إتباع الصراط في الرد على دعاة الاختلاط
اللهم إنا نعوذ بك من السكوت عن الحق، كما نعوذ من مداهنة الخلق، ونعوذ بك من القول بلا علم، كما نعوذ بك من كتم العلم، ونعوذ بك من شهواتٍ تعمي الأبصار، كما نعوذ بك من شبهات تستخف الأغمار، ونعوذ بك من جرأة السفهاء، والاستخفاف بالعلماء، ومعاداة الأتقياء. نحمدك فأنت للحمد أهل، ونشكرك فأنت صاحب الفضل، ونصلي ونسلم على من بعثته رحمة للعالمين، وسراجاً منيراً للناس أجمعين.
أما بعد:
فإن لله عز وجل سنناً كونية لا تتغيّر ولا تتخلّف؛ ومنها سنة المدافعة بين الخلق، والصراع بين الحق وأهله، والباطل وأعوانه، فإن سبيل الحق واحدة وللباطل سبل شتى؛ قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:153]. فسنة المدافعة بين الفريقين قائمة إلى أن يشاء الله، ولو كانت الغلبة مع الحق دوماً لما تمايزت الصفوف ولانطوى من ليس من أهل الحق تحت لوائهم وتدثر بدثارهم، فكان من حكمة الله تعالى ولطفه أن قدر الحياة دولا، ومن رحمته وعدله أن جعل العاقبة للمتقين، فمهما لج الباطل وأعوانه فلابد أن يرتج ويخنس؛ تلك هي حكمة الله وسنته ولن تجد لسنة الله تبديلا، حتى يميز الخبيث من الطيب، ويعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فيزداد بذلك الذين آمنوا إيمانا وتثبيتا، وتنكسر شوكة المنافقين والذين في قلوبهم مرض، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
تسامع الناس بالجلبة التي أثارها بعض الرويبضة من الصحفيين حول ما يتعلق بحكم شرعي وهو (الاختلاط بين الرجال والنساء)؛ ذلك أنهم دخلوا البيوت من غير أبوابها، ورموا بسهام الباطل حجابها، فحاموا حول حمىً منيعة، وهجروا أوشال الشريعة، وتسوّروا محراب العلم من غير آلة، ليكون لهم عند الناس بريق وهالة، فسقطوا عند الله وعند الناس، بما افتروا وتقولوا وقالوا للناس؛ قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ... ﴾ الآية [النحل:116].
ومع أن منع الاختلاط بين الرجال والنساء، يكفي فيه الوازع الطَبَعِي في الخليقة، لما فطرهم الله عليه من غَيْرة وحَميّة، إلا أن نصوص الوحيين قد جاءت بما يؤكد ذلك، صيانةً لمحارم المسلمين، وحمايةً لأعراضهم؛ من أصحاب الشهوات والقلوب المريضة، بما سنأتي على بيانه إن شاء الله، فنعوذ بالله من انتكاس الفطر، وتفسّخ العزائم.
وقد تبين لكثير من الناس مغالطات هؤلاء الكتبة، وبعدهم عن الحق والإنصاف، ومخالفتهم لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، بل وبعدهم عما كانوا يتشدقون به من احترام (الرأي المخالف) أو ما أسْموه (الرأي الآخر) ومنح الحرية لجميع الأطراف، ودعواهم بالانفتاح على القول الآخر...، إلى غير ذلك من عباراتٍ طنانة وألفاظٍ رنانة؛ باتت جوفاء باهتة، أشغلوا بها الناس ردحاً من الزمن، ثم كان ماذا!
لقد كشف الله عور قولهم وزيف دعواهم، فكذّبت أفعالهم أقوالهم، وكرّ ليلهم على نهارهم، وتبين أنهم أمشاجٌ مبتلون بالتغريب، ودعاة فتنة، وأبواق بدعة، ومعاول هدّامة؛ بأقلام مأجورة، وأفعال مأزورة، وعقولٍ مُسيَّرة، وفكرٍ مُضلِّل؛ حسيبهم الله.
فانظر لهولاء الصخّابون في الصحافة؛ كيف كالوا بمكيالين، وما الشمس بخافية على ذي عينين، وقديما قالت العرب: «الشيء من معدنه لا يستغرب»، فكل من ينادي بفصل الدين عن الحياة، أو يرى فلسفة في الحياة غير ما يراه الدين، ويرضى بأن يكون بوقاً لأقوام لا خلاق لهم ولا حض في الآخرة؛ فهذه دعواه. ومع أن دعواهم لم تكن غائبة على أهل العلم وحماة المجتمع المسلم، إلا أن الله أظهرها للعامة والخاصة، وفضحهم بأيديهم وأيدي المؤمنين؛ وهذه سبيل المنافقين، قال سبحانه: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُ مْ فَلَعَرَفْتَهُم ْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّ هُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد:30]. نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهداية.
وقد بلغت الجرأة ببعضهم إلى تحزيب المجتمع الواحد، وتصنيفه حسب أهوائهم وشهواتهم، في دعوىً آثمة تفوح منها ريح الجاهلية، والله عز وجل قد أمر بالاجتماع والتآلف في مواطن كثيرة من كتابه العزيز، فالكون كله لله والخلق خلق الله تحت شرع الله، قال سبحانه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:92]. ولا ينقضي عجب المسلم وهو يتابع جرأتهم في ذلك، وتقسيمهم المجتمع بكل مقوماته ومؤسساته إلى قسمين وحزبين؛ لسان حالهم "إن لم تكن معي فأنت ضدي"، فلم يكن الأمر سجالاً علمياً يصوّبه الدليل، ويزيّنه الأدب، ويحتويه الحلم؛ بل شهوات وشبهات؛ ظلمات بعضها فوق بعض، فإذا نشدت أحدهم الحجة أبلس وخنس، وهيهات أن يعقد لهم مسلم خنصره؛ فإنما هو دين، وما هي إلا جنة أو نار.
بل لم يتورع بعضهم من استعمال العبارات الساقطة، والألفاظ النابية، حتى لكأنه يلمز هيئة علمية ينتسب لها كبار أهل العلم بما قد صانهم الله عنه، فما هي إلا كلمات مشاغبة تدل على فكر صاحبها وعلمه وأدبه، وقد قالت العرب قديما «كل إناء بما فيه ينضح»، فما أساء صاحبها إلا إلى نفسه، ولا وصف في قوله إلا شخصه.
إذا ساء فـعل المرء ساءت ظنونه وصدق مـا يعتاده من توهم
أصادق نفس المرء من قبل جسمه وأعرفـها في فعـله والتكلم
وإن الإنسان ليعجب من السماح لمثل هؤلاء بالكتابة في صحفٍ سيّارة تتلقفها أيدي الناس، وهم إنما يسعون بخيلهم ورجلهم لهدم المجتمع وتفكيك لحمته وزعزعة قواعده وتفتيت أخلاقه، والشيطان يؤزهم على ذلك أزّاً؛ مصادمين مشاعر الناس في تحدٍّ لرغباتهم وقدحٍ في مسلمات دينهم، فمن لم يزعه خوف أو أدب من الطعن في مؤسسة علمية يسمع صوتها أغلب المسلمين في أرجاء العالم، وينظر لرأيها المجتمع بأسره من حاكم ومحكوم؛ فكيف يُرجى خيره أو يؤمن شره؟
ولسنا في حاجة لسوق كلامهم فقد كرعت بهم الصحف، وبالت وثلطت بسُمّهم الزعاف، كما لسنا بحاجة للتصدي له ورده، فليس فيه مستمسك علمي يعارض بمثله، وإنما هو الخوض في الشريعة وأخلاق المسلمين، وهذا هو المجتمع بحكمه وحاكمه ومحكومه. إلا أنا ندعوهم للقراءة في محاسن الإسلام وحكم تشريعاته ومقاصده، وكيف أنه انتظم الدين والدنيا في نظام شرعي كوني واحد، فهو دين الفطرة الذي أكمله الله لنا ورضيه وأتم به علينا نعمته، فيه من القطرة إلى القنطرة، ومن الجرة إلى المجرة، جمع الدين والدنيا، والأولى والآخرة، والحياة والكون، والسماء والأرض، والبشر والملائكة، والجن والإنس...؛ فمن عدّل أو بدّل فإنما خصمه الله. فندعو الجميع بدعوة الله في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف:56]. فكل نظام شرعي يخلّ به أشخاص؛ قابله من الفساد الكوني، بقدر ذلك الخلل.
إن مثل هؤلاء الكتبة ممن أمضى قلمه في هدم شرائع الإسلام، والتعدي على حرمات العلم؛ لحري بالعاقل أن يشفق عليهم من أنفسهم، وأن يسعى لتبصيرهم والأخذ بيدهم أو على يدهم؛ قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر:8]. فهذا دين الله وشرعه، وهو حاميه وراعيه.
ويا ليت شعري فقد أصبح المسلم وهو يحاول أن يأخذ بأيدي هؤلاء للحق، كأنه إنما يعرض لهم الإسلام ويبين لهم حكمه ومحاسنه، وسبْق المسلمين في كثير من العلوم حين استبْقوا دينهم، وحَمَوه وصانوه وعظّموه، وكيف أن أعظم عصور النهضة العلمية للمسلمين إنما كانت مواكبة لأيام عزهم وصونهم لحمى دينهم وامتثالهم لأحكامه، ولو كلف أحدهم النظر في كتب التاريخ الإسلامي لتجلت له الحقائق، التي خضع لها تاريخ العلوم الغربية، فدونت الشهادات بذلك من أيدي المنصفين منهم.
لقد زاوج الإسلام بين العلم والعمل، والحياة والكون، في نظام واحد عجيب، بل كسر الإسلام أصنام الجهل، وحطم أغلال الفكر والنظر، فحث على السير في الكون وتأمل صنع الله وبديع خلقه، وامتن بالتسخير ورغب في البحث والانتفاع، ووعد بتبصير الآيات والشواهد في الآفاق والأنفس، فما أخذت أمة بأسباب العلم والنظر إلا وفتحت لها آفاق من العلم والمعرفة، وإنما كان تخلف المسلمين حين تخلوا عن دينهم، فتولت عنهم دنياهم حين أخلدوا إلى الشهوات وهتك الحرمات.
نحن أمة طريق دنياها بدينها، وهذه سنة الله للإسلام الذي ارتضاه وأكمله وأتمه لنا، فحري بمن امتطى هواه وتمنى على الله الأماني، أن يفتش في نفسه وينظر أين الإسلام من قلبه وبيته وزوجه وولده وعمله وماله وقلمه، ثم ليحتكم إلى الإسلام إن كان عاقلا، وليهتف بالدين إن أراد الدنيا، ولا يعمل معوله في دينه لإقامة دنياه، فتزهده الدنيا ويهلكه الدين، فيخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:103-104].
وقبل بيان الحكم الشرعي لما نحن بصدده، نذكّر أنفسنا وإياهم بمراقبة الله الذي يحصي الأعمال، ونذكرهم بأن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل، كما ندعوهم إلى كلمة سواء بيننا وبينهم بأن نحتكم جميعا إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ينظر كل كاتب إلى ما كتب؛ أهو لله أم للنفس والهوى.
نسأل الله أن يهديهم للحق والصواب، وأن يأخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وأن يكفيهم ويكفي المسلمين شر أنفسهم.
وهذا أوان الشروع في بيان الحكم الشرعي للاختلاط، مؤيداً بالدليل الشرعي، مستمداً التوفيق والسداد من العلي القدير.
إن الاختلاط محرمٌ شرعا؛ سواءً في التعليم أو العمل، وسائر الاجتماعات الخاصة والعامة، ولا عهد لأهل الإسلام باختلاط نسائهم بالرجال الأجانب؛ والأدلة على ذلك كثيرة؛ منها:
الدليل الأول: قول الله تعالى في سورة النور: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾[النور:30-31].
فهذه الآية محكمةٌ بينةٌ في بيان مقصدٍ من مقاصد الشارع؛ وهو تزكية المؤمنين والمؤمنات بغض أبصارهم وحفظ فروجهم.
فإذا نظرنا إلى الاختلاط المنظم الذي يراد منه التقريب بين الجنسين ساعات طويلة وشهور مديدة، (وليس مجرد اجتماع في مكان عام لا لبث فيه سوى لحظات يقضي فيها كل حاجته ويمضي) هل هو محقق لهذا المقصد ومتفق معه أو منافٍ له؟
سيكون جواب المنصف: إن هذا منافٍ له أشد المنافاة، حتى قالت إحدى الغربيات: "إن الاختلاط جريمة في حق الإنسانية"، والحق ما شهدت به الأعداء.
وقد خلصت دراسة حديثة من جامعة (هارفرد) بأن المدارس النسائية (مقارنة بالمدارس المختلطة) تُحقق أهدافاً تربوية ودرجات عليا في العلوم والقراءة والقيم الذاتية، وتغيب المشاكل السلوكية والعلاقات بين الجنسين، والتخلف عن الحضور وغير ذلك.
وهذا ما يراد لنا أن نكتشفه ولكن بعد التجربة العملية والتضحية بالكثير، مع الإغماض عن التجارب والدراسات الحديثة؛ فضلاً عن اطراح الأحكام الشرعية والآداب المرعية. والله المستعان.
الدليل الثاني: قول الله تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ [النور:31].
إن من كمال الشريعة السمحة عدم التفرقة بين المتماثلات وعدم الجمع بين المتنافيات، وكل مسلم صحيح الديانة، مستقيم العقل، سليم القلب؛ يعرف حكم الاختلاط بمجرد تأمله هذه الآية الكريمة.
فهل يظن عاقل أن الشارع الحكيم ينهى المرأة لابسة الخلخال من تحت الثياب أن تضرب برجلها الأرض حتى لا يسمع الرجال حسه، ثم يبيح لها أن تجلس معه وتدرس بجواره مع ما يصاحب ذلك (ولا بد) من سماع صوتها، ورؤية شيء من جسدها، وربما الاحتكاك بها؟ إن الشارع منـزّه عن ذلك من غير شك والحمد لله.
الدليل الثالث: في العلم والتعليم؛ فقد أخرج البخاري (101) ومسلم (2633) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك. فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار). فقالت امرأة: واثنتين؟ فقال: (واثنتين).
وهذا يفيد أن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام في التعليم بلا اختلاط؛ وإلا لما قالت النساء ما قلن.
ولو كان ذلك جائزاً لما تأخر نساء الصحابة عن تلقي العلم، ولما طالبن بمجلسٍ يخصهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن من هن في الحرص على الخير.
ولذا كان تبويب البخاري رحمه الله على هذا الحديث: (باب: هل يجعل للنساء يوماً على حِدة في العلم).
الدليل الرابع: في التعليم أيضاً؛ ما أخرجه البخاري (98) من حديث ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال فظن أنه لم يُسمع النساء، وفي رواية: ( ثم أتى النساء، فوعظهن وأمرهن بالصدقة...). وقد بوّب عليه: (باب عظة الإمام النساء وتعليمهن).
وهذا يدل على أن مجلس النساء متميزٌ عن الرجال وخاصٌ بهن.
الدليل الخامس: في الصلاة والانصراف منها؛ فقد أخرج البخاري (870) من حديث أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم، قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم، قال: (نُرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال).
قلت: والقائل هو ابن شهاب، كما في (837، 849)، وهذا الذي قاله قالته قبله راوية الحديث أم سلمة رضي الله عنها، ففي رواية في صحيح البخاري (850) قالت: كان يسلم، فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتبين أن جلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان من أجل انصراف النساء قبل الرجال؛ لئلا يؤدي هذا إلى اختلاط الرجال بالنساء.
مع أن وقت الانصراف من الصلاة قصير، فأين هذا من اختلاط الشباب والفتيات لساعات عديدة وأشهر طويلة؟
الدليل السادس: في الصلاة أيضاً؛ ما أخرجه البخاري (872) من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يصلي الصبح بِغَلَس، فينصرفن نساء المؤمنين، لا يُعرفن من الغلس، أو لا يعرف بعضهن بعضاً. وقد بوّب عليه: (باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد).
فهذا يفيد أن النساء كن ينصرفن فور انتهاء الصلاة، لذلك قالت عائشة رضي الله عنها: "لا يُعرفن من الغلس" ولم تذكر الرجال؛ لأنهم يمكثون حتى تنصرف النساء.
الدليل السابع: في الصلاة أيضاً؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بترك باب في المسجد خاص بهن لدخولهن وخروجهن:
قال أبو داود (462): (باب في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال): عن عبد الله بن عمرو وأبو معمر، عن عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو تركنا هذا الباب للنساء ). قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. وقال غير عبد الوارث: "قال عمر"، وهو أصح. حدثنا (463) محمد بن قدامة بن أعين، عن إسماعيل، عن أيوب، عن نافع قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بمعناه. وهو أصح. اهـ من أبي داود.
قلت: يعني أن الصحيح في هذا الخبر وقفه على عمر رضي الله عنه.
وقد أخرجه في موضع أخر (571) فقال: (باب التشديد في ذلك)، وقد بوب قبل ذلك: (باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد) وذكر حديث عائشة (569) رضي الله عنها: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منع نساء بني إسرائيل. ثم ذكر حديث عبدالله بن مسعود (570) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها).
ثم روى أبو داود (464) من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير، عن نافع قال: (إن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يُدخل من باب النساء).
قلت: رواية عبد الوارث أخرجها الطبراني في الكبير والأوسط، وأبو نعيم في أخبار أصبهان، والباغندي في أماليه، وابن بشران؛ جميعم من طريق عبد الله بن عمرو.
وأما ما يتعلق بالترجيح بين الروايتين؛ فعبد الوارث وابن علية متقاربان في أيوب، فكلامهما من كبار الحفاظ، لذا قدم بعض الحفاظ ابن علية، وقدم آخرون عبد الوارث، وأما رواية: بكير (وهو ابن الأشج) عن نافع أن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يدخل من باب النساء، فليست صريحة في أن عمر هو الذي أمر بذلك،؛ إذ هي محتملة أن يكون الذي أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفيذا لذلك كان عمر رضي الله عنه ينهى أن يدخل الرجال من باب النساء.
وإذا كان الصحيح في هذا الخبر وقفه على عمر رضي الله عنه، فهو من الخلفاء الراشدين الذين أمر عليه الصلاة والسلام بالعمل بسنتهم، فقال في الحديث الصحيح: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).
ومن المعلوم أن القرآن الكريم كان ينزل بموافقة عمر رضي الله عنه، ولذا كان عليه الصلاة والسلام يستشيره في الأمور، وفي هذا الخبر أن ابن عمر عمل بذلك فلم يدخل من هذا الباب الذي خصص للنساء حتى توفاه الله عز وجل.
وفي هذا الحديث مشروعية جعل أبواب خاصة للنساء في المساجد، ويلحق به دور التعليم والعمل وغيرهما.
والحكمة في ذلك ظاهرة؛ وهي ألاّ يختلط الرجال بالنساء، مع أن مدة الدخول والخروج قصيرة، فكيف إذا كان هذا الاختلاط في أوقات طويلة؟
ويلاحظ أن في صلاة النساء مع الرجال عدة أمور:
أولاً: الأولى بالمرأة أن تصلي بالبيت، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث، منها قول صلى الله عليه وسلم: (وبيوتهن خير لهن)، مع أن الصلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام عن ألف صلاة، ولا يستثنى من ذلك إلا صلاة العيدين، فقد جاء الحث للنساء بالصلاة في المصلى، وهما لا يقعان إلا مرتين في العام.
ثانياً: إذا خرجت المرأة على المسجد فعليها أن تخرج بدون أن تتطيب، لقوله صلى الله عليه وسلم: (وليخرجن تفلات)، ويدخل في ذلك الثياب الحسان ونحو ذلك مما يكون سبباً للفتنة. قال أبو محمد بن حزم: (ولا يحل لهن أن تخرجن متطيبات ولا في ثياب حسان...). وقال ابن كثير: (يجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحداً من الرجال، بظهور زينة ولا ريح طيب).
وقال ابن دقيق العيد: (فيلحق بالطيب ما في معناه، فإن الطيب إنما منع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم وربما يكون سببا لتحريك شهوة المرأة أيضا فما أوجب هذا المعنى التحق به).
ثالثاً: تخصيص باب لهن يدخلن منه ويخرجن، حتى لا يختلطن بالرجال.
رابعا: أنهن يصلين خلف الرجال، ولا يختلطن بهم؛ بل الأفضل لهن أن يبتعدن عن صفوف الرجال قدر الإمكان، لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها).
وهذا يؤكد حرص الشارع على عدم اختلاط النساء بالرجال، وقد وصف مجرد قرب النساء للرجال بالشر؛ فكيف بالمخالطة؟ لا شك أنها شرٌ من باب أولى.
خامساً: أنهن إذا صلين مع الرجال، فعليهن أن ينصرفن مباشرة بعد انتهاء الصلاة إلى بيوتهن، وأما إمام المسجد ومن معه من الرجال، فينتظرون قليلاً حتى ينصرف النساء، كما سن لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأمور الخمسة أدلتها ظاهرة.
وهناك أمر سادس اختلف فيه: وهو شهود النساء للصلاة في المساجد، هل هو خاص بالصلوات الليلة لكون الليل أستر لهن، أم أنه يشمل صلاة النهار أيضا؟ لأنه إذا أبيح لهن أداء صلاة الليل في المساجد، فتكون صلاة النهار من باب أولى، فيه خلاف بين أهل العلم. فأين هذا مما نحن بصدده من جلوس الشباب والشابات في مقاعد الدراسة مختلطاً بعضهم بالبعض الآخر، وينظر أحدهم إلى الآخر، ويتحدث بعضهم إلى بعض، ولذا لا يعرف هذا في الإسلام.
الدليل الثامن: في البيعة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس في معزلٍ عن الرجال؛ وقد بوب البخاري في صحيحه فقال: (باب: بيعة النساء، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم).
الدليل التاسع: في الطُرُقات والأسواق؛ فقد أخرج أبو داود (5272) من حديث: عبدالله بن مسلمة، عن عبد العزيز (بن محمد الدراوردي)، عن أبي اليمان (الرحال)، عن شداد بن أبي عمرو بن حِماس، عن أبيه، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: ( استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحقُقْن الطريق، عليكن بحافات الطريق )، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. قلت: وشداد فيه جهالة.
وخالف شداد؛ الحارث بن الحكم، فرواه (كما عند الطبراني والبيهقي في الشعب) عن أبي عمرو بن حماس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس للنساء سراة الطريق). قلت: وهذا منقطع، والحارث فيه جهالة.
وللحديث طريقٌ أخرى صححها ابن حبان (5601)؛ من حديث: مسلم بن خالد (الزنجي)، عن شريك بن أبي نمر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس للنساء وسط الطريق ). قلت: ومسلم بن خالد الزنجي من مشاهير الفقهاء في زمانه، حتى قال إبراهيم الحربي:كان فقيه أهل مكة. وكان من أهل الفضل كما قال ابن سعد: كان فقيهاً عابداً يصوم الدهر، وكان كثير الغلط في حديثه.
قلت: إنما تكلموا فيه لسوء حفظه كما قال ابن سعد .
والحديث بمجموع طريقيه فيه قوّة؛ وله شواهد من حيث المعنى ، كما في حديث أم سلمة المتقدم.
الدليل العاشر: ما جاء في الصحيحين (البخاري 1088، ومسلم 1339) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها)، وفي رواية: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الأخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم).
الدليل الحادي عشر: ما جاء في الصحيحين أيضاً (البخاري 1862، ومسلم 1341) مرفوعا: (لا يخلو رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجّة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(انطلق فحج مع امرأتك).
والحكمة في هذا ظاهرة، وهي الحفاظ على المرأة لئلا تحتاج إلى الرجال الأجانب في قضاء حوائجها أثناء السفر، فتختلط بالرجال فإذا كان معها محرم منها فسيكفيها ذلك.
الدليل الثاني عشر: ما رواه البخاري (5240، 5241) من حديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأةُ المرأةَ فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها). وأخرجه أحمد (36092) والطبراني في الكبير (10247) بلفظ: (لا تصفن المرأة لزوجها المرأة كما ينظر إليها).
ووجه الشاهد من هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى النساء أن يصِفن لأزواجهن النساء الأخريات؛ كأنهم ينظرون إليهن، وذلك خشية الفتنة.
فإذا كان وصف المرأة للأخرى بحضرة الرجال الأجانب لا يجوز؛ فمن باب الأولى عدم جواز اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات عنهم؛ لأنهم والحالة هذه لا يحتاجوا إلى وصف هؤلاء النسوة؛ لاختلاطهم بهن ونظرهم إليهن، وهذا أبلغ في الفتنة من الوصف؛ فأيهما أولى بالتحريم؟
الدليل الثالث عشر: ما جاء في الصحيحين (البخاري 2035، ومسلم 2175) في قصة صفية بن حيي عندما زارت رسول الله صلى الله عليه وسلم في معتكفه فقام معها ليوصلها إلى حجرتها فمر في أثناء ذلك رجلا من الأنصار فأسرعا لكي يبتعدا عن أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (على رسلكما إنها صفية) فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا).
والشاهد من هذا: أن الرجلين الأنصاريين عندما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله، ابتعدا؛ مع أن الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على الإتيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليه والجلوس معه، فما منعهم من ذلك إلا أهله.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما) ليس لعدم مشروعية هذا الفعل، وإنما دعاهم إلى عدم الإسراع حسب، وأن التي معه هي زوجته لئلا يقذف الشيطان في قلوبهما شيئا؛ كما بين ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أن المتقرر عندهم أن الرجل يبتعد عن النساء الأجنبيات .
الدليل الرابع عشر: في الحج والطواف، مع أن هذه العبادة العظيمة تختلف عن باقي العبادات بسبب كثرة الناس فيها واجتماعهم في أماكن معينة وفي وقت واحد، ومع ذلك منع الإسلام من الاختلاط فيها. أخرج البخاري (1618) من حديث ابن جريج أخبرني عطاء (إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال) قال: كيف يمنعهن؟ وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يُخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجْرَةً مع الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين. قالت: " عنك"، وأبت . وكن يخرجن متنكراتٍ بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهنّ كن إذا دخلن البيت؛ قمن حتى يدخلن وأُخرِج الرجال . وكنت آتي عائشة، أنا، وعبيد بن عمير، وهي مجاورة في جوف ثبير. قلت: وما حجابها؟ قال: هي في قبة تركية لها غشاء، وما بيننا وبينها غير ذلك، ورأيت عليها درعا مورّداً.اهـ
وهذا ظاهر أن الاختلاط في عهد الصحابة غير جائز، وأنهم يأمرون بالمنع منه.
ومعنى (حجْرَة) أي: معتزلة الرجال، وفي رواية:(حجزة) وهي رواية عبد الرزاق؛ فإنه فسره في آخره فقال: " يعني محجوزاً بينها وبين الرجال بثوب ".
وقوله: (فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين. قالت: " عنك"، وأبت ).
دليلٌ على أن اختلاط الرجال بالنساء لو كان جائزاً؛ لما امتنعت عائشة رضي الله عنها وهي أم المؤمنين وأفقه النساء، وأبت أن تستلم الحجر الأسود مع المرأة، مع فضل استلام الحجر الأسود.
وقوله: (قلت: وما حجابها؟ قال: هي في قبة تركية لها غشاء).
دليل على احتجابها وابتعادها عن الرجال وعدم اختلاطها بهم.
فمن يجرؤ بعد هذا أن ينكر أن الاختلاط مصطلح شرعي، له حكمه الواضح البين؟
وقوله (يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال) أي كن يؤخرن طوافهن إلى الليل؛ لأن الليل أستر لهن، ومن المعلوم أنه لم يكن هناك مصابيح كما هو الآن، ومع ذلك كله كنّ متنكرات أي مستترات، كما في رواية عبد الرزاق، وإذا أردن أن يدخلن البيت أي (الكعبة) خرج الرجال، وهذا يدل على أن ذلك ليس خاصاً بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذكر النساء عموماً، وتقدم أن عائشة أنكرت على المرأة ولم تذكر لها إن هذا الفعل خاص بها، ومن المعلوم أن قول الصحابي الموافق لقواعد الشرع لا يمكن ادعاء الخصوصية فيه.
ووقع في رواية الفاكهي: كن إذا دخلن البيت سُترن، أي ستر النساء عن الرجال وهذا زيادة على احتجابهن باللباس وكونهن يفعلن ذلك في الليل، ولذا قال ابن حجر في شرح تبويب البخاري على هذا الحديث (1619): "(باب طواف النساء مع الرجال) أي هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن"اهـ.
قلت: والذي دل عليه الدليل هو الثاني، أي أن يطفن على حدة بغير اختلاط؛ لأن انفرادهن بالمسجد وإخراج الرجال منه لا يمكن، واختلاط الرجال بالنساء قد نفاه الراوي فلم يبق إلا الأمر الثاني وهو أن يطفن على حده من غير اختلاط.
ولذا في الحديث الثاني الذي أورده البخاري تحت هذا الباب، وهو حديث أم سلمة عندما قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال: (طوفي من وراء الناس وأنتي راكبة)، وهذا أبلغ من الذي قبله، فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تطوف من وراء الناس، أي الرجال؛ لئلا تخالطهم، مع أن القرب من البيت أثناء الطواف أفضل وأرفق بها؛ لأنها شاكية، ومن المعلوم أنها كلما ابتعدت ستطول عليها مدة الطواف، ومراعاةً لشكواها أمرها أن تركب.
قال ابن حجر: "وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها ولا تقطع صفوفهم أيضا، ولا يتأذون بدابتها"اهـ.
الدليل الخامس عشر: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ [الأحزاب:59].
فبعض من في قلبه مرض لا يدع المرأة المارة في الشارع أو السوق في حالها، بل يتعرض لها بكلام أو غير ذلك، فكيف إذا جلست بجواره وربما خلت به في ما بين المحاضرات وفي ساعات العمل والتدريب المشترك الذي سيفرضه جو الدراسة المختلط؟
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء.
الدليل السادس عشر: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء:32].
وتأمل قوله تعالى (ولا تقربوا)؛ فلم يقل (ولا تفعلوا)؛ فكل سبيل موصل له فهو مُحرّم. ومما يقرّب للزنى: اختلاط الشباب بالفتيات الساعات الطوال، فبهذا تتهيأ أجواء الفتنة، وتنتظم بيئة المنكر، والشيطان مع هذا يرتع؛ فلا تسل بعدُ عن العلاقات المحرمة بين الجنسين، والله يعصم عباده.
الدليل السابع عشر: ما قصّه الله عز وجل من قصة موسى عليه السلام مع ابنتي شيخ مدين؛ قال تعالى: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص:22-23].
ويفهم من هذه الآية أنه لو كان اختلاط الفتاتين بالرجال أمراً جائزاً؛ لسقين الماء لمواشيهن، مع الرجال الرعاء، ولم ينتظرن حتى يذهبوا بمواشيهم. والله أعلم.
الدليل الثامن عشر: ما قصّه الله عز وجل من قصة يوسف عليه السلام مع امرأة عزيز مصر؛ قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْ ُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف:23].
قلت: ولو لم يكن هناك اختلاط بين المرأة ويوسف عليه السلام، وتهيئة الأجواء لذلك؛ لما تجرأت على المراودة.
الدليل التاسع عشر: ومن الأدلة الواضحة البينة في منع اختلاط الرجال بالنساء - وهو خلاصة ما تقدم من الأدلة - قوله عز وجل: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب:33]. وهي آية خوطب بها أطهر وأشرف نساء الأمة، وفي ذلك تنبيه على شمول حكمها لكل نساء المسلمين، إما بدلالة اللفظ؛ فيكون من مفهوم الموافقة، أو على الأقل من باب المعنى؛ فيكون قياساً جلياً، وكلاهما حجة، وليس لادعاء الخصوصية فيها نظر صحيح مستقر أو سلف معتبر، والحكمة من الأمر بقرار المرأة في البيت: حفظها وإبعادها عن مخالطة الرجال الأجانب.
الدليل العشرون:
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب:53].
ويفهم من هذا بطريق الأولى أن انعزال النساء وعدم اختلاطهن بالرجال الأجانب؛ أطهر للقلوب، وأبعد عن الريبة، ومواطن الفتنة.
الدليل الحادي والعشرون:
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾. [النور:30].
وقد أخرج مسلم في صحيح (2159) من طريق أبي زرعة عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري.
وإذا تأمل العاقل في البيئة المختلطة بين الشباب والفتيات؛ يعلم أنها من أبعد ما يحقق هذا الأمر الشرعي بغض البصر وحفظ الفرج.
الدليل الثاني والعشرون: ما جاء في قصة الإفك، فقد أخرج الشيخان (البخاري 2661 مسلم 2770) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأقرع بيننا فخرج سهمي، فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقدٌ لي قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، فأقبل الذين يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه أحد، فظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي...) الحديث.
قلت: والشاهد من هذا هو ابتعاد الرجال عن النساء كما في هذه القصة، فكان الذين يرحلون الهودج يبتعدون عنه جدا، من أجل ركوب النساء فيه، ولذا لم يعلموا أن عائشة رضي الله عنها لم تكن في الهودج؛ بل ظنوا خلاف ذلك، وذلك لبعدهم. فإذا كان هذا في حال ركوب المرأة وهو وقت قصير جدا، ومع ذلك يبتعدون عنها، فكيف يجوز الاختلاط في مقاعد الدراسة!.
الدليل الثالث والعشرون:
ما أخرجه البخاري (5232) ومسلم (2172) من حديث زيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء). فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت).
وإنما شبه النبي صلى الله عليه وسلم الحمو بالموت؛ لأن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه، والفتنة تحصل به أكثر من غيره؛ لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن يُنكر عليه بخلاف الأجنبي.
وهذه الصفة التي في الحمو (قريب الزوج)؛ موجودة بعينها في الزمالة في التعليم، فالزميلة تتباحث مع زميلها، فتذاكره ويذاكرها، ويخلو بها من غير التفات نظر؛ لأنه زميلها وشريكها في دروسها فهو موت كما ترى.
الدليل الرابع والعشرون:
سد الذريعة الموصلة إلى فاحشة الزنا، وهذا واجب بإجماع المسلمين وقد دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
ومن المعلوم للمتابع؛ أن اختلاط الجنسين يفتح الباب على مصراعيه لذريعة الزنا، ولا ينازع في ذلك إلا من مكابر، أو بعيد عن الواقع.
وقد سئل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن هذه المسألة بعينها، فقال: (حضرة الأخ المكرم رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت حفظه الله ووفقه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد وصلنا خطابكم رقم 35 في 27 محرم 1389هـ تسألون فيه عن حكم الشرع في اختلاط الجنسين في الدراسة الجامعية وما يترتب على ذلك من المفاسد.
والجواب عما سألتم عنه وفقنا الله وإياكم:
أن من الغريب أن يوجد في أمة مسلمة عربية اختلاط الجنسين في الجامعات والمدارس مع أن دين الإسلام الذي شرعه خالق السموات والأرض على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يمنع ذلك منعا باتا والشهامة العربية والغيرة الطبيعية العربية المملوءة بالأنفة تقتضي التباعد عن ذلك وتجنبه بتاتا، وتجنب جميع الوسائل المفضية إليه، وسنذكر لكم في جواب سؤالكم وفقنا الله وإياكم طرفاً من الأدلة القرآنية والسنة النبوية، ثم نشير إلى شهامة الجنس العربي وابتعاده عن التلبس بما لا يليق، ولو لم يكونوا مسلمين...)[1] إلخ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد
الرياض- ذو القعدة 1430هـ