مسائل في حكم من أراد أن يضحي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ..أما بعد
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه وأصحاب السنن عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره )) ولفظ أبي داود وهو لمسلم والنسائي أيضا (( من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره وأظفاره حتى يضحي )) وفي رواية لمسلم (( ولا من بشره )).
ويستفاد من هذا الحديث عدة فوائد :
الأولى: أن النهي للتحريم كما هو الأصل ولم أجد قرينة تصرفه عن التحريم إلى الكراهة ولهذا ذهب إلى تحريم الأخذ من الشعر والظفر والبشرة لمن أراد أن يضحي أو يضحى عنه الإمام أحمد وسعيد بن المسيب وربيعة وإسحاق وداود وبعض أصحاب الشافعي، وقال الشافعي وبعض أصحابه هو مكروه كراهة تنزيه وليس بحرام وهو الوجه الثاني عند الحنابلة ونص عليه أحمد واختاره القاضي وجماعة قال في الإنصاف : وهو أولى أهـ. وقال أبو حنيفة لا يكره ذلك لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس فلا يكره له حلق الشعر وتقليم الأظفار كما لو لم يرد أن يضحي والحديث يرد عليه وقال مالك في رواية لا يكره وفي رواية يكره وفي رواية يحرم في التطوع دون الواجب واستدل الشافعي ومن وافقه بقول عائشة رضي الله عنها كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يقلدها بيده ثم يبعث بها ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي متفق عليه قال الموفق ابن قدامة: ولنا ما روت أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي ] رواه مسلم ومقتضى النهي التحريم وهذا يرد القياس ويبطله وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه وتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص ولأنه يجب حمل حديثهم على غير محل النزاع لوجوه منها : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروها قال الله تعالى إخبارا عن شعيب : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } ولأن أقل أحوال النهي أن يكون مكروها ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليفعله فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على غيره ولأن عائشة إنما تعلم ظاهرا ما يباشرها به من المباشرة أو ما يفعله دائما كاللباس والطيب فأما ما يفعله نادرا كقص الشعر وقلم الأظفار مما لا يفعله في الأيام إلا مرة فالظاهر أنها لم ترده بخبرها وإن احتمل أرادتها إياه فهو احتمال بعيد وما كان هكذا فاحتمال تخصيصه قريب فيكفي فيه أدنى دليل وخبرنا دليل قوي فكان أولى بالتخصيص ولأن عائشة تخبر عن فعله وأم سلمة عن قوله والقول يقدم على الفعل لاحتمال أن يكون فعله خاصا له أهـ. وقال في الإقناع وشرحه عن حديث عائشة بأنه في إرسال الهدي لا في التضحية وأيضا فحديث عائشة عام وحديث أم سلمة خاص فيحمل العام عليه وأيضا فحديث أم سلمة من قوله وحديث عائشة من فعله وقوله مقدم على فعله لاحتمال الخصوصية أهـ، قلت: والصواب القول الأول وهو التحريم والله أعلم.
قال الموفق : إذا ثبت هذا فإنه يترك قطع الشعر وتقليم الأظفار فإن فعل استغفر الله تعالى ولا فدية فيه إجماعا سواء فعله عمدا أو نسيانا أهـ. قال الشيخ منصور في شرح الإقناع : قلت : وهذا إذا كان لغير ضرورة وإلا فلا إثم كالمحرم وأولى أهـ. وقال في الإقناع وشرحه : ويستحب حلقه بعد الذبح قال أحمد : على ما فعل ابن عمر تعظيما لذلك اليوم ولأنه كان ممنوعا من ذلك قبل أن يضحي فاستحب له ذلك بعده كالمحرم أهـ.
الثانية : لو أراد الحاج أن يضحي فهل يجب عليه الإمساك عن الشعر والظفر والبشرة من دخول العشر قبل أن يحرم ؟ لم أجد أحداً من الفقهاء رحمهم الله ذكره، سوى ما قاله الشيخ عبدالله بن جاسر رحمه الله في مفيد الأنام حيث قال ما نصه (( أما إن كان يريد - أي الحاج - أن يضحي أو يضحى عنه فلا يأخذ من شعره وظفره شيئا لأن الأخذ من ذلك لمريد الإحرام سنة والأخذ من ذلك بعد دخول العشر لمريد التضحية حرام فيرجح جانب الترك على جانب الأخذ هذا ما ظهر لي والله أعلم )) انتهى كلامه. وقد وافقه على هذا الرأي بعض المتأخرين ولكن من تأمل المسألة حق التأمل واستعرض النصوص المتعلقة بذلك اتضح له عدم صحة هذا القول للأسباب الآتية:
أولها : أنه لم يسبق الشيخ عبدالله بن جاسر احد من العلماء والفقهاء حسب علمي .
ثانيها: نص العلماء على أن المحرم يتحلل التحلل الأول بفعل اثنين من ثلاثة الرمي والطواف والحلق أو التقصير ولم يقل أحد منهم إنه إذا كان يريد أن يضحي فلا بد من ذبح الأضحية أولا قبل التحلل بل نصوا على انه لا دخل للدم في التحلل وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن قدم بعض الأعمال يوم النحر على بعض ( افعل ولا حرج ) ولم يقل إلا إذا كنت تريد أن تضحي فلا تقدم الحلق أو التقصير كما أنه لو وصى الحاج أهله بذبح أضحية عنه وعنهم ثم فعل يوم النحر اثنين من ثلاثة فهل يقال له لا تتحلل حتى تعلم أنهم قد ذبحوا الأضحية وفي السابق عند عدم وجود الاتصالات الحديثة هل سيبقى على إحرامه حتى يعلم أنهم ذبحوها ؟ لا أظن عاقلا يقول هذا.
ثالثها: أن الحاج إذا تمتع فلا بد من تقصير شعره أو حلقه بعد فراغه من العمرة وهذا يتناقض مع ما ذكره الشيخ ابن جاسر ومن وافقه ولا يصح أن يقال : يجوز له فقط الحلق أو التقصير ثم يمسك بعد ذلك فلم يحصل المقصود من الإمساك حتى ذبح الأضحية .
رابعها : ذكر الفقهاء أن الحكمة من الإمساك لمن يريد الأضحية عن الشعر والظفر أن يبقي كامل الأجزاء ليعتق من النار وتشبها بالحاج وهو يتنافى مع الحلق أو التقصير بعد العمرة.
لذا فالصحيح عندي أن الحاج لا يمتنع من اخذ الشعر والظفر والبشرة حتى يحرم ولو كان يريد أن يضحي فلا يتناوله حديث أم سلمه والله اعلم.
الثالثة : ذكر الفقهاء رحمهم الله أن من أراد أن يضحي أو يضحى عنه فيحرم عليه الأخذ من الشعر والظفر والبشرة وفهم بعض المتأخرين أن قولهم ( أو يضحى عنه ) زيادة منهم على الحديث فلا يدخل أهل البيت في النهي وإنما يقتصر على رب الأسرة وجعلوه هو من يضحي وإذا تأملنا فيمن يطلق عليه أنه يضحي فلا يصح أن يقال هو الذي يشتري الأضحية بماله لأنه قد يهدي شخص لرب الأسرة الشاة ليضحي بها .
ولا يصح أن يقال هو الذي يتولى ذبحها بنفسه لأنه قد يذبحها القصاب.
إذا فالمعنى الصحيح للفظ ( يضحي ) هو من يدخل في ثواب الأضحية من الزوجة والأولاد مع رب الأسرة فاتضح صحة كلام الفقهاء رحمهم الله وان قولهم ( أو يضحى عنه ) تفسير لمعنى الحديث وليس زيادة والله اعلم.
الرابعة : انه لا يدخل في النهي من يضحي عن غيره متبرعاً أو وصياً أو وكيلاً فلا يحرم عليه لأنه لا يصدق عليه أنه يضحي أو يضحى عنه فلا يدخل في ثواب الأضحية نفسها كما نص عليه بعض الفقهاء.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
قاله الفقير إلى الله المنان
عبدالمحسن بن ناصر آل عبيكان
__________________
المراجع
المغني 13/ 362-363 ، الشرح الكبير مع الإنصاف 9/429-432 ، كشاف القناع 3/23، مطالب أولي النهى 2/478،الروض المربع
بحاشية ابن قاسم 4/241-242 ، مطالب أولي النهى 2/478، مفيد الأنام 2/252-254
المصدر :
http://al-obeikan.com/index.html