنطقة عامة، ويفيد السنة في العراق بخاصة ويرسخ مستقبلهم المنشود، فقد كانت دول السنة المجاورة تملك أن تفتح الجامعات والمدارس في الداخل أو على الحدود العراقية للشباب السني العراقي الذي كان يهيم بلا مأوى ولا استقرار، حتى تشردوا أو رحمتهم أمريكا وكنائسها واستقدمتهم، وكان بالإمكان أن يكون لهم مأوى وعمل وبناء مستقبل سياسي وثقافي كبير في بلدهم، ولكن للأسف، فقد راهن الخليجيون بإلحاح غيرهم عليهم وبتوجهات النافذين على انتصار شراذم العلمانيين المتغربين، وأبعدوا الإسلاميين وأرهبت أمريكا قلوبهم من أن يقبلوا السنة في أي من جبهات المعارضة، وقد تحدث أحد كبار وزراء الخارجية الخليجيين عن توجيهات خارجية تمنعهم من القبول بالإسلاميين في أي بديل لصدام أو التعاون معهم. فكانت كل الجبهات المعارضة لصدام مرحباً بها ولو كان الحزب مكوناً من رجل وامرأته فقط، وكثيرة هذه الأحزاب الصورية والمخادعة كانت تتلقى مساعدات ومعونات سياسية ضخمة من الدول العربية ومن الغرب، وهي لا تقدر على شيء في العراق مهما قل. وعدد هذه الأحزاب يزيد عن ثمانية وعشرين حزباً معارضاً أو مرتزقاً، وربما زادت الآن كثيراً. واستبعدت مجموعات إسلامية كبيرة ومعتدلة من أن يكون لها وجود في مستقبل العراق، رغم وجودها واعتدالها وتاريخها الطويل. ولم تكن هذه المجموعات أيضاً حريصة على أن يكون لها مكان في معارضات مصطنعة بلا وجود. أما إيران فقد أحيت الأحزاب الدينية الشيعية، وأوجدت أحزاباً جديدة مهمة، وقادة المعارضة الشيعية أغلبهم في إيران وفي داخل العراق، وصوتهم وتهديدهم عال، والحكيم والبياتي من الوجوه التي قد يكون لها أثر في مستقبل العراق القريب" أ.هـ.
ما سبق كان عرضا مبسطا للاستغلال الإيراني للحصار الغربي- العربي على العراق، وكيف جنت إيران الحصاد بعد الاحتلال الأمريكي، ولم يجن العرب سوى الأخطار والتهديدات المتوالية، فهل سيصبح مصير غزة كمصير العراق؟ هكذا فعل الحصار في العراق وهكذا سيفعل في غزة وغيرها، فهل من مدكر ؟!
[1] - انظر: بحث "حركة الجهاد والهوى الشيعي الإيراني" لأسامة شحادة في كتابه "المشكلة الشيعية".
[2] - قراءة في الخطة السرية الإعلامية الإيرانية، إعداد وحدة الدراسات والبحوث بموقع الراصد، ص 12.
[3] - قصة سقوط بغداد، ص 31.
[4] - الأكراد سنة شافعية إلا أن قضيتهم القومية وحلمهم بالانفصال دفعهم لنسيان سنيّتهم، وسيدفع الشعب الكردي قريبا أو بعيداً ثمن مواقفه من أهل السنة العرب .
[5] - قلت (عودة) لأن أغلب الشيعة في العراق كانوا من عوائل سنية لغاية القرن التاسع عشر الميلادي.
[6] - هكذا هي حسب تعبير الشيعة ولا يوجد عند المسلمين مكان مقدس سوى الأماكن الثلاثة: البيت الحرام والمدينة النبوية وبيت المقدس.
[7] - اغتيل هو وأولاده في [7] شباط سنة 1999م، ولا يدرى هل إيران قتلته أم الحكومة العراقية!!
[8] - كتبه سنة 2000 في مجلة الصراط المستقيم الصادرة في أمريكا، العدد 91، شهر مارس، عندما كان مقيما في أمريكا. ومن المؤسف أن الكاتب تغيرت آراؤه وعاد القهقرى، وكتب أشياء تعاكس هذه الرؤية الراقية فكتب ثلاثة مقالات بعد عودته لبلاده (السعودية) بعد احتلال العراق: (خدعة التحليل العقدي) (حصاد التحليل العقدي) (رؤية في المعضلة الشيعية ) وقد رد عليه عدد من الباحثين.