لقد مر معنا في موضوع (سلسة رثاء النفس في الشعر العربي 1)مقدمة بسيطة عن رثاء النفس وأتبعناها بقصائد وأبيات جاهلية لمجموعة من الشعراء في رثاء أنفسهم, وهذا الموضوع هو عبارة عن إكمال( لسلسة رثاء النفس في الشعر العربي من العصر الجاهلي وحتى سقوط الأندلس) وعنوانه: رثاء النفس في عصر صدر الإسلام- أرجو من الله العلي القدير أن يُيسر لي إتمام السلسة المتواضعة- فإلى بعض قصائد رثاء النفس في هذا العصر:
· زيد الخيل يرثي نفسه قبل موته:
لمَّا وفد زيد الخيل الطائي على الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه,وسماه النبي صلى الله عليه وسلم (زيد الخير) أراد أن يرجع إلى دياره, وهو في طريقه عائدًا أصابته حمى واشتدت به, فخرج وقال لأصحابه الذين معه جنبوني بلاد قيس فقد كانت بيننا حماسات في الجاهلية ولا والله لا أُقاتل مسلمًا حتى ألقى الله, فنزل بماءٍ لحي من طيء يُقال له (فردة), واشتدت به الحمى فأنشأ يقول:(1)
أمرتحلٌ صحبي المشـارق غُـدوةً*****وأُتر ُ في بيتٍ بفــردة منجـدِ
سقى الله مابين القفيـل وطـابةً*****فمَا دُونَ أرمام فما فــوق منشدِ
هنالكَ لو أنِّي مَرِضـتُ لعَادَنِي*****عوا ـد من لم يشفِ مِنهُـنَّ مجهـدِ
فليت اللواتي عُدنني لم يعـدنني*****وليت اللـواتي غِبْنَ عني عُــوَّدي
ثم مات ودفن في مكانه.
· لبيد بن ربيعة يرثي نفسه:
عندما حضرت لبيدَ الوفاةُ, وكانت عنده ابنتاه, قال يخاطبهما: (2)
تمنَّى ابنتـايَ أنْ يعيشَ أبوهُمَا*****وهـل أنا إلا مِن ربيعةَ أو مُضَرْ
ونائحتانَ تندبـانَ بِعَـــاقلٍ*****أ ا ثقةٍ لا عينَ منـهُ وَلا أَثَـرْ
وفي ابنَيْ نزارٍ أُسوةٌ إنْ جَزِعْتُمَا*****و نْ تسألاهم تُخبرا فيهم الخَبَـرْ
وفيمنْ سواهم مِن مُلوكٍ وسوقةٍ*****دعائم عرشٍ خانهُ الدهر فانْقَـعَرْ
فقُومَا فَقُولا بالذي قد عَلِمْتُمَـا***** لا تَخْمِشَا وَجْهًا ولا تَحْلِقَا شَعَرْ
وقُولا هوَ المرءُ الَّذي لا خَليلـهُ*****أضَا َ ولا خَانَ الصَّدِيقَ ولا غَـدَرْ
إلى الحولِ ثم اسمُ السَّلامِ عَليكُمَا*****ومَ ْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فقدْ اِعْتَـذَرْ
ثم مات ودُفن.
· خُبيب بن عدي –رضي الله عنه- يرثي نفسه:
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سريَّةً مُكوَّنةً من عشرة رجال ليُراقبوا تحركات كفار قريش وذلك بعد غزوة بدر, وجعل أمير السرية عاصم بن ثابت-رضي الله عنه- ومن رجال السرية خُبيب بن عدي-رضي الله عنه- ولما بلغوا مكانًا بين عسفان ومكة نما خبرهم إلى جماعة من هُذيل, فسارعوا إليهم بمائة من أمهر الرماة, وحينما أحسَّ أميرهم عاصم بهُذيل, دعا أصحابه إلى صعود قمة عالية على رأس جبل, واقترب الرماة منهم وأحاطوا بهم, ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم موثقًا أن لا ينالهم منهم سوء, فأبى أميرهم عاصم وقال ( أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر اللهم أخبر عنا رسولك) وشرع الرماة يرمونهم بالنبال, فأُصيب عاصم واستُشهد, وأصيب معه سبعة واستُشهدوا, ونادوا الباقين أن لهم العهد إذا نزلوا, فنزل الثلاثة, واقترب الرماة من خُبيب وصاحبه ( زيد بن الدثنة) فربطوهما, ورأى صاحبهم الثالث بداية الغدر فقرر أن يموت حيث مات عاصم فقُتل, فقادوهما إلى مكة وباعوهما وتذكر بنو الحارث بن عامر- الذي قتله خُبيب في معركة بدر- ثأرهم فسارعوا إلى شرائه, وتواصى كفار مكة من أهالي بدر عليه ليشفوا أحقادهم منه, فراحوا يساومونه على دينه, ويُلوِّحون له بالنجاة إن هو كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ولما يئسوا منه قادوه إلى مصيره, واستأذنهم أن يصلي ركعتين, فأذنوا له, ثم فتح ذراعيه إلى السماء وقال: (( اللهم احصهم عددا واقتلهم بددًا )), ثم أنشأ يقول: (3)
لقدْ جَمَّعَ الأحزابُ حَولي وألَّبُوا*****قَب ئِلهُـم واستَجْمَعُوا كَلَّ مَجْمَعِ
وقد قرَّبُوا أبنَـاءَهم ونساءَهُم*****وقُ ِّبتُ مِنْ جذعٍ طويلِ مُمَنَّــعِ
وكلُّهم يُبدي العداوةَ جَاهِـدًا*****علـ َّ لأنِّـي في وثاقٍ بمضيــعِ
إلى اللهِ أشكو غُربتي بعدَ كُربتي*****ومَا جمَّعَ الأحـزابُ عندَ مَصـرعي
وذلكَ في شأنِ الإلهِ وإنْ يَشَـأْ*****يُبـا ك على أوصـالِ شلوٍ مُمَزَّعِ
وقد خيَّروني الكفرَ والموتَ دونَهُ*****وقد هَملتْ عيْنَاي في غيرِ مَجْزَعِ
ومابِي حذاري الموتَ إنـي لميتٍ*****ولكن حذاري جُحْمَ نـارٍ مُلفَّعِ
فلستُ بِمُبْـدٍ للعدو تَخَشُّعًـا*****و ا جَــزَعًا إنِّي إلى اللهِ مَرْجِعـي
ولستُ أُبالي حينَ أُقتـلُ مُسلمًا*****على أي جنبٍ كانَ في اللهِ مَصرعي
فقُتل رضي الله عنه وأرضاه.
· عبدة الطيب يرثي نفسه:
هو شاعر مخضرم عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم وجاهد مع النعمان بن مقرَّن –رضي الله عنه- الفرس والمدائن (4), وقد بكى نفسه بأبيات بعدما طال مرضه وأيقن بالموت فقال: (5)
ولقد علمتُ بأنَّ قصري حٌفرةً*****غبراءُ يحملُني إليها شَرْجَعُ (6)
فبكَّى بناتي شَجْـوَهُنَّ وزوجتي*****والأقـ ربونَ إليَّ ثم تصدَّعُوا
وتُرِكْتُ في غبراءَ يُكْرَهُ وِرْدُهَا*****تَس فِي عليَّ الريـحُ حِين أُودَّعُ
فإذا مضيتُ إلى سبيلي فابعثُوا*****رجلً له قلبٌ حديدٌ أصْمَــعُ
إنَّ الحوادثَ يَخْتَـرِمْنَ وإنمـا*****عُمْرُ الفَتى في أهلهِ مُسْتَـودَعُ
· شاعر آخر يرثي نفسه:
ذكر الواقدي أن ضرار الأزور -رضي الله عنه- أُسر في معركة اليمامة أسرته الروم, وقال شعرًا يرثي به نفسه(7), والظاهر-والله أعلم-أنه ليس ضرار الأزور فقد ذكر أهل العلم(8) أنه جُرح يوم اليمامة واستشهد وقيل أنه عوفي من جروحه, واشترك في معركة اليرموك وكان ممن بايع عكرمة بن أبي جهل-رضي الله عنه- على الموت, وكانوا أربعمائة فاستشهد وهو يفتك بالروم, ولم يذكروا أنه أُسر, وليس هذا محل بحث في هذا الموضوع, ولكن أردنا أن نبيِّن للقارىء أن قائل هذه الأبيات ليس ضرار بن الأزور وإنما قد يكون رجلًا من المسلمين اسمه ضرار أو ربما نُسبت له.
فقد قال وهو في الأسر يبكي نفسه, وقد انقطع أمله في الحياة وشارف على الموت, يبعث هذه الأبيات كرسالة إلى أهله وذويه: (9)
حَمائِمُ نَجْدٍ بلِّغي قولَ شَائِــقٍ*****إلى عسكرِ الإسلامِ والسادةِ الغُرِّ
وقولي ضرارٌ في القيودِ مُكبَّــلٌ*****بع دٌ عنِ الأوطانِ في بَلدٍ وَعْـرِ
حمائمُ نَجدٍ اسمعي قولَ مُفْــرَدٍ*****غَ يبٍ كئيبٍ وهـو في ذِلَّةِ الأَسْرِ
وإنْ سألتْ عنِّي الأحبةُ خبِّـري*****بأنَّ دُمُوعي كالسحابِ وكَالقَطْـرِ
وقـولي لهم إنِّي أسيرٌ مُقَيَّــدٌ*****ل ُ عِلَّةٌ بينَ الجَوانحِ والصَـــدْرِ
وفي خـدِّهِ خَالٌ مَحَتْـهُ مَدَامعٌ*****على فَقْدِ أوطـانٍ وكَسرٍ بلا جَبْـرِ
مضَى سَائرًا يبغي الجهادَ تَطَوُّعًا*****فو فاهُ أبناءُ اللئــامِ عَلى غَــدْرِ
ألا فَادْفِنَـاني باركَ اللهُ فِيكُمَـا*****ألا واكْتُبَـا هذا الغريب على قَبري
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــ
(1)الأغاني للأصفهاني (16/ 44-50). وانظر السيرة النبوية لابن هشام (2/ 350-351) والبداية والنهاية لابن كثير (2/ 48-49).
(2)ديوان لبيد بن ربيعة 73-74
(3)أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (2/ 148-150), والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (5/ 267-268) باختلاف,
والخبر رواه الإمام أحمد في المسند (15/ 230) وصحح إسناده أحمد شاكر رحمه الله.
(4)ذكر محققا المفضليات ( أحمد شاكر وعبد السلام هارون) ترجمة عبدة الطيب في الحاشية نقلًا عن تاريخ الطبري (4/ 43, 115)
(5) المفضليات للمفضل الضبي 148.
(6)شرجع: خشب يشد بعضه إلى بعض كالسرير يحمل عليه الموتى.
(7)فتوح الشام للواقدي (2/ 232).
(8)ذكر ذلك ابن الأثير في أسد الغابة (3/ 53), وابن كثير في البداية والنهاية (7/7-8), وابن حجر في الإصابة (3/ 391-392).
(9)فتوح الشام للواقدي (1/ 190).