واجب المسلمين تجاهَ المسجد الأقصى
للشيخ الفاضل أبي سعيد بلعيد بن أحمد الجزائري
حفظه الله تعالى
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله وحدهُ لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله.أمّا بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب الله،وأحسن الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة فيالنّار، وبعد:
إن المسجد الأقصى هو أُولى القبلتين وثالثُ المسجدين، لا تُشدّ الرِّحال –بعد المسجدين- إلا إليه. ولقد بارك الله سبحانه وتعالى المسجد الأقصى وما حوله حيث قال تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الإسراء: ١، إنه المسجد الذي أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ليَعْرُج من هناك إلى السماوات العُلى إلى الله عز وجل، إنه لَثاني مسجدٍ وُضِع في الأرض لعباده الله وتوحيده. ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله: أي مسجد وُضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة».
إن المسجد الأقصى يقع في الأرض المباركة أرض الشام، مقرّ أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، مقرّ إسحاق، ويعقوب عليهم السلام، إلى أن خرج يعقوب وبنوه من الشام إلى مصر للعيش فيها مع يوسف عليه السلام، فبَقَوا هناك حتى صار بنو إسرائيل أمه بجانب أهل مصر الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، ثم خرج بهم موسى إلى القدس وأمرهم بجهاد الجبابرة ليدخلوا الأرض المقدسة، ولكنهم خافوا ونكلوا عن الجهاد، فحرم الله عليهم الأرض المقدسة، وعاشوا في التيه أربعين سنة، مات في أثنائها موسى، وهارون، ومات كثير من بني إسرائيل، ثم فتح الله بيت المقدس على يد نبي الله يوشع بن نون، عليه السلام، وبَقَوا هناك حتى آل الأمر إلى داود، وسليمان، عليهما السلام، فجدد سليمان، بناء بيت المقدس. ولما عتا بنو إسرائيل على ربهم، وعصوا رسلَه سلّط الله عليهم ملكا من الفرس يقال له: بختنصر فدمّر بلادهم، وبدّدهم قتلا وأسرا وتشريدا وخرّب بيت المقدس للمرة الأولى، ثم اقتضت حكمة الله بعد انتقامه من بني إسرائيل أن يعودوا إلى الأرض المقدسة، فنسوا كذلك ما جرى عليهم، وكفروا بالله ورُسُله، وقتلوا كثيرا من الأنبياء، قال تعالى: ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) فسلط الله عليهم بعض ملوك الروم مرّة ثانية واحتلوا البلاد وأذاقوهم العذاب. كل هذا بسبب ما وقعوا فيه من المعاصي، والكفر بالله ورُسله. ثم بقي المسجد الأقصى بيد الروم النصارى إلى أن أنقذه الله من أيديهم بالفتح الإسلامي، على يد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، فصار المسجد الأقصى بيد أهله، ووارثيه بحق وهم المسلمون قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) النور: ٥٥ المائدة: ٧٠،
بعد ذلك بقي المسجد الأقصى بيد أهله وهم المسلمون، حتى استولى عليه النصارى من الفرنج أيام الحروب الصليبية في 2 شعبان من سنة 492 هـ (1071م) فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل وقتلوا من المسلمين نحو ستين ألفا، ودخلوا المسجد، واستولوا على ما فيه، وكان يوما عصيبا على المسلمين، وبقي النصارى على احتلاله أكثر من تسعين سنة، حتى استنقذه الله من أيديهم على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله في سنة 27 رجب 583 هـ (1161)، وكان فتحا مبينا، ويوما عظيما مشهودا، أعاد الله فيه إلى المسجد الأقصى كرامته، وكسِرت الصلبان، ونودي فيه بالأذان، ثم إن النصارى أعادوا الكرّة على المسلمين وضيّقوا على الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين، وأعادوا احتلال المسجد الأقصى في سنة 626هـ (1205م)، ثم استنقذه الملك الصالح أيوب بن أخي الكامل في سنة 642 هـ (1221م)، وبقي بأيدي المسلمين إلى سنة 1387 هـ (1967م)، حيث احتله اليهود أعداء الله ورسوله، بمعونة أوليائهم من النصارى البريطانيين، بعد أن احتلوا فلسطين قبل ذلك، ولا يزال تحت سيطرتهم إلى اليوم، ولن يتخلوا عنه، ولن يتنازلوا عنه إلا بالقوة، ولا قوة إلا بنصر الله عز وجل ولا نصر من الله إلا بعد أن ننصره، كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) محمد: ٧، ونصرنا لله يكون بتمسكنا بالشريعة الإسلامية، عقيدةً، وقولًا، وعملًا، وبجعلها منهجا لحياتنا كلها.
إنّ المسجد الأقصى وأهلَه، بل كلّ فلسطين، يتعرضون دائما وخاصة في هذه الأيام لحملة وحشية شرسة، حيث يقوم اليهود بتعطيل شعائر الدين، ومحاصرة المساجد، والتضييق على المسلمين، فيمنعونهم من أداء العبادات، وذكر الله تعالى، ويؤذونهم أشد الإيذاء بالقتل وإراقة الدماء، مستخدمين في ذلك أنواع الأسلحة الفتاكة دون رحمة، ودون مراعاة لأية حقوق إنسانية، على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وخاصّة العالَم الذي يزعم أنه هو المتحضر، وأنه يريد محاربة الإرهاب، والواقع أن الإرهاب الحقيقي هو الإرهاب الصادر عن هؤلاء اليهود من دولة بني إسرائيل، وإزاء ما يجري فإنه يجب على المسلمين أن يَهُبُّوا جميعا لمساندة ومؤازرة إخوانهم المسلمين في فلسطين، وتقديم المساعدات اللازمة لهم.
على المسلمين أن يَهُبُّوا لإغاثة المسلمين في فلسطين، ولو بالمال فهو نوع من الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) التوبة: ٤١
إنّ الله تعالى لا يسلط الكفار على المسلمين إلا بسبب الذنوب والمعاصي قال تعالى: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الشورى: ٣٠ ، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) آل عمران: ١٦٥، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة (العينة:معاملة رَبوية)، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» رواه أبو داود (3003)، وهو حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم:« يا معشر المهاجرين، خصال خمس إذا ابتليتم بهن -وأعوذ بالله أن تدركوهن- لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع، التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين، وشدة المؤنة (غلاء المعيشة)، وجَوْر السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم » رواه ابن ماجة (4009)، وهو حديث صحيح.
على المسلمين جميعا داخل فلسطين وخارجها أن يتوبوا إلى الله عز وجل، وأن يرجعوا إليه بالطاعة في تصحيح العقيدة، والمحافظة على الواجبات وأهمها الصلاة، والابتعاد عن المعاصي، وخاصة سب الربّ والدّين، فإن المعاصي تُدخل الخوف والرعب في قلب صاحبها. إذا فعل المسلمون هذا فإن الله يربط على قلوبهم ويثبتهم، وينصرهم ويُلقي الرعب في قلوب أعداء الله، وعلى المسلمين خاصة زعماؤهم البُعد عن الخلاف الذي يؤدّي إلى الفشل وذهاب القوة، وتسلّط الأعداء عليهم، والتنازل عن حظوظ النفس من أجل مصلحة الشعب الفلسطيني، فاتقوا الله يا عباد الله، ولنرجع إلى الله الذي ينصر عباده المؤمنين،قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) الصف: ٤، وقال تعالى: ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الصف: ٨ – ٩، نسأل الله تعالى الفَرَج القريب، لجميع المسلمين، في كل مكان.