دَخَلْتُ المسجد، وَجَلَسْتُ أسْتَمِعُ لذلك الأخ، يَقُولون: إنَّه طالب عِلم مُتَمَيِّز جدًّا، يُدَرِّسُ بالمسجد النَّحْوَ، والعقيدة، والفِقْه، جَيِّدٌ سَأَسْتَفِيد - إن شاء الله العلي العظيم.
جلستُ، وَبَدَأَ يَشْرَحُ "ألفية ابن مالك"، مُمْتِعٌ جدًّا هذا الشَّرح.
حفظتُ الأبياتَ معهم، ولاَحَظْتُ أنَّ بعضَ الإخوة يَنْظُر لي ويبتسمُ ابتسامةً عجيبةً، بادَلْتُهم الابتسامَ، فَتَبَسُّمُكَ في وَجْه أخيكَ صدقة.
بعد دَرْس النَّحو، رفع أحد الإخوةِ الذين بَادَلُونِي الابتسامَ يدَه، وهو يَخْتَلِسُ النَّظَر لي بِطرف عَيْنِه، وقال - وهو يبتسم في خُبْثٍ -: كنتُ أريدُ أن أَسْألَ عَنْ شَيءٍ، بَادَلَهُ الأخُ الذي يشرحُ ابْتَسامته الخبيثة، وقال: تَفَضَّل، أخانا في الله، سَأَلَهُ: ما رأيك في الشيخ... صاحب كتاب...؟
ضَحِكَ الأخ الذي يَشْرَحُ وقال: لماذا فتحت هذا الموضوع؟ على أيَّة حال نُجِيبُكَ عنه - إن شاء الله - طبعًا إخواني لا بُدَّ أن نَعْرِفَ جميعًا: أنَّ هذا الأمر دينٌ، فانْظُروا عَمَّن تَأْخُذُونَ دينكم، وقد وَرَدَ النَّهْيُ عن مُجالسة المُبْتَدِعة، فضلاً عنِ الاستماع إليهم، والحمدُ لله الذي قَيَّضَ لهذه الأمَّة رجالاً يَذُبُّون عنها انتحال المُبْطلينَ، رجالاً رَفَعُوا راية الجَرْح والتعديل، وسَأَنْقُلُ لكم بأمانة رأي علماء هذا الفَنِّ في هذا الشَّيْخ الفاسِقِ، الفاجِرِ، الحِزْبِيِّ، الخارِجِيِّ، صَدَمَنِي الرَّدُّ؛ لكن آثَرْتُ الصَّمْت؛ لأسْتَمِعَ لما سيقول، قال: الشيخ فلان مبتدع، ضالٌّ، مُضِلٌّ، وقال: والشيخ فلان مِن أهل الهوى، وقال: الشيخ فلان منَ الفِرَق النَّارية، قلتُ في نفسي: عَجَبًا، لقدِ اسْتَمَعْتُ لهذا الرَّجل طويلاً، فيا ترى ما الذي قالَهُ أوِ اعْتَنَقَهُ؛ ليستحقَّ أن يصبَّ فوق رأسه اللَّعَنَات؟!
ذَهَبْتُ للأخ في الرَّاحة بين الدَّرْسينِ، جَلَستُ إليه، وأسندتُ رُكْبَتي إلى ركبتيهِ، وابْتَسَمْتُ، وقلتُ له: السلام عليكم.
رَدَّ وهو يبتسمُ ابتسامة الذِّئب، الذي وَقَعَ بين مخالِبه فريسة.
قُلْتُ مُبْتَسِمًا: سمعتكَ تَتَكَلَّمُ عنِ الشيخ...، ونقلتَ أقوال بعض المشايخ فيه، ولي سؤال.
قال: وما هو؟
قلتُ وأنا أنْظُر في عَيْنِه: ما بِدْعته؟
قال وهو يحدق في عيني بِتَحَدٍّ: خارجي، وتكفيري، وحِزْبي، وأيضًا ليس على المَنْهَجِ.
قلت - وأنا أَهُزُّ رأسي في حيرة -: ما معنى هذه التُّهَم؟ فأنا من تلامِذة الشَّيْخ المُقَرَّبينَ، وقد سائلته في العُلُومِ دهرًا، ولم أَسْمَع منه أبدًا أنَّه يُكَفِّر، حتى تارك الصلاة، ومنهجه في العَقَائد هو نفس منهج ابن تيميَّة، وابن القَيِّم، وهو يُنْكر أشد الإِنْكَار على الجماعاتِ الإسْلاميَّة.
قال- وكأنَّه يسمع درسًا يحفظه -: يُكَفِّرُ الحُكَّام، ويُحَزِّبُ الناس على غير التَّوحيد، كما أنه ليس على المنهج.
ابتسمتُ في حيرة، وقلتُ له: أخي، لم أَسْمَعْ للشيخِ أبدًا ولا نصف كلمة في تكفير الحُكَّام، كما أنه مِن دُعاة التوحيد، ولا يُحَزِّبُ الناس على غيره أبدًا، بل قد أُوذِيَ في الله كثيرًا مِن سُفهاء يُنادون بالمذاهِب الهَدَّامَة.
قال وهو يلوح بكفه: لا لا لا، ولن تسمعَ منه ذلك أبدًا، فهو يُبْطِن ذلك.
كَتَمْتُ ضحكةً ساخرة كادَتْ تَخْرُجُ مني، وقلتُ في هدوءٍ ظاهرٍ، وقد بدأتُ أفهمُ ما يحدث: وإذا كان يُبْطِنُ هذا، فكيف عَرَفْته؟
قال في ثقة: لم أعرفه مِن تِلْقَاء نفسي، بل قاله شُيُوخِي نقلاً عنِ الثِّقات.
قلتُ له: لكني مِن بطانة الشيخ، فكيف لم يُخْبِرْني بما يبطن؟!
ضَحِك وقال: لَعَلَّهُ رأى منكَ قوَّةً في دين الله، فخشي أن يظهرَ لك ذلك.
قلتُ: ومَن باطنهم بذلك كانوا يظهرون الضَّعْف في دين الله؟
انْكَتَمَ الضحك في فمه، حتى كاد يشرق، وجعل يسعل في قوة، ثم قال: لا لا بالطبع.
قلتُ: إذًا وكيف باطنهم؟
ابْتَسَمَ ورَبَّت على كتفي في ودٍّ مفتعل، وقال: يا أخي، الموضوع شَرْحُه طويل، ونحن نَثِقُ في الشيوخ الأَجِلاَّء، الذين يقومون بالجرح والتعديل.
قلتُ: لكن الشَّيْخ ابن العُثَيْمين وابن باز لهم أقوالٌ في مدحه.
قال - وقد بدأ يَتَمَلْمَل -: كان هذا قبل أن يَعْرِفُوا حقيقته.
اسْتَدَرْتُ لِأَنْصَرِف، ثم بَدَا لي أن أسأله سؤالاً آخر، قلتُ: يا أخي، هَلاَّ وَضَّحْتَ لي معني ليس على المنهج؟
قال: يعني ليس على منهج أهل السُّنَّة والجماعة طبعًا.
قلتُ: إذًا، وما هي الجُزْئيَّة التي تُخْرِجُه عن أهل السنَّة، أهوَ التَّكفير فقط؟
قال في غطرسة: بالطَّبع، وأَضِف إلى هذا أنه لا يُجَرِّحُ المجروحين.
قلتُ - وأنا أدعو الله أن يُلْهِمَنِي الصبر -: ومَن همُ المَجْرُوحون؟
قال: طبعًا هُم مَن جَرَّحَهُم شيوخي.
قلتُ: على أيَّة حال لن أُضَيِّعَ وقت الدرس، سأنصرف الآن، ولي معك جلسة طويلة - إن شاء الله - أو سأتَّصِلُ بك، أَتَأْذَن لي، ابْتَسَمَ مفتعلاً، وهو ينهي اللِّقاء في عجلة: طبعًا طبعًا.
.............................. .....................
يـتــــــــــــ بع إن شاء الله تعالى