تقرير الشيخ أن الجهمية أول من استدلوا بدليل الحدوث
قال الشيخ : ((ولم يكن في الصحابة والتابعين أحد يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام ويثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون والأجسام مستلزمة لذلك لا تنفك عنه وما لا يسبق الحوادث فهو حادث ويبنى ذلك على حوادث لا أول لها بل أول ما ظهر هذا الكلام في الإسلام بعد المائة الأولى من جهة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان ثم صار إلى أصحاب عمرو بن عبيد كأبي الهذيل العلاف وأمثاله))[المنهاج(8/5)].
ويقول الشيخ ناقلاً كلام أحمد: ((وَكَذَلِكَ الْجَهْمُ وَشِيعَتُهُ دَعَوْا النَّاسَ إلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَأَضَلُّوا بَشَرًا كَثِيرًا فَكَانَ مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ أَمْرِ الْجَهْمِ عَدُوِّ اللَّهِ : أَنَّهُ كَانَ مَنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مَنْ أَهْلِ الترمذ وَكَانَ صَاحِبَ خُصُومَاتٍ وَكَلَامٍ كَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي اللَّهِ فَلَقِيَ أُنَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُمْ ( السمنية ) فَعَرَفُوا الْجَهْمَ فَقَالُوا لَهُ نُكَلِّمُك فَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُنَا عَلَيْك دَخَلْت فِي دِينِنَا وَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُك عَلَيْنَا : دَخَلْنَا فِي دِينِك . فَكَانَ مِمَّا كَلَّمُوا بِهِ الْجَهْمَ أَنْ قَالُوا : أَلَسْت تَزْعُمُ أَنَّ لَك إلَهًا ؟ قَالَ الْجَهْمُ : بَلَى : فَقَالُوا لَهُ : فَهَلْ رَأَيْت إلَهَك ؟ قَالَ : لَا . قَالُوا : فَهَلْ سَمِعْت كَلَامَهُ ؟ قَالَ : لَا . قَالُوا : فَهَلْ شَمَمْت لَهُ رَائِحَةً ؟ قَالَ : لَا . قَالُوا لَهُ : فَوَجَدْت لَهُ مِجَسًّا ؟ قَالَ : لَا . قَالُوا : فَمَا يُدْرِيك أَنَّهُ إلَهٌ ؟ قَالَ : فَتَحَيَّرَ الْجَهْمُ فَلَمْ يَدْرِ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ إنَّهُ اسْتَدْرَكَ حُجَّةً مِثْلَ حُجَّةِ زَنَادِقَةِ النَّصَارَى وَذَلِكَ أَنَّ زَنَادِقَةَ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّذِي فِي عِيسَى هُوَ رُوحُ اللَّهِ مِنْ ذَاتِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا دَخَلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ فَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ خَلْقِهِ فَيَأْمُرُ بِمَا شَاءَ وَيَنْهَى عَمَّا شَاءَ وَهُوَ رُوحٌ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ . فَاسْتَدْرَكَ الْجَهْمُ حُجَّةً مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَّةِ فَقَالَ للسمني : أَلَسْت تَزْعُمُ أَنَّ فِيك رُوحًا ؟ قَالَ بَلَى . قَالَ : فَهَلْ رَأَيْت رُوحَك ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَهَلْ سَمِعْتك َلَامَهُ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَوَجَدْت لَهُ حِسًّا وَمِجَسًّا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : كَذَلِكَ اللَّهُ لَا يُرَى لَهُ وَجْهٌ وَلَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ وَلَا يُشَمُّ لَهُ رَائِحَةٌ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ وَلَا يَكُونُ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ))[الفتاوى(4/218)].
وقال : ((وقالوا إنه لا يتكلم ثم قالوا إنه يتكلم بكلام مخلوق منفصل عن الله قالوا وإنما قلنا ذلك لأنا استدللنا على حدوث العالم بحدوث الأجسام وإنما استدللنا على حدوثها بقيام الحوادث بها وأن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فلو قلنا إنه تقوم به الصفات والكلام لزم قيام الحوادث به لأنه هذه أعراض حادثة))[المنهاج(3/361)].
قال الشيخ : ((وَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ امْتِنَاعِ دَوَامِ فِعْلِ اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ أُصُولَ دِينِهِمْ وَجَعَلُوا ذَلِكَ أَصْلَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا : الْأَجْسَامُ لَا تَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ لِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْهَا وَلَا يَسْبِقُهَا يَكُونُ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا وَمَا كَانَ مَعَ الْحَوَادِثِ أَوْ بَعْدَهَا فَهُوَ حَادِثٌ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَذْكُرُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا لِكَوْنِ ذَلِكَ ظَاهِرًا إذْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نَوْعِ الْحَوَادِثِ وَبَيْنَ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ . لَكِنَّ مَنْ تَفَطَّنَ مِنْهُمْ لِلْفَرْقِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ : الْحَوَادِثُ لَا تَدُومُ بَلْ يَمْتَنِعُ وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَيْضًا وُجُودُ حَوَادِثَ لَا آخِرَ لَهَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ إمَامَا هَذَا الْكَلَامِ : الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَبُو الهذيل... ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ وَأَئِمَّتَهُمْ كَالنَّظَّامِ وَالْعَلَّافِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ يَقُولُونَ : إنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَقُومُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِهَذَا الْأَصْلِ ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الرَّسُولِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُرْسَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ أَوَّلًا وَمَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ . قَالُوا : وَهَذَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ فِيمَا زَعَمُوا إلَّا بِمَعْرِفَةِ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ حُدُوثِ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فِيمَا زَعَمُوا وَيَقُولُ أَكْثَرُهُمْ : أَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ ؛ وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ . وَيَقُولُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ : إنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } قَالُوا : فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ اسْتَدَلَّ بِالْأُفُولِ - وَهُوَ الْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ - عَلَى أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ لَا يَكُونُ إلَهًا . قَالُوا : وَلِهَذَا يَجِبُ تَأْوِيلُ مَا وَرَدَ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَالِفًا لِذَلِكَ مِنْ وَصْفِ الرَّبِّ بِالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ كَوْنَهُ نَبِيًّا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فَلَوْ قَدَحَ فِي ذَلِكَ لَزِمَ الْقَدْحُ فِي دَلِيلِ نُبُوَّتِهِ فَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يَقُولُونَ إنَّهُ عَارَضَ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ . وَنَقُولُ إذَا تَعَارَضَ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ امْتَنَعَ تَصْدِيقُهُمَا وَتَكْذِيبُهُمَ ا وَتَصْدِيقُ السَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ هُوَ أَصْلُ السَّمْعِ فَلَوْ جُرِحَ أَصْلُ الشَّرْعِ كَانَ جَرْحًا لَهُ . وَلِأَجْلِ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَ ةُ الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةَ وَقَالُوا : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ ؛ وَلِأَجْلِهَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ؛ وَلِأَجْلِهَا قَالَ الْعَلَّافُ بِفَنَاءِ حَرَكَاتِهِمْ ؛ وَلِأَجْلِهَا فَرَّعَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ؛ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ : أَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ هِيَ الْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَنُبُوَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ حَالَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ النَّاسَ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ أَبَدًا وَلَا تَكَلَّمَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فَكَيْفَ تَكُونُ هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَاَلَّذِي جَاءَ بِالْإِيمَانِ وَأَفْضَلُ النَّاسِ إيمَانًا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهَا أَلْبَتَّةَ وَلَا سَلَكَهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ . وَاَلَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ هَذِهِ طَرِيقٌ مُبْتَدَعَةٌ حِزْبَانِ ؛ ( حِزْبٌ ظَنُّوا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا لَكِنْ أَعْرَضَ السَّلَفُ عَنْهَا لِطُولِ مُقَدِّمَاتِهَا وَغُمُوضِهَا وَمَا يُخَافُ عَلَى سَالِكِهَا مِنْ الشَّكِّ وَالتَّطْوِيلِ . وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ كَالْأَشْعَرِيّ ِ فِي رِسَالَتِهِ إلَى الثَّغْرِ والخطابي والحليمي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ . ( وَالثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا وَلِهَذَا ذَمَّهَا السَّلَفُ وَعَدَلُوا عَنْهَا . وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد)).[الفتاوى(5/542)].
تنبيه (1) : قال القاضي عبد الجبار في ((شرح الأصول الخمسة)) (ص/95) : ((وأول من استدل بها (أي بدليل الحدوث) شيخنا أبو الهذيل،وتابعه باقي الشيوخ)).
قلت : ولا يشكل هذا على أولية الجهم؛لأن ظاهر عبارة عبد الجبار أنه يريد الأولية بين شيوخ المعتزلة.
تنبيه(2) : جعل صاحب كتاب: ((مقالات الجهم)) أثر أبي حنيفة أنه سئل : ((ما تقول فيما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ ،فأجاب : ((مقالات الفلاسفة،عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة،فإنها بدعة))= قرينة على أولية الجهم ؛لمعاصرة أبي حنيفة له،ولا يتم هذا فالأثر المروي في ((ذم الكلام)) للهروي(4/213) = في إسناده متهم بالكذب.