من عجائب من يمتهن تحقيق الكتب
منتقاة من مقالات للشيخ المحدث أبي المعاطي حفظه الله
(1)
السلام عليكم ورحمة الله
تحيرت ، من أين أبدأ ، وإلى أين سأصل ، وسفينتي خرقاء ، ودابتي عرجاء ، والليل حالك السواد ، فلن يعود أحمدُ بن حنبل ، ولا تاج الدنيا ، الإمامُ البخاري ، ولن يُعَقِّب على مقالتي أبو الحسن الدارقطني ، ليضرب على يدي ويقول : ليس هذا بعشك ، فادرجي.
أخي تسأل عن التحقيق ، أي تحقيق ؟ وأين التحقيق ؟
سل عن التلفيق ، والتلزيق ، والجهل ، والمرض ، والخيبة التي حطت على الرؤوس.
أمامي الآن ، وأنا أكتب آلاف الكتب ، بأغلفة جميلة ، وأوراق صقيلة ، وألوان كأنك في (بير حاء) داخل بستان أبي طلحة ، فإذا ما اقتربت منها ، وفتحت كتابا ، شممتَ رائحة مقابر خيبر !!
لا تكاد تجد فيها راحلة ، حتى اسم الكتاب تم تحريفه ، واسم المؤلف.
وفي ليلة ، غاب فيها القمر ، بل مات ، عاد ما يُعرف بالتحقيق الحديث ،
وأقسم لك بالله العظيم ، كنت جالسًا مع واحدٍ ، لو ذكرتُ اسمه الآن ، لرموني بالنعال المُخَصفة ، وكنا نحقق كتابا ، وكَوْن واحد مثلي يفعل ذلك ، فهذا دليل أيضًا على شدة سواد الليل ، وجاء اسم راوٍ في المخطوط ، إما أن يكون : عيينة ، أو عتيبة ، أو غنية ، فعرضت الأمر عليه ، من هو ؟ فقال لي بلهجته العراقية : يامْعَوَّدْ ... استنقي واحد منهم.
ومعناها ـ بالمصري ، وهي لهجتنا ـ : يا أخي ، اكتب أي حاجة !!
ملحوظة للأمانة ؛ قد يظن البعض أن هذا المذكور هو الدكتور بشار معروف ، لأن الجميع يعلم الصداقة التي بيني وبينه ، ولكن للحق ؛ الدكتور بشار من أتقن من رأيتُ في حياتي ، ومن أجل البحث عن كلمة ، كنا نقضي أيامًا في البحث.
ونعود للقمر الذي غاب ، فظهرنا لنحقق الكتب في هذا الليل.
ولكن هذه الأُمة أبى الله تعالى أن يموت فيها الخير ، فظهرت في القرن الأخير اتجاهاتٌ في التحقيق ، برز منها على سبيل المثال : أحمد شاكر ، وعبد الرحمن المعلمي اليماني ، ومحمد ناصر الدين الألباني ، وشعيب الأرنؤوط ، وبشار عواد معروف.
وأنا هنا لا أتحدث عن هؤلاء الذين يتنافسون على ألقاب مُحَدِّث مصر ، أو علامة العصر ، أو حجة الإسلام ، والواحد منهم يقوم بتحقيق ، أو بتلفيق ملزمة ، أو ملزمتين ، ثم يقول صبيانه : إليكم ترجمة محدث شمال إفريقية ، ثم يذكر شيئًا من هراء ، وينسى شيئًا واحدًا ، هو أن يكتب في آخره : صلى الله عليه وسلم ، أو ... (أستغفر الله العظيم).
بل إنني أتحدث عن الذين خدموا ، وعملوا ، وأخرجوا للناس ما كان ضائعا ، وأصابوا ، وأخطؤوا ، وأصبح طالب العلم يشعر بالبُشرى ، قبل أن يفتح كتابا على غلافه اسم واحد منهم.
ومن النكت الظراف : أن الشيخ أحمد شاكر كان يكتب في مقدمة كتبه : وكتب أحمد شاكر ـ بزيادة الواو على (كتب) ـ فظن الصبيان ، والمحدثون الجدد ، أن السِّرَّ في هذا الحرف ، فاهتموا به ، واقرأ أي مقدمة في هذا الظلام المظلم ، سترى كل واحد منهم يكتب : وكتب أبو ... ، بمدينة ... ، بعد التراويح.
والأمر في التحقيق على النحو التالي :
دراسة المخطوطة قبل تحقيقها.
لأن هذه الدراسة سيترتب عليها أمور دقيقة جدًّا ، لأن الذي يقوم بالتحقيق هذه الأيام ، كما ذكرتُ ، تحت جنح الليل وجناحه ، يجد ورقات ، كتبت بخط قديم ، فيقوم بالتحقيق ، ويقول : في الأصل كذا ، مع أن الذي في يده ورقات ليس لها أصل ، ولا نَسَب ، ويجب أن يبدأ التحقيق بما يلي :
ـ هل هذه المخطوطة بخط المؤلف ؟.
ـ هل هي بخط أحد تلاميذه ، وثبتت مقابلة المؤلف عليها ؟.
ـ هل كتبت في عصر المؤلف ؟
ـ أم وجدوها بعد ذلك ، منسوخةً عن أصول سبقت ؟
وكل درجة من هذه لها أسلوب في التحقيق يختلف عن الآخر.
1ـ إذا كانت بخط المؤلف ، كما هو الحال في بعض أجزاء ((تهذيب الكمال)) ، وقد رأيت الدكتور بشار وهو يحققه ، لدرجة أنه كان يستشير واحدا مثلي ، مع قلة حيلتي ، وضعف حالي ، فهنا ؛ لا يحل للمحقق ، مهما كانت درجته أن يغير حرفا ، ولو كان خطأً بَيِّنًا ، بل عليه إثبات ما جاء في الأصل ، ثم يكتب تعليقه في الحاشية.
2ـ إذا كان ناسخه واحد من تلاميذ المحقق ، المعروفين بالدقة ، كابن المهندس بالنسبة للمِزِّي ، وقابل هذا التلميذ نسخته على الشيخ ، فهي تعادل نسخة الشيخ.
3ـ إذا كانت منسوخة في عصر المؤلف ، ولم يثبت اطلاع المؤلف عليها ، فهذه تأتي في المرتبة الثالثة ، ويمكن تغيير الخطأ في الأصل ، ولكن بحذر شديد ، لا يعرفه إلا من كابد مشقة التحقيق ، وقطع في ذلك عمره طولا وعرضا ، وليس لصبيان الملازم والورقات.
4ـ النسخ المتداولة ، والمنسوخة عن منسوخ ، عن منسوخ ... فهذه ليست أصولا ، فقد تداولتها عشرات الأقلام ، ومنها المتردية ، والنطيحةُ ، وما أكل السبُعُُ !!
ولا يكتب المحقق : وقع في الأصل إلا على سبيل المجاز ، أيُّ أصل هذا ؟! ، إن هذا فرعُ فرعٍ.
وهنا أيضا يحتاج الأمر إلى محقق بارع ، أمينٍ ، خبيرٍ بأمور التحقيق.
وفي هذه الحالة نجد أنفسنا أمام عَرَضٍ بعيدٍ ، وسفرٍ إلى المجهول.
فيبدأ البحث في اتجاهين :
الأول : النسخ المُساعِدة.
والثاني : المؤلف ؛ شيوخه وتلاميذه.
وأضرب مثالاً :
كنت أعمل عند الإخوة ، (جماعة السيد أبي المعاطي) ، وهم يحققون مسند الإمام أحمد ، والذي صدر عن عالم الكتب ، والذي سرقه حسان عبد المنان في طبعة الأفكار الدولية ، ورأيت التالي :
ـ جميع النسخ الخطية التي وقفوا عليها ، وكذلك التي وقف عليها محققوا طبعة الرسالة ، وهناك تعاون مستمر بين الفريقين ، لا يوجد فيها نسخة واحدة عتيقة ، يعتمد عليها ، وكلها نسخ متوسطة التاريخ ، ناقصة.
ـ بدأ البحث عن النسخ المساعدة ، مثل : غاية المقصد في زوائد المسند ، وأطراف المسند ، وجامع المسانيد والسنن ـ ولا أقصد المطبوع منه عن دار الكتب العلمية ، لأن المطبوع يصلح فقط للدعاية ، والإعلان ، والديكور.
ـ ثم البحث عن الكتب التي نقل عنها أحمد بن حنبل ، رضي الله عنه ، المسند ، مثل مصنف عبد الرزاق وغيره ، والكتب التي نقلت عن المسند.
ـ ثم الاستعانة بمصادر الحديث المتوفرة من جميع أنواع صنوف الحديث ، للمقارنة ، والتمحيص.
ثم يبدأ العمل.
إخواني ؛ أصابني التعب من البداية ، وازداد الآن ، لأنني وأنا أكتب أشعر بالحياء من نفسي ، لأنني أعرف قيمة الذين كتبوا في الحديث من قبل ، وهذه مشكلتي ، ففي الماضي كانوا ينتظرون أبا زُرعة الرازي ، وحماد بن زيد ، وسفيان الثوري ، فيأتيهم البدر في الليلة البيضاء ، لأنهم لم يعرفوا السواد والظلمات.
والآن ، كما ترون ، يكتب واحد مثلي ، جاهل ، كل بضاعته أنه يحسن تقليب الورق ، وحتى هذه لا يحسنها ، ويسير في ميدان كان فارسُه بالأمس الزهري ، ومالك بن أنس.
فسامحوني ، لو كنت أعلم أن واحدًا منهم سيعود ، لدخلتُ دار أبي سفيان ، وأنا آمِن.
والسلام