بسم الله الرحمن الرحيم
الفجر فجران
بدعة الإمساك قبل الفجر وحرمة الأكل والشرب بعده
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد :
فقد بلغنا أن أناساً ممن ينوون الصيام يأكلون ويشربون بعد الفجر الصادق ، وآخرون يمنعون الناس من الأكل والشرب قبل الفجر الصادق بدعوى الحيطة .
ولما كان في هذين الأمرين إفراط وتفريط ، وغلو ومجافاة ، ومخالفة جريئة لما دل عليه الكتاب والسنة دلالة صريحة لما اتفق عليه أهل العلم من :
- إباحة الأكل والشرب للصائم حتى يطلع الفجر الصادق .
- تحريم الأكل والشرب للصائم بعد طلوع الفجر الصادق .
والدليل على هذا فمن الكتاب قوله تعالى :
( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ... ) الآية[1] .
ففي هذه الآية : دلالة واضحة قطعية على جواز الأكل والشرب قبل الفجر الصادق ، وحرمته عند تبيُّنه وظهوره .
ومن السنة :
- عن عائشة رضي الله عنها : أن بلالاً كان يؤذن بليل ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر )) متفق عليه [2] .
- وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( الفجر فجران فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان ، فلا يُحِل الصلاة ولا يحرم الطعام ، وأما الفجر الذي يذهب مستطيلاً في الأفق ، فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام ))[3] .
وبهذا يُعلم أن الفجر فجران : فجر كاذب يطلع أولاً ، ويظهر نوره على شكل ذنب السرحان - أي : عموداً في الأفق - ، وفجر صادق يطلع بعد الفجر الكاذب ويكون موازياً للأفق .. وزمن ما بينهما من 20 - 25 دقيقة تتفاوت حسب فصول السنة .
ولأجل هذا شُرع للفجر أذانان ؛ الأول : مع الفجر الكاذب ، وهو تنبيهي ، ينبه على قرب طلوع الفجر الصادق ، وغايته : أن يتعجل المتسحِّر ، ويستيقظ النائم ، ويرجع القائم ، ويتجهز الناس للصلاة ، وهذا الأذان لا يحرم الطعام ، ولا يحل صلاة الفجر ، ويسمى في بعض البلدان - ظلماً - أذان الإمساك ! إذ يلزمون الناس - غلواً - أن يمسكوا عن الطعام حين أذان وقبل الفجر ، وهذا الأذان هو الذي يقال فيه : ( الصلاة خير من النوم ) .
والأذان الثاني : أذان الفجر الصادق ، وهو الذي يحرم الطعام للصائم ، ويبيح صلاة الفجر للمصلي ، غير أن الشارع قد استثنى من ذلك حالة واحدة وهي : مَن كان يأكل وأذَّن المؤذِّن للفجر الصادق ، فيباح له قضاء حاجته من الطعام على وجه العجلة ... وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (( إذا سمع أحدكم النداء ، والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه )) [4] [4].
و المقصود بالأذان هاهنا : أذان الفجر الصادق لما يلي :
الأول : إباحة الرسول صلى الله عليه وسلم الطعام بعد الأذان الأول ، (( فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة ، ولا يحرم الطعام )) ، وعلى هذا ، فسواء كان الطعام على يده أو ليس عليها ، فإنه يباح للصائم الأكل بعد الفجر الكاذب ، ولذا فلا معنى لحمل الحديث على الأذان الأول .
الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن بلالاً يؤذن بليل ...)) ، ومن المعلوم أن الطعام لم يحرم للصائم في الليل .
الثالث :ما ورد في إحدى روايات الحديث عند أحمد [5]
وغيره :(( أن المؤذن كان يؤذن إذا بزغ الفجر ))
وأما إذا أذن للفجر الصادق وليس الطعام بين يدي الصائم ، فلا يحل لأحد على الإطلاق تناول لقمة طعام ، أو قطرة ماء ، وما يفعله بعض الناس من المسارعة للشرب عند سماعهم أذان الفجر خطأ ظاهرا ، إذ لا يحل لهم البتة ذلك إلا إذا كانوا يعتقدون أن المؤذن يتقدم في أذانه !
وأما ما عدا ذلك من الروايات أو الأخبار التي يتناقلها الناس عن بعض أهل العلم في المنع من الأكل قبل الفجر الصادق ، أو جوازه بعده ، فلا يلتفت إليها ؛ لأنه لا تقوم بها حجة ، ولا ينهض بها دليل ، وإلا فإن منع الصائم الأكل قبل الفجر الصادق أو إباحة الطعام بعده ؛ تعطيل للنصوص المحكمة ، أو حتى لتخصيصها ، فليس هاهنا محل تخصيص ؛ لأن ظواهر بعض الروايات عن بعض أهل العلم تفيد جواز الأكل والشرب حتى بعد طلوع الفجر الصادق ، وهذا أمر باطل ، لمخالفته محكم القرآن ، وصريح السنة ؛ وإذا ثبت النص من الكتاب والسنة ، وكان صريح الدلالة ، فلا يلتفت إلى من خالفه كائناً من كان ، ما لم يكن إجماعاً فيُنظر !
وإذا ثبت أن النصوص في تحريم الأكل بعد الفجر محكمة ، فكل رواية - بعد ذلك - تخالف ذلك ، فهي من المتشابه ، وليس من حسن دين الرجل ، ترك المحكم والمصير إلى روايات متشابهة عن غير المعصـوم صلى الله عليه وسلم وهو القائل : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) تالله لو كانت هذه الروايات المتشابهة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لوجب ردها للمحكم ، فكيف وهي عن غيره صلى الله عليه وسلم ، ومخالفة لهديه !!
ومن ذلك ما رواه الطبري في تفسيره [6] عن أبي أمامه قال : أقيمت الصلاة والإناء في يد عمر قال : أشربها يا رسول الله ؟ قال : (( نعم )) ، فشربها .
قلت : إن صح الحديث ، فمن المعلوم أن الإقامة تَرِد بمعنى :الأذان ، وتَرِد بمعنى :الإقامة للصلاة ، فإذا حملنا معنى الإقامة هاهنا على معنى الإقامة للصلاة ، فنكون بذلك قد خالفنا قطعي الكتاب وصحيح السنة .. ! فلا بد إذن من حملها على معنى الأذان ، حتى تتفق النصوص ولا تتعارض ، وإلا فمحال أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرب بعد الفجر إلا لمن كان الإناء على يده وأذَّن المؤذن .. ! أما وقد مضى وقت ليس بالقليل بين أذان الفجر الصادق والإقامة ثم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالشرب ، فيعني هذا جواز الأكل والشرب بعد الفجر ، وفي هذا معارضة صريحة للقرآن الكريم لا يمكن التوفيق بين النصين بوجه من الوجوه .
ومما يؤكد ورود لفظ الإقامة بمعنى الأذان قوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا أقيمت الصلاة ، فلا تأتوها وأنتم تسعون ..)) الحديث ، والمقصود بالإقامة هاهنا الأذان ، وإلا فإن الصحابة ما كانوا يسمعون الإقامة .
ثم إن حادثة عين كهذه - شرب عمر بعد الفجر - هي متشابهة ، و حادثة فعل ، لا تنهض لنسخ محكم الكتاب والسنة من القول .
ثم إن وقت الإقامة غير منضبط كانضباط الأذان ، فكيف يعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً شرعياً مُهمّاً على وقت غير منضبط .
كل ذلك إن كان الحديث صحيحاً - حديث أبي أمامه أن عمر شرب بعد الفجر! - ، وإلا فإن مداره على الحسين بن واقد ، وقد ذكر أكثر من إمام منهم الإمام أحمد وابن حبان : أنه يخطئ ، وأن له أوهاماً ، بل إن الإمام أحمد أنكر حديثه ، وقال : في حديثه زيادة ، ونفض يده ، فمثل هذا الراوي لا يحتج به إذا انفرد ، فكيف إذا خالف النصوص المحكمة !!
وأما قول الأخوين الشيخين الكريمين في كتابهما (( صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم )) : له إسنادان ، فليس بصواب ، بل إنما هو إسناد واحد من طريقين مدارهما على الحسين هذا .
ثم إن فهم هذا الحديث فهماً خاطئاً ، حمل كثيراً من الناس على انتهاك حرمة الوقت بعد الفجر ، فيأكلون ويشربون ضاربين بالنصوص المحكمة التي ذكرنا عرض الحائط ، وليس هذا من مذهب السلف في شيء ، وهو رد النصوص المحكمة بمتشابه .
المسألة الثانية : وأما الإمساك قبل أذان الفجر الصادق : فهو ورع بارد ، واحتياط سمج ، وغلو في الدين ، وتحريم لما أباحه الله عز وجل ، ورسوله وقد قال صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس : (( الفجر فجران ؟ فجر يحرم فيه الطعام و تحل فيه الصلاة ، وفجر تحرم فيه الصلاة ويحل فيه الطعام )) [7] .
ففي قوله : (( ويحل فيه الطعام )) دليل واضح على الإباحة ، فلا يحل لكائن من كان أن يمنع الناس مما أباحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يكن هذا غلواً فلا غلو في الدين .
وأوضح من هذا ؛ ما أخرجه البخاري ، ومسلم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ، فإنه يؤذن بليل ...)) الحديث .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ، ونؤخر سحورنا ...)) الحديث أخرجه الطيالسي ، والطبراني ، وابن حبان ، وغيرهم ، وصحّحه شيخنا الألباني في" صحيح الجامع ".
المسألة الثالثة : تحريم تقديم الأذان وتأخيره عن وقته .
إن من المعلوم عند كل مسلم ، أن العبادات المقيدة بوقت يجب أداؤها في الوقت المحدد لها .. دون تقديم أو تأخير ، وفي كثير من الأحيان يترتب على التقديم أو التأخير بطلان العبادة بالكلية .
ومن هذه العبادات : الصلاة والصوم ، التي علقت بأوقات مضبوطة ، يعلم الناس وقتها عن طريق الأذان ؛ ولهذا حمّل الإسلام المؤذنين أمانة عظيمة ، وجعلهم شهداء للناس ومبلغين ، وأمناء على سحورهم وصلاتهم التي هي أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادة .
قال صلى الله عليه وسلم : (( المؤذنون أمناء المسلمين على فطرهم وسحورهم )) ، وفي لفظ : (( على صلاتهم وحاجتهم )) [8] ، وقال تعالى : } إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا {؛ ولهذا وجب على المؤذنين ضبط أذانهم بالأوقات الشرعية ، فلا يتقدموا ولا يتأخروا ، وبخاصة وقت الفجر في رمضان ، وليحذروا أن يقدموا شيئاً من عرض الدنيا من وظيفة أو مال ، أو هوى للناس على هذه الأمانة ، فيكونوا ممن لم يؤد الأمانة ، وممن كان ظلوماً جهولاً .
فإن هم أذنوا قبل الوقت كان عليهم إثم من صلى قبل الوقت - وصلاته وقتئذ باطلة - وهو إثم عظيم ، وعليهم أيضاً إثم منع الناس مما أباحه الله ورسوله من الأكل والشرب .
ودعوى الاحتياط دعوى مردودة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أتقى الناس ، وأنصح الناس للناس ، لم يفعل هذا أَوَ ناصحٌ أنصحُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ؟؟!!
وإن هم أخروا الأذان ، وقعوا في إثم أكل الناس بعد الفجر .
المسألة الرابعة : ما الحكم إذا تبين أن المؤذن يتقدم أو يتأخر ، أو أن التقويم غير صحيح ؟ !
المؤذن بمثابة الشاهد والمخبِر ، والأصل فيه الصدق والضبط والالتزام بما وقّته الشرع ، وأما إذا ثبت أن المؤذن ليس أهلاً للأمانة ، أو أن التقويم لم يُضبط بضوابط الشرع ، فلا يُلتزم والحال هذه بالأذان أو التقويم ، ويرجع إلى الأصل الذي علَّق الشارعُ به الحكمَ .
وخلاصة هذه المسألة نقطتان :
الأولى : وجوب تقيد المؤذن بالوقت المخصص .
دونما تقديم أو تأخير البتة .
الثانية : أن الأصل الالتزام بالوقت المحدد لا بالمؤذن فإن أصاب التزم به ، وإن أساء التزم بأصل الوقت .
والله الهادي إلى سواء السبيل .
[1] - البقرة : [187]
[2] -البخاري : [ 2/231] ، ومسلم : [2/768]
[3] - صحيح الجامع [4278]
[4] - صحيح الجامع [607] .
[5] - مسند الإمام أحمد [2/510] .
[6] - تفسير الطبري [3017] .
[7] - صحيح الجامع [4279] .
[8] - صحيح الجامع .
منقول من موقع الشيخ!