الشيخ أبو أحمد عبد الله بن عبد العزيز الهدلق … كاتب قدير ، مشرق الديباجة ، رصين العبارة ، بصير بأسرار الكلمات وروحانيتها ، مرهف الذوق في تألف شواردها وضم أشتاتها ، فتخرج الكلمة من شباة قلمه ، حية نابضة...
وقد توطدت في الآونة الأخيرة ألفة خاصة و صداقة عقلية استحصدت علائقها وتوطدت أواصرها بين أستاذنا ونخبة القراء وذلك بسبب كتاباته الأخيرة في مجلة الإسلام اليوم ومجلة البيان ، التي سلك في نظم دررها وتأليفها طريقة جميلة ، تلذ الذوق ، وترضي القلب ، وتروق العقل ، يترقرق فيها ماء المعنى على قدر اللفظ ، وتشيع فيه الجاذبية دقيقة ساحرة ، وتنقلك إلى تاليتها بسحرها وقوة أسرها ، حتى تفرغ من مقالاته وكتاباته مبهورا مسحورا ، وإن من البيان لسحرا..
والشيخ عبد الله من مواليد مدينة الطائف عام 1388هـ ، وأصله من شقراء. نشأ بالرياض ، و درس في أول عمره في مدينة دبي بالإمارات لظروف عمل والده آنذاك ، ثم أتم تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي في الرياض ، ثم دخل الجامعة وتخرج في كلية أصول الدعوة والإعلام عام 1412هـ .
وقد اتصل الشيخ بأعلام عصره ، واستفاد منهم وجالسهم وحاورهم وراسلهم ، وله مع بعضهم صلة خاصة ، أمثال العلامة ابن باز ، والعلامة بكر أبو زيد ( وبينهما صلة قرابة ) ، والعلامة حمد الجاسر ، والعلامة ابن عقيل الظاهري ، والعلامة محمود الطناحي وغيرهم من أهل العلم .
والشيخ متزوج وله ثلاثة من الأبناء أحمد وعبد العزيز وخالد ... وهو يعمل الآن باحث علمي بوزارة الشئون الإسلامية ، ومستشار لعدد من دور النشر ...
والشيخ عبد الله : بهي الطلعة ، وضاء الوجه ، لطيف المعشر ، خفيف الروح ، سخي اليد ، نقي الفؤاد ، قليل الكلام ، متواضع ودود لإخوانه ، متعاهد لهم ، يعاتبهم إذا حضروا ، ويسأل عنهم إذا غابوا وإن كانوا أصغر منه سناً أو أقل قدراً ..حتي يشعرهم بالحياء والإحراج ...
وقد قامت مجلة الإسلام اليوم في عددها الأخير ( رقم خمسة وستين ، شهر ربيع الأول لعام 1431 هجري ) بإعداد ملف عن : ( القراءة بين الهواية والاحتراف ) ، وأجرت حوارت مع علماء ومثقفين سعوديين ، عرفوا بشغف القراءة والاطلاع ، من بينهم أخي وحبيبي وصديقي عبد الله الهدلق ، وقد ابتدأ المحاور – بكسر الواو – حواره بقوله : " لا يمكن أن يكون هناك ملف متكامل عن القراءة ومحبي الاطلاع في السعودية دون أن نستصحب تجربة الأستاذ عبد الله الهدلق في التثقيف الذاتي ، ورحلته مع القراءة التي بدأت باكراً واستمرت حتى اليوم ، لا يزيده مرور الأيام إلا شغفاً بملمس الكتاب ، والتهام ما فيه من أفكار ... ".
وقد اتسم الحوار بالشفافية والصراحة والسخرية المؤدبة ، مع مسحة تشاؤم سارية في اللقاء ؛ لا أدري من أين أتى بها أبو أحمد !!! ، حتى أنه ابتدأ جوابه بمقدمة لجمهور المحاوِرين والمحاوَرين يدعوهم فيها إلى طرح التكلف والبعد عن رتوش الصنعة وعن الخبث الإعلامي البريء ....
فإلى تلك المقدمة ، وإلى ذالكم الحوار الذي اخترت لكم منه ثلاثة أسئلة فقط من أصل تسعة أسئلة ...
قال الشيخ عبد الله الهدلق :
أستاذ.. أود أن تسمح لي قبل أن أجيب عن أسئلتك المكتوبة ؛ بالحديث عن أمر بات يؤذيني ويقلل من أهمية مثل هذه الحوارات في نظري .. أصدقك القول : بأني حين أطالع حواراً من الحوارات الثقافية ، فإني أطلب شيئاً آخر يتجاوز المادة الثقافية المطروحة ، أريد أن أقف على بديهة المحاوَر- بفتح الواو - وثقافته الشفهية وشخصيته الخاصة ..
أعني : أن أرى للحظات .. وجهه الحقيقي بعيدا ًعن رتوش الصنعة ، لكن هذه الحوارات ما عادت تدار كما كانت تدار سابقاً في الأعم الأغلب على هذا المعنى الفطري القريب ...
أصبح المحاوِر يهجم على المثقف بجيش من الأسئلة المعقدة بعد أن يقرأ نتاجه وتاريخ حياته ، ويداوره في – خبث- حتى يسقطه في تناقض أو يفضحه باستفزاز ، ثم إن المحاوَر يلتف عليه - في خبث قريب من خبثه - فيستعد لأسئلته كما يستعد لبحث علمي محكم سيلقيه في محفل دولي ، حتى إني رأيت بعض هذه الحوارات الصحفية توثق نقولها بالجزء والصفحة ، من هنا تجد أن حوارات كثير من المثقفين المتأخرين أعلى قيمة علمية من حورات أمثال : برناردشو وبرتراندرسل وطه حسين والعقاد وحمد الجاسر ..لكنها حورات أثقلتها الأنا المزورة والرهبة من فقدان صورة "المثقف النموذج" ، ففقدت تلك البهجة والسذاجة التي كنت تجدها في هذا الضرب الجميل من العمل الصحفي ، ( ذكرت صافيناز كاظم في مقدمة حوارها المنشور مع ألبرتو مورافيا : أنها حين قابلته كانت المفأجأة أن لم يكن هناك مفاجأة فقد كانت شخصية عادية .. كلمتها هذه أغنتني عن قراءة عدة كتب للوقوف على شخصيته الخاصة).
لذا سأحاول - بعد أن تحنثتُ لنموذجي في محاريب الآخرين فبُليتُ بالخيبة والهوان - أن أجيبك من قريب بما أنا عليه ، من رأس القلم هكذا بلا صنعة، بالبهجة والسذاجة .. ولن أفزع إلى شيء إلا إلى ذاكرتي المشوشة وما لابد منه من تحرير القلم ، والله على ما أقول شهيد ...
ثم إن هناك أمر آخر يا أستاذ وهو أني وقفت على حقيقة قريبة من حقائق هذه الحياة : وهي أن حدة التأمل المرهقة ، وسعة الاطلاع المذهلة ، وتراكم الخبرة الباذخ ، ربما انتهى بالإنسان في بعض نتائجه إلى ما يقرره العامي ابتداء دون أن يتكلف شيئاً من هذا كله .. لذا فإني لا أرى الآن كبير فائدة في مخاطبة من لا يقرأ ، ( الذي يريد أن يقرأ سيقرأ ) القراءة أمر غريزي مركوز في فطر بعض الخلق ، ومن ولد بها فإنه سيستميت في تنميتها واستثمارها بدافع قسري من ذاته ، سيطلب خبز الروح كما يطلب الجائع خبز الحياة.
الحديث هنا مع من شغفته القراءة لعله أن ينتفع شيئاً ما ، وأما من لا يقرأ ولا يرغب : فما أراه ينتفع ( أفرق هنا بين التعليم والشغف بالقراءة ) ، وإنك تعجب حين ترى أن أكثر من يشتغل بشأن الكتاب هم أبعد الناس عنه : المتخرجون في أقسام المكتبات ، الذين يراقبون الكتب في دوائر الإعلام في الجمارك ، بل إن الشيخ منير الدمشقي – رحمه الله – قد ذكر في نموذجه أن أغلب أصحاب دور النشر هم من الجهل. لست أنسى مسؤول القاعة في إحدى المكتبات العامة حين كنت أتحدث معه عن فوائد القراءة فقال في أسى : ولكن أين الوقت ؟
بداية الحوار
س : من يتابع كتاباتك يستشف أن لك تاريخاً طويلاً مع القراءة واطلاع ، فمتى تمكنت منك هذه الهواية ؟ وما هي العوامل التي ساعدت في تأصيلها في نفسك ؟
ج : درست السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية في مدينة دبي من الإمارت العربية ( 1394هـ ما بعده ) حيث كان والدي – أطال الله في عمره على الخير – يعمل مدرساً في إحدى مدارسها موفداً من وزارة المعارف آنذاك.
كان تلفزيون دبي يعرض برنامجاً لطيفاً للأطفال اسمه "
كليلة ودمنة " يحرك بالعرائس .. دخلت يوماً مكتبة تجارية كانت مجاورة لمدرسة عمر بن الخطاب التي أدرس فيها ، فوقع بصري على كتاب عنونه " كليلة ودمنة " فاستهواني هذا التشابه في الأسماء ، ولما نجحت من الثانية الابتدائية إلى الثالثة خيرني والدي – جزاه الله خيراً – في هدية النجاح ( لست مدللا إلى هذه الدرجة ، فقد ضربتُ ضرباً يشبه ضرب الفراش لنفض الغبار غنه ! ) طلبت منه نسخة من هذا الكتاب بعد أن أخبرته أين شاهدته فذهب إلى المكتبة ، ولما أنزل البائع الكتاب من على الرف صعقت لحجمه وغاضت فرحة الهدية ، وخجلت من والدي أن أتراجع ، فذهبت به إلى البيت أقلبه لا أكاد أفهم من قصصه الرمزية شيئاً...
لكن كانت هذه هي بداية الرحلة ، ثم إني ترددت على مكتبة المدرسة لما انتقلنا إلى الرياض في السن الرابعة الابتدائية وما بعدها ، وأسعدني الحظ فوقفت على أعمال للأديب الكبير كامل الكيلاني موجهة للأطفال مشكولة الكلمات ، فوسعت قراءتها الخيال لدي ، ونمت السليقة اللغوية ، لكنها كانت أرفع من مستوى الطفل ( قرأت فيما بعد أن هذا مما أخذ على مؤلفات كامل الكيلاني ) إلا أن كثيراً من ناشئة العرب في أيام سالفة قد تخرجت بترا ث هذه الأديب الذي جهل قدره اليوم ...
ما زال عندي – بعد ثلاثين سنة - بعض هذه الكتيبات التي استعرتها من مكتبة المدرسة ، ولن أعيدها إلى وزارة التربية والتعليم إلا بحكم قضائي ! وهكذا في مكتبة المتوسطة وأوائل الثانوية ، ثم انقطعت عن القراءة في المراهقة عدة سنوات بائسات ، فلما كنت في الحادية والعشرين من العمر فتحت باب المكتبة وأغلقت باب الدنيا ورائي ...
س : يشدد البعض على أن القراءة الناجحة هي التي تكون بصحبة القلم وتدوين تلخيصات لما يقرأ .. ما رأيك في هذا القول ، وما المنهجية التي تلتزم بها في القراءة ؟
ج : إذا كانت القراءة للمتعة فلا معنى لصحبة القلم ، هل تأخذ القلم بين يديك وقت القراءة لتضع خطوطاً حمراء تحت هلوسات أنيس زكي في " ثرثرة فوق النيل " ؟ أو ما تحث به علاء الأسواني عن شخصية شيماء محمدي في روايته " شيكاغو " ؟
وإما إن كانت القراءة للفائدة مع المتعة – وهذا قليل بين القراء – فيستحسن صحبة القلم لتعليق فائدة من الكتاب أو تقييد شاردة ، وأما أنا فلا اقرأ بصحبة القلم أبداً ، وقد كنت لا أنسى موضع الكلام من الصفحة مهما تباعدت الأيام وكثرت المجلدات .. وأما اليوم الحاضر - ومع أني ما زلت صغيراً نسبياً - إلا أن ذاكرتي قد تغيرت علي كثيراً فما هي بالتي كنت أعهد ، أصبحت الحافظة لافظة ... لكن الحقيقة أني لم أندم على عدم التقييد ، وليس لدي نية لصحبة القلم أثناء القراءة ، لأني غير مستعد نفسياً لمثل هذا ( ما لي خلق ) كما تقول العامة.
وعلى ذكر التعليقات على الكتب ، فإني لم أقرأ أجمل ولا أحفل من تعليقات أحمد خيري على كتبه على الرغم من شطحه المعروف ، قد كنت صورت شيئاً من تعليقاته العالية لنشرها ثم لم أنشط لذلك ...
س : غير اكتساب الثقافة .. ماذا يمكن أن تضيف القراءة بالنسبة للشخص ؟
ج : ستضبف له القراءة اغترابا روحياً ولا سيما في المجتمعات الجاهلة ... نعم ستضيف القراءة للمرء حسداً كثيراً من أقرانه لازدياد كمية الإنسان فيه ، وتجاوزهم بنموه العقلي ، وستفقده القدرة على إقامة العلائق الاجتماعية والتكيف مع الناس ، ومعرفةً جديةً بشركات نقل الأثاث لكثرة تنقله بمكتبته من بيت قديم إلى بيت أقدم منه ليتحيف فارق الإيجار حتى يشتري به كتباً تتراكم على خيباته ، هذا بالإضافة إلى قدر لا بأس به من زيادة حجم العدسات ... في كثير كثير من المزاياً والفضائل التي لا يجمل بي ذكرها في مثل هذا المقام يا أستاذ.