(وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ
قَوْمٌ يَفْرَقُونَ **56} لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ
أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ **57})
(وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُ مْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّ هُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ **30})
====
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وعلى آله وصحبه إلى يوم يبعثون.
أما بعد,فلست بصدد الكلام عن أصول الليبرالية كمذهب فكري, أو أن أغوص في كتابات منظريها, ثم أشرع في نقض ما أسسوا عليه مذهبهم, , فإن لكل ميدان فرسان, ولست واحدا منهم, على الأقل لحظة كتابتي لهذه السطور, وإني أرجو من الله تعالى أن يقيض لهذه الأمة من يتصدى لذلك.
ولكني أتحدث هنا عن ظاهرة لا تحتاج كبير جهد لرصدها, ولا سعة اطلاع أو رسوخ علم لبيانها, ولست أعني انتشار الليبرالية والعلمانية وما تفرع عن هذين المذهبين الإلحاديين من أيدلوجيات كما قد يسبق إلى ذهن القارئ الكريم, ولكني أقصد جانبا آخر من الأزمة, ألا وهو:
عدم تحقق الكفاية من الجهود المبذولة لصد عادية الليبرالية عن الإسلام.
بداية, فإني أقرر أنني أدين الله بأنه لا ينبغي لمن أوقفه الله في مقام لخدمة دين الله أن يدعو مسلمي العالم بأسره إلى مشاركته الوقوف في هذا المقام, ولا ينبغي له إن رأى غيره ينشغل بما قد يراه هو أقل جدوى أن ينكر عليه أو أن يرى نفسه أعلى درجة من أخيه, إذ الاجتهادات تختلف, والقدرات تتباين, وكل ميسر لما خلق له, وكل على ثغر, ولا يمكن أن يقوم بسائر أعباء الدين فرد واحد ولا حتى جماعة واحدة, فمثلا: لا يحسن بمن تصدى لمواجهة التنصير أن ينقم من الرادين على المبتدعة من أهل القبلة الانشغالَ باتقان مسائل مسائل الصفات والقدر والعقيدة في الصحابة وغيرها, ولا لمن تصدى للرد على المبتدعة أن ينعى على الدعاة إلى الله المشتغلين بتعليم الناس سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ولا يحل للدعاة أن يتبرموا من صنيع رجل نذر نفسه ووجهده بل وعمره للذب عن اللغة العربية وحفظ جنابها...لا يحل له أبدا..هذا أقرره ولا أجرؤ على مخالفته..
لكن ما رأيكم إن ألقينا نظرة من أعلى على بيضة الإسلام, فوجدنا ثغرا من الثغور لا يكاد يقوم على حراسته إلا جندي واحد أو جنديان, والعدو الصائل من جهته قد أجلب بخيله ورجله, كتائب تترى, على رأس كل منهما داع من عاة جهنم, وقد عزموا الولوج إلى حوزة الإسلام من خلال هذا الثغر؟!!
ألا يحق لنا ساعتها أن ننذر ونصرخ من فوق أعلى قمة جبل ونقول: أغيثونا يا أهل الإسلام..المدد يرحمكم الله فلن نصمد..قليل من العتاد والرجال, نكفيكموهم إن شاء الله..ثغوركم والله محصنة بما فيه الكفاية وزيادة, والقتال فيها أقل شراسة هذه الأيام, فلا تبخلوا علينا؟!
بلى يحق والذي خلق الخلق..بل يتعين ذلك, وإلا كان من رأى هذا الوضع وقصر في النصيحة معينا لأهل الباطل على دينه, خائنا للأمانة..
بعد هذا البيان, فإني لا أشك لحظة في هذه االحقيقة المذكورة أعلاه, أعنى (عدم تحقق الكفاية من الجهود المبذولة لمواجهة هذا العدوان الغاشم), وسوف أتناول بعض جوانب الأزمة بالعرض بصورة مقتضبة, وللقارئ بعد ذلك أن يحكم بنفسه على دعواي.
أولا: درجة مخالفة الليبرالية لأصول الدين:
فلا شك أن الباطل كلما كان أشد مصادمة لدين الله, كان الانشغال بدفعه أوجب.
وبنظرة سريعة على مفاهيم الليبرالية الرئيسة, نرى أنها تدور في فلك "الحرية" و"التحرر", أي أن حقيقة المذهب هو الدعوة إلى حرية الاعتقاد والسلوك..
فإن كنت في مجتمع ليبرالي, فحرية الإلحاد مكفولة, فلا يحق لك بحال أن تنكر على من يسب الله ورسوله على أي منبر كان, وفي المقابل, فلا يحق له أن يعترض على اعتقادك بتوحيد الله واتباعك لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا على نقاب زوجك.
أيضا, فحرية السلوك مكفولة, فلا يحق لك بحال أن تنكر على شارب الخمر أو الزاني بحليلة جاره, طالما كان الأمر لا يتعلق بشخصك, وإن اعترضت, فأنت الرجعي الداعي إلى دخول نفق القرون الوسطى المظلم!
هذا من حيث التنظير, وكفى بذلك مناقضة لأصل دين الإسلام, الذي هو عماده: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله, والذي من أرسخ أصوله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
فإذا قدر لك الاطلاع على بعض أدبيات القوم وأطروحاتهم, وجدت أنهم -شأنهم شأن أتباع كل مذهب باطل- طبقات, فتجد بعضهم مهتما بالإنكار على أهل التدين, وبعضهم شغله الشاغل قضية تطوير مناهج التعليم لإخراج ذلك الجيل الممسوخ المنقوص دينه الذي ينشدونه, وتجد أسفل منهم دركة من ينادي بتجديد الدين, يعني به التحررَ من مرجعية فهم سلف الأمة ومرجعيته, ومنهم من ينكر ارتباط التقدم والازدهار باتباع شرع الله, ثم أسفل دركة: من يطعن في بعض أحاديث الصحيحين, ثم من ينكر السنة بالجملة, ثم من ينكر النبوة وبعضهم ينكر وجود الخالق جل وعلا, والكل يدعي أنه ليبرالي!! والكل يلقي ما في جعبته على أسماع العامة باسم التقدمية والرقي الحضاري, ويتفنن في الانتصار لفكرته بشتى الوسائل, ومن المفترض أن يتم تقبل كلام الكل دون إظهار ولو نزر يسير من تلكم الشعيرة المباركة: (النهي عن المنكر), إذ أن حرية التعبير مطلب حضاري ومعلم تنويري!
فهي مجموعة من المفاهيم المصادم أغلبها لقطعيات الاعتقاد والشريعة, تُعرض في صورة مزخرفة, وتصبغ بصورة شرعية أحيانا, يحاولون تمريرها بين القطاع العريض من أفراد الملة..
ثانيا: مدى تأثير الليبرالية على العامة:
وهذا أيضا عامل مهم جدا, فكلما كان الفكر الباطل يحوي في طياته ويملك دعاته وسائل خداع العامة والتلبيس عليهم لتمريره,كلما كان خطره على الأمة أشد.
أما أثره على العقول, فيكمن في الأساس في نظري القاصر إلى عاملين:
أولهما: موافقته في كثير من جوانبه إلى هوى النفس التي لما تذق حلاوة الإيمان بعد, فحين ينادي ليبرالي بالتحرر, فسوف يصادف حتما قلوبا تود لو أنها لم تقيد بصلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج, ومع رفض القطاع الأكبر للمسلمين لهذه الدعوة, فإن صاحبها إذا ما أحسن التنظير لها, وحرًّف وأوَّل بعض النصوص من الكتاب والسنة للانتصار لهذا المفهوم, ثم أردف ذلك بعبارات الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم والاستشهاد بموقف لعمربن الخطاب, فصاحب الهوى, الذي يكاد يحيط علما بكل فنون الدنيا إلا ما يتعلق بالعلوم الشرعية, لابد وأن يُشرب قلبه هذا الإفساد العقدي.
ثانيا: كونه موافقا لما يتظاهر به الغرب والتغريبيون من تلك المظاهر الجوفاء التي لا يستطيعون أن يلتزموا حقائقها في محك واحد!! مثل احترام الآخر-حرية الاعتقاد-احترام العقل-حقوق الإنسان-التجديد والتنوير-العولمة-ذم الجمود والظاهرية!
كل هذه الدعاوى قد أولع بها الكثير من عوام المسلمين, بل ويدعون إليها في قرارة أنفسهم! بعد أن أسلموا أزمة عقولهم إلى الإعلام التغريبي يزرع فيها ما شاء..
ولذا, فإني أزعم أن أفكار الليبراليين والعلمانيين هي الأكثر انتشارا بين عوام المسلمين, فلو فرضنا أنك أخذت رجلا من الشارع متابع لبرامج الفضائيات, قارئ للصحف اليومية والأسبوعية, ثم فرضنا أنك استطعت أن تخرج من عقله رصيدَه من الباطل الذي يعتقد صحته, لوجدت أن الحظ الأوفر سيكون لأفكار الليبراليية والعلمانية, وستجده يفوق بكثير في أغلب الحالات ما يعتقد صحته من عقائد الأشاعرة أو المعتزلة مثلا..
بل والأدهى, أن الوضع يفرض نزاعا بين الإسلاميين وبين من يخالفهم, فترى في الخندق المقابل تحت راية الليرالية كل من اللادينيين والملحدين, فتتسرب بعض أفكار أولئك إلى العقول مع ما يتسرب, فلا تعجب إن وجدت فئاما من الشباب يرون في تعدد الزوجات ظلما للمرأة, وفي حد السرقة وحشية, بل يصرح بعضهم أنه لا يملك يقينا راسخا بصدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: وسائل التأثير:
فانا أيضا أزعم أن أكثر المذاهب المُمَكَّنة من إيصال مفاهيمها للعامة هي الليبرالية, فإن كان للرافضة قنوات فضائية تدار فيها برامج حوارية, وإن كان للصوفية منتديات يكتب فيها بعض دعاتها, وإن كان لغيرهم من أهل البدع مواقع تعرض شبهاتهم, فإن الليبرالية هي عماد وسائل الإعلام, بحيث لو فرغت منه لسقطت على الفور على أم رأسها!
الصحف والبرامج الإعلامية والمسلسلات والأفلام...هذه المصادر لا ينازع أحد في أنها الأيسر وصولا إلى العامة, وهي في قبضة الليبرالية أو من يستحسنها أو على الأقل يفضلها على الإسلام بمفهومه الشامل..فلك أن تتخيل كم المفاهيم الفاسدة التي تلقى على مسامع الناس وهم في بيوتهم بل وعلى أسرة النوم..هل ترى أيسر من ذلك وسط لتمرير هذا الإلحاد؟
فانظر إلى عدد البشر الذي يتلقى أفكار الليبرالية والعلمانية من مسلسل يعرض في شهر رمضان؟
وكم مشاهدا لبرنامج على قنوات الإفساد يستضيف مفكرا أو كاتبا يعرض فيه بضاعته؟
فيلم قبيح أو مسلسل خليع لا يعلم عنه أهل التدين ولا حتى اسمه, قد يتضمن من المصائب الفكرية التي تشربها قلوب المشاهدين أضعاف أضعاف ما قد يتضمنه كتاب لمبتدع, ومقال في إحدى الجرائد التي يحرص على شرائها ما يربو على نصف المجتمع, قد ينتصر فيه الكاتب لفكرة تناقض أصل دين الإسلام, يزخرف قوله بما أوتي من مهارات إعلامية, فيعتقد صحة مقالته الملايين في يوم واحد بلا مبالغة, وطلبة العلم جلهم لا يعلم من أين يحصل على نسخة من هذه المقال.. !
ثم قل لي:
كم عاميا يطالع كتابا في العقيدة للبوطي فضلا عن كتب سعيد فودة أو السقاف؟
وكم شابا أو فتاة يمكنهم أن يطالع كتب القاضي عبد الجبار أو أبي المعالي أو محمد بن عمر الرازي, لتتلطخ عقيدته بشبهات المتكلمين؟
لاشك أنهم موجودون, ولكني أعقد مقارنة لا يلزم من عقدها تفي جانب من أزمة الأمة للمبالغة في توصيف جانب آخر.
رابعا: أساليب أربابه:
وخطورته أيضا في نفاق الكثير من أربابه, فإنك وإن قارنته بالنتنصير مثلا, تجد أن المنصرين في أغلب الأحيان إما أن يدعوا إلى دينهم, أوأن يشككوا في دين الإسلام, أو يطعنون صراحة في النبي صلى الله عليه وسلم او في القرآن, في حين أن الليبرالي لا يجرؤ في الغالب على أن يصدع بمعتقده, بل يلجأ إلى استخدام نصوص الكتاب والسنة وفق فهمه المحرف لتمرير ما يروم إلى تمريره, يزيد هذا الاستخدام وينقص بحسب طبيعة الجمهور المخاطب, مع الحديث عن واقع المسلمين المتردي وتفوق الغرب المتحرر من القيود..
وأحيانا يكون حديثهم منصبا على أخطاء بعض المنتسبين إلى الدعوة أو بعض فتاوى أهل العلم, التي تكون شاذة تارة وموافقة للدليل تارة أخرى لكن قد يستنكرها العامة – فيقفون بذلك على أرضية مشتركة في النقد بينهم وبين العامة, ثم يشرعون بعدها في تمرير مخططهم, وكثيرا ما يستخدمون هذه الفتاوى لتكون وقود حملة بل حملات متتابعة على أهل العلم والفضل, لا يكاد يمر شهر إلا وقد أجمعوا كيدهم ودبروا أمرهم بليل ثم أتوا صفا, يضربون أحد كبار علمائنا ورؤوس دعاتنا ضربة رجل واحد, فينجيه الله من كيدهم..
وتارة يصدرون كلامهم بالثناء على كبار أئمة الدعوة عبر العصور, ثم يقررون أنه ما من أحد معصوم إلا الأنبياء, ثم يطعنون فيما هو من مفاخر دعوة هذا الإمام, ثم يختمون بالثناء عليه مرة أخرى!
أما أن يواجه الليبرالي ويناظر على أصوله ويظهر الطعن في دين الله, فهذا لا يسلكه أغلب دعاته في الفترة الحالية, ربما في مراحل لاحقة.
خامسا: واقع طلبة العلم ووزنهم في المحنة:
مع استصحاب ما ذكرتُ, من كون كل من العاملين لدين الله على ثغر, إلا أن الناظر في حال طلبة العلم والعاملين في حقل الدعوة, ليظهر له أن من له دراية بأصول هذا المذهب الهدام والمتابعين لتطور أحداث المعركة بين الليبراليين وبين كل ما هو إسلامي: هم قلة قليلة, فضلا عن من يتصدر للرد عليهم فضلا عن من يجيد ذلك.
ولك أن تسأل نفسك أيضا في نفس سياق المقارنة: كم طالب علم في الأمة الآن يتقن مسائل الخلاف مع الأشاعرة, من القول في كلام الله تعالى والقدر والصفات والإيمان وغيرها, ويحسن تقرير بطلان مذهبهم والانتصار لمذهب السلف بالدليل النقلي والعقلي في أبهى صورة وأحسن عرض, وكم طالب علم قد أحاط علما بفتنة خلق القرآن, ومَن صَبَر مع أحمد ومن أجاب, ومن ناظره, بل ويحفظ عبارات المعتصم أيام المحنة -وهو بلا أدنى ريب مما يرفع الهمم ويزيد الإيمان-, ولكن تجده لا يعلم شيئا عن حقيقة الصراع الآن مع تلك الفئة الباغية على أرض الشريعة, ولو قلت له: سم لي ليبراليا يعيش الآن حيا يرزق: لم يحر جوابا؟!
بالله عليكم أليس هذا مظهرا من مظاهر الخلل الذي يلزمنا المسارعة إلى سده؟!
ثم الوضع أظهر خطورة إذا ما أبصرت بعينيك هذا الكم الهائل من المقالات المدبجة في تصيد أخطاء العاملين لدين الله من أهل السنة, ثم الأدهى من ذلك, تلك المقالات التي تكاد تقطع أن صاحبها ما رقم منها حرفا إلا انتصارا لنفسه.
بعد هذا العرض الموجز, فإني أطالبك أخي القارئ الكريم بأن تجلس مع نفسك ولو لساعة من نهار, و أن تقلب هذه الجملة من الأسئلة في بالك, ولتخبرنا بما وصل إليه عقلك من أجوبة عنها:
هل أصابنا العمى إلى هذا الحد في عصر توفرت فيه وسائل الاطلاع على الواقع بصورة غير مسبوقة النظير, فلم نبصر هذا الخطر؟!
أم أن الشقة قد بعدت علينا, فآثرنا الركون إلى ردود السلف على المعتزلة والجهمية, ثم نسخها ولصقها أمام خَلَفهم, الذين هم في كثير من الأحيان ضعاف العلم, ضعاف السطوة, ضعاف التأثير على عوام المسلمين, بدلا من التصدي لمذهب لم يسبقنا أحد من سلفنا إلى نقضه تفصيلا, تتبناه جهات ذات سلطة وقوة وتأثير؟!
ما هو دورك في هذا الصراع؟
ما هي المهارات التي من الله عليك بها, تستطيع أن توظفها للانتصار للشريعة أمام أعدائها؟
ما هو مصير الأمة إذا ما أبينا الخروج من سباتنا والبروز لصد عادية الليبراليين؟
ما هو جوابك أمام الله إن سألك: ماذا قدمت لدين الله في هذه المحنة؟
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
منقول