" مقاماتُ أبي الطَّيِّب "
(2)
" المقامةُ التماميَّةُ "


حدَّثنا أبو الطَّيِّبِ الوائليُّ ، قال : ركبتُ راحلتي مع الصباح ، مُستفتحاً أبوابَ الفلاح ، متوجِّهاً نحوَ بَغداد ، أرض الجمهرةِ الأسياد ، فانتهى بي المسيرُ ، إلى حائطٍ صغيرٍ ، له ظلٌّ لا يُظِل ، و قاصِدُه يَضِلُّ ، فأنختُ ناقتي ، و توسدْتُ عمامتي ، فزارني نومٌ خفيف ، ذو شأنٍ ظريف ، فنعمتُ به بعد التعبِ ، و أنستُ دُبُرَ العَطَبِ ، و بينا أنا بين إغفاءة و أختها ، و فتحِ عينٍ و غمضتها ، سمعتُ من هتفَ بالسلام ، فشردَ عني لذيذُ المنام ، قائلاً : السلام عليك أيها الغريب ، سلامُ محبٍّ لحبيب ، فرددتُ السلام بأكملَ من سلامه ، و بكلام أطيب من كلامه ، فقال : أراك لا دار و لا أهل ، و إنك لمن أهل الفضل ، فمن أنتَ ؟ ، و من أين أقبلتَ ؟ ، فقلتُ : رحالةٌ بين الديار ، فلا يقرُّ لي قرار ، أنالُ مِن الناسِ حُبَّاً و بُغْضاً ، فلا غيرَ الشمسِ أرْضاً أرضى (1).
فقال : ثِبْ واثباً ، لتغدوَ طالباً ، حيثُ تُطرحُ العلوم ، و تتلاقح الفُهوم ، فسرتُ معه على تخَوُّفٍ ، و نفسي لما يذكرَ في تشَوُّفٍ ، فإذا بِهُ مُقْبِلٌ على دارِ الخلافةِ ، و منزلِ الأنافة ، فرابني الرُّعبُ ، و عظُمَ عليَّ الخَطْبُ ، فدخلَ دخولَ الأكابر ، و جلسَ جِلْسَةَ أهل المفاخر ، و كنتُ في كلِّ الحالِ بِهِ لصيقاً ، نائلاً بصحبته مقاماً عريقاً ، فإذا في المجلسِ أديبٌ كبير ، يُقرِّرُ المعارِفَ أجلَّ تقرير ، فما أخطأت الناسُ قَصْدَه ، و لا حُرِموا ما عِنده ، إذ كان ينسابُ منه العلمُ انيساباً ، فيُسيْلُ من العاشقِ لُعاباً ، و كنتُ في حسنِ الحظِّ ، عندَ بَدئِهِ بأولِ اللفظِ ، فلم تُغادرني منه فائدة ، و لم تنفكَّ عني شاردة .
فبدأ المجلسَ بالحمدلةِ ، و الصلاةِ و الحَسْبَلَةِ ، ثُمَّ أتبَعَ كلامَه ، و حرَّرَ نِظامه ، بجملٍ غرائبَ ، و كَلِمٍ كالترائبِ ، على ما أُنشدَ من القريضِ المأثورِ ، و الشعرِ الرفيع المشهورِ ، لأبي الطيِّب المتنبي ، ذي النسبِ المُنْبِي :




و لَمْ أرَ في عُيوبِ الناسِ عَيْباً
كنقْصِ القادريـن علـى التمـامِ


فأوضَحَ ما فيه من الوجوهِ ، و نفى عنه المعنى المشبوه ، فقال في ضمن قيلِهِ ، لا ذاقَ خليلٌ فَقْدَ خليلِه :
أيها الذين قد حضروا ، و مجلسَنا قد نوَّروا ، قد خاضَ الناسُ في معنى هذا القصيد ، و جنحوا عن مواردِ التسديد ، فراموا بُعْداً و إقصاءَ ، و حُرموا مدحاً و ثناءَ ، فما كانَ لأبي الطيبِ أن يرومَ القدحَ ، و لا أن يحجبَ المدحَ ، و إنما كلامُه حمَّالُ أوجهٍ و معاني ، و إن التقت بالحَذْو المباني ، فالمعنى في بطن الشاعرِ مدفونٌ ، و محرومهُ مغبونٌ ، فإذا درَيْتم ذلك ، و علمتم ما هنالك ، فإنَّ لهذا البيتِ مراداً نفيساً ، و قصداً أنيساً .
فأُسُّ المعاني ، المُستقاةُ من رصفِ المباني ، ما أفصح عنه البَرْقُوْقِي ، في شرْحِهِ المَرْموقِ، أنَّه ذمٌّ لكثرةٍ قبيحة ، ذات عارٍ و فضيحة ، لمْ تَرُمِ التمامَ و قد بان ، و من السهولة عندهم بمكانٍ ، فلم يَقُمْ بِهمْ عزمُ الأكابرِ ، و اعترتهم الأمورُ الصغائر ، فرَضوا بالحضيض ، و أقاموا للشيطانِ حجة التحريض ، و كان الأقومُ بهم حالاً ، و الأصدق فيهم مقالا ، أن يُهْرعوا للسباقِ ، و يُعجِّلوا بالصَّداق ، فالتمامُ مناخُ الرجال ، و مرتعُ الأبطال ، و من لم يَرُمْه صادقاً ، و في مشيه واثقاً ، فهو المذمومُ في المجالس ، المحرومُ من النفائسِ :


وَ مَنْ يَجِد الطَّرِيْقَ إلى المعالي
فـلا يَــذَرُ المَـطِـيَّ بِــلا سَـنـامِ


و لا أقبَح في الخِصال ، و لا أذَمَّ في الخِلالِ ، من ذاتٍ سَنِيَّةٍ ، ذاتِ (2) صفاتٍ عَلِيَّةٍ ، اعتراها العجزُ عن الوصولِ ، حيث المأمولُ ، و لقد أنشدَ كعبُ بن زُهَير ، في " بُرْدَةِ " الخيرِ (3) :


و مِن العجائبِ و العجائبُ جمةٌ
قُرْبُ المُحِبِّ و ما إليه وصـولُ


[size=4][align=justify]ألا تباً لذي قُدرةٍ لم تنهضْ بِهِ همته ، و كُرْها لهمَّامٍ خَارَتْ عزيمته ، ينامُ مِلْءَ الجفنِ عن شرفه ، و يرضى بالحقيرِ من تَرَفِه .
و لأبي الطيِّبِ تفرُّسٌ ، و في أحول الناسِ تمرُّسٌ ، فهو الخابرُ حالَهم ، و العارفُ فَعالَهم ، فكأنَّه أضمَرَ في بطن المبنى ، ما إياهُ الكبيرُ يُعنى ، فوصفَ حال الكُمَّلِ السُّعاةِ ، و النُّخْبَةِ البُناة ، الطامحين نحو المعالي ، و القاطنين ذُرى العوالي ، فإن صاحبَ التشمير في السعاية ، يُلاحظُ النقْصَ في حُسْنِ الرعاية ، فَتدفعه الهِممُ العالية ، نحو المقامات السامية ، فيسعى إليها جاهداً ، و على قدرِ مسيره يزدادُ بذلُه ، و بقدرِ عزمه يكون نَقْلُه ، فهذا الهمامُ الشريف ، و الطموح المنيف ، يُدركُ أن التمامَ ليس له حدُّ ، فتهفو إليه نفسُه و عزمهُ الجِدُّ ، و لن يَقِفَ إلا على عتبةِ الآخرة ، و المفاخرُ لديه وافرة ، فليس للكمالِ في عينه نهاية يقف عندها ، و ليس للتمامِ غايةٌ يَجدها ، فلا يزال في تطلابِه و بحثه ، يئِنُّ بآهاتِه و بَثِّه :



فَعَلِمْنا أن ليسَ إلا بِشِقِّ النَّـفْ
سِ صار الكريمُ يُدعـى كريمـاً
طلبُ المجدِ يُورِثُ النَّفْسَ خَبْلا
و هموماً تُقَضْقِـضُ الحَيْزومـا


(4)

و مما أبطنَه الكِنديُّ في بَيْتِهِ ، و أبانَ بِوسمِهِ و نَعْتِهِ ، أنَّ ذاك التمامَ المقصود ، و العيبَ المورود ، بِحَسْبِ أحوالِ الناس ، و اختلافهم في إتلافِ الأنفاس ، و تنوُّعِ المقاصِد ، و تبايُنِ المواردِ ، فليسَ كلاً موفقاً لكلٍّ ، و ما أحدٌّ للجميعِ بأهْلٍ ، فللمرءِ طاقةٌ معلومة ، محالُّها لديه مرسومة ، فالمذموم مَن قَدِرَ فأحجمَ ، و قويَ فلمْ يُقْدِم ، حجَبَهُ فَرَقُ الطريق ، و فُقدانُ السعةِ و نيلُ الضيق ، و ما الأمجادُ إلا بِعاد ، و ما المعالي إلا بإجهاد :


ذَرِيْـنــي أَنَـــلْ مـــا لا يُـنــالُ مِــــن الـعُـلــى
فَصَعْبُ العُلى في الصَّعْبِ و السَّهْلُ في السَّهْلِ
تُـرِيْــدِيْــ نَ لُـقْــيــان الـمـعـالــي رَخِـيْــصَــةً
و لا بُـــدَّ دوْنَ الـشَّـهْـدِ مِـــن إبَـــرِ الـنَّـحْــلِ


فهذا ما فاهَ به أهل الشَّرْحِ ، و أبانوه بغايةِ النُّصْحِ ، فبيتُ أبي الطيب أنْزَه ، و هو حمَّالُ معانٍ و أوْجُهْ ، و بذا تمَّ المقام ، و استحلى لنا المُقام ، و الموعدُ اللاحقُ جامعٌ ، و المَوْرِدُ الآتي نافعٌ ، دامَ الكلُّ بالرعاية ، و بقيَ الجميعُ بالعناية .
فألقى السلام علينا مُعادا ، و قفَلَ ذاهباً متبوعاً جموعاً و آحادا ، فأقبلتُ عليه كما الناسُ ، و تعطرَتْ به مني الأنفاسُ ، و أبديتُ التحيَّةَ المُعظَّمة ، و المصافحةَ المُفَخَّمة ، و أثنيتُ على ما جادتْ به قريحته ، و ما أبانت عنه فصاحته ، فشكرَ و ابتسم ، و الجلالَ التَزَمْ .
فقلتُ لصاحبي : سرَّ الله يومَك ، و رئستَ أهلك و قومَك ، لَقْد كان الأديبُ زهرةً فوَّاحة ، و لأهلِ بغداد مَفْخرَةً صدَّاحة ، جلَّى عن القلبِ الدرر ، و أبرزَ الأسرارَ الغُرَر ، فجزاكَ عني اللهُ كلَّ نائلة ، و أسبلَ عليك السحابَ وابلة ، و هل لي بمثلِكَ أيها الأجلُّ ، و الخليلُ الأظَلُّ ، جمعَ الله أيامنا سواء ، و أبقانا في هناء ، فقبلتُ على رأسه و يَدِه ، لشرفِهِ و كريم مَحْتَدِهِ .
فانقفلتُ راجعاً نحوَ بَيْتي ، عَريني مُقَيِّظٌ مُشَتِّي (5) ، متلذذاً باللفظِ البليغ ، متذوقاً المعنى النبيغ ، فغفوتُ إغفاءةَ الطَرِبِ ، و نمتُ نومةَ الذَّئِب ، و أستودع الله أيامكم ، و أستغفره آثامكم ، و مُنِحْتُمُ المسرةَ دِيْمة ، و غدوتم بِلا قِيْمة (6).


عبدُ اللهِ بنُ سليمان العُتَيِّق
21/7/1428هـ



الهوامش :



(1) مُقْتَبَسٌ من بيتٍ .
(2) الذاتُ الأولى بمعنى النفس ، و الثانية بمعنى الصاحبة .
(3) هي قصيدته المشهورة بـ : " بانت سعاد " ، و وُسِمت بـ " البردة " لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه و سلم أهداه بُرْدَتَه لما أنشده إياها .
(4) الخَبلُ : الفساد ، و القضقضة : كسر العظام ، و الحيزوم : الصَّدْرُ .
(5) مُقْتَبَسٌ مِن قول الشاعرِ :



مَنْ يَكُ ذا بَتٍّ فهذا بَتِّيْمُقَيِّـ ظٌ مُصَيِّـفٌ مُشَـتِّـيْ


(6) يُرادُ بذلك أنَّ المقصودَ لا يُقَدَّرُ بقيمة ، لغلائه في النفوس ، و ليسَ أنه لا يُساوي قيمةً .



[ تنبيهٌ : الرقم (4) يُشيرُ إلى الحاشية ، و ليس إلى تقسيمٍ في المقامة ، نبَّهْتُ لكونه توسَّطَ المقامة ، و الرقمُ المتوسِّطُ غالباً يُشير في الأكتوباتِ إلى تقسيمٍ في المكتوب ، حقيقةً سعيتُ في التعديل له قُرابَة الـ ( 4 ) مراتِ ليكون الرقمُ ملاصقاً للبيتِ ، فأعياني ، و هدَّني و أبلاني . ]
__________________

*
*
*


عبدُ اللهِ العُتَيِّق
___


" نَفْسٌ تُضيءُ ... و هِمَّةٌ تَتَوَقَّدُ ... "

منقول .
http://muntada.islamtoday.net/showthread.php?t=27798