احذر السقوط
للإمامابن قيّم الجوزية
كلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة، ولا يزال في نزول حتى يكون منالأسفلين، وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون منالأعلين.
وقد يجتمعللعبد في أيام حياته الصعود من وجه، والنزول من وجه، وأيهما كان أغلب عليه كان منأهله، فليس من صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة، كمن كانبالعكس.
ولكن يعرضهاهنا للنفوس غلط عظيم، وهو أن العبد قد ينزل نزولا بعيدا أبعد مما بين المشرقوالمغرب، ومما بين السماء والأرض، فلا يفي صعوده ألف درجة بهذا النزول الواحد، كمافي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنالعبد ليتكلم بالكلمة الواحدة ، لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أَبْعَدَ ممابين المشرق والمغرب».
فأي صعود يوازن هذه النزلة ؟ والنزول أمر لازم للإنسان، ولكن من الناسمن يكون نزوله إلى غفلة، فهذا متى استيقظ من غفلته عاد إلى درجته، أو إلى أرفع منهابحسب يقظته.
ومنهممن يكون نزوله إلى مباح لا ينوي به الاستعانة على الطاعة، فهذا متى رجع إلى الطاعةفقد يعود إلى درجته، وقد لا يصل إليها ، وقد يرتفع عنها، فإنه قد يعود أعلى همة مماكان، وقد يكون أضعف همة ، وقد تعود همته كما كانت.
ومنهم من يكون نزوله إلى معصية، إما صغيرةأو كبيرة، فهذا يحتاج في عوده إلى درجته إلى توبة نصوح، وإنابةصادقة.
واختلف الناسهل يعود بعد التوبة إلى درجته التي كان فيها، بناء على أن التوبة تمحو أثر الذنب،وتجعل وجوده كعدمه فكأنه لم يكن، أو لا يعود، بناء على أن التوبة تأثيرها في إسقاطالعقوبة، وأما الدرجة التي فاتته فإنه لا يصل إليها.
قالوا : ومثل ذلك رجلان يرتقيان في سلمين لانهاية لهما، وهما سواء، فنزل أحدهما إلى أسفل، ولو درجة واحدة، ثم استأنف الصعود،فإن الذي لم ينزل يعلو عليه ولا بد.
وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بينالطائفتين حكما مقبولا فقال:
التحقيق أن من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته،ومنهم من يعود إلى مثل درجته، ومنهم من لا يصل إلى درجته.
قلت : وهذابحسب قوة التوبة وكمالها، وما أحدثته المعصية للعبد من الذل والخضوع والإنابة،والحذر والخوف من الله، والبكاء من خشية الله، فقد تقوى هذه الأمور، حتى يعودالتائب إلى أرفع من درجته، ويصير بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة، فهذا قد تكونالخطيئة في حقه رحمة، فإنها نفت عنه داء العجب، وخلصته من ثقته بنفسه وإدلالهبأعماله، ووضعت خد ضراعته وذله وانكساره على عتبة باب سيده ومولاه، وعرفته قدره،وأشهدته فقره وضرورته إلى حفظ مولاه له، وإلى عفوه عنه ومغفرته له، وأخرجت من قلبهصولة الطاعة، وكسرت أنفه من أن يشمخ بها أو يتكبر بها، أو يرى نفسه بها خيرا منغيره، وأوقفته بين يدي ربه موقف الخطائين المذنبين، ناكس الرأس بين يدي ربه، مستحياخائفا منه وجلا، محتقرا لطاعته مستعظما لمعصيته، عرف نفسه بالنقص والذم. وربه متفردبالكمال والحمد والوفاء كما قيل:
استأثر الله بالوفاءوبالحمد … وولى الملامة الرجلا
فأي نعمة وصلت من الله إليه استكثرها على نفسهورأى نفسه دونها ولم يرها أهلا، وأي نقمة أو بلية وصلت إليه رأى نفسه أهلا لما هوأكبر منها، ورأى مولاه قد أحسن إليه، إذ لم يعاقبه على قدر جرمه ولا شطره، ولا أدنىجزء منه.
فإن ما يستحقه من العقوبة لا تحمله الجبال الراسيات، فضلا عن هذا العبدالضعيف العاجز، فإن الذنب وإن صغر، فإن مقابلة العظيم الذي لا شيء أعظم منه، الكبيرالذي لا شيء أكبر منه، الجليل الذي لا أجل منه ولا أجمل، المنعم بجميع أصناف النعمدقيقها وجلها - من أقبح الأمور وأفظعها وأشنعها، فإن مقابلة العظماء والأجلاءوسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كل أحد مؤمن وكافر. وأرذل الناس وأسقطهم مروءة منقابلهم بالرذائل، فكيف بعظيم السماوات والأرض، وملك السماوات والأرض، وإله أهلالسماوات والأرض؟
ولولا أنرحمته سبقت غضبه، ومغفرته سبقت عقوبته، وإلا لتدكدكت الأرض بمن قابله بما لا يليقمقابلته به، ولولا حلمه ومغفرته لزلزلت السماوات والأرض من معاصي العباد، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْتَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُكَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [ سورة فاطر:41].
فتأمل ختم هذه الآية باسمين من أسمائه ، وهما : " الحليم ، والغفور " كيف تجد تحت ذلك أنه لولا حلمه عن الجناة ومغفرته للعصاة لمااستقرت السماوات والأرض ؟
وقد أخبرسبحانه عن كفر بعض عباده أنه : ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُيَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ [سورة مريم: 90].
وقد أخرج الله سبحانه الأبوين من الجنة بذنب واحد ارتكباهوخالفا فيه نهيه، ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السماوات والأرض بذنب واحدارتكبه وخالف فيه أمره، ونحن معاشر الحمقى كما قيل :
نصل الذنوب إلى الذنوبونرتجي … درج الجنان لذي النعيم الخالد
ولقد علمنا أخـرج الأبوين من … ملكوتـهالأعلى بذنب واحد
والمقصود أن العبد قد يكون بعد التوبة خيراً مما كان قبلالخطيئة وأرفع درجة، وقد تضعف الخطيئة همته وتوهن عزمه، وتمرض قلبه، فلا يقوى دواءالتوبة على إعادته إلى الصحة الأولى، فلا يعود إلى درجته، وقد يزول المرض بحيث تعودالصحة كما كانت ويعود إلى مثل عمله، فيعود إلى درجته.
هذا كله إذا كان نزوله إلى معصية، فإن كان نزولهإلى أمر يقدح في أصل إيمانه، مثل الشكوك والريب والنفاق، فذاك نزول لا يرجى لصاحبهصعود إلا بتجديد إسلامه.
باختصار
من كتاب الجواب الكافيلمن سأل عن الدواء الشافي