كان حريا أن يصدر عن قلمي هذا المقال - قبل أيام - , لكنني آثرت أن تهدأ العاصفة , وتضع الحرب أوزارها , بعد أن أثمرت حكاية جمال ثمارها البائسة . تلك الحكاية التي كانت أشبه بحلم قبيح , وطيف أسود , مؤطرة بأسوأ حكاية , يمكن للتاريخ أن يروي سلوكه الظاهر , والله أعلم بالسرائر .
أصبح جمال خاشقجي , هو من يحاكم عالم الشريعة على ما تفوه به من حديث . فانطلقت بعد حملته المسعورة كتابات , تحرض في أبشع صورها , فكان هجوما ضاريا , وخصاما عنيفا كالرياح العاتية . وتخلت تلك الأقلام عن كل المعايير الأخلاقية والمهنية , أقحمت من خلالها اسم خادم الحرمين الشريفين من أجل الاصطياد في الماء العكر , وحرضت الدولة ضد العالم الشرعي كوسيلة تخويف وإرهاب للمخالفين , والنيل من المؤسسة الشرعية الممثلة بهيئة كبار العلماء , واستهداف الرموز الدينية , بما يسيء إلى الوطن بقدسيته وتاريخه ورموزه . وانتشر سعار النقد بين أهل الغرر , وانقلبت المنضدة لمجرد تفسير كلمة قالها عالم شرعي . فاندرجت تلك الكتابات في حملة منظمة , حشدوا من خلالها ثروتهم اللفظية الهائلة , وصبوها فوق رأس الشيخ , تقوله ما لم يقله , بعد أن رمته عن قوس واحده . وجعله بعضهم في خانة الخوارج , ممن حملوا السلاح , وقتلوا العباد , ودمروا البلاد .
كانت حملة خاشقجي تحريضا في أبشع صورها , وكان الانحطاط الأخلاقي في الحوار المؤطر بالظلم السعار الطاغي , والحاضر المطلق للتعامل مع الأخر حاضرا , من أجل أن يتصيد بسوء الظن كلمة عالم شرعي , فحملها على غير محمل قائلها , ووضعها في غير موضعها , ليعطي انطباعا للقارئ خطأ وجرم ما قيل .
كنت يا جمال أداة لنزف جراح الوطن , بعد أن فجرت في الخصومة فكذبت فيها . وملت عن الحق عند تعاملك مع الحدث , وتجاوزت حد الشرع والعقل في تعاملك مع الموقف والشخص . كل ذلك من أجل إثبات وجهة نظرك , وإن كانت تحمل الخطأ بارتكاب الفاحش من القول , وتفسير الحقيقة بما يقتضيه واقع غير منصف .
المؤسف , أن الأمر إذا انفرط سائبا , فإن الكذب والكلام السيء سيكون – أيضا - سائبا . ولا تسل عن الفوضى - حينئذ - , من خلال تزييف الحقيقة كليا أو جزئيا , وإعطاء الحدث بعدا أكبر مما يحتمل , إذ المبالغة نوع من الكذب . وهو ما يؤكده عالم النفس الأمريكي " روبرت فيلد مان " , الذي حذر من : " أن الكذب بات صفة سائدة إلى درجة أن البشر باتوا يخادعون ويخاتلون دون وعي منهم , وكأن مثل هذا الأمر بات طبيعيا .. فلا بأس في الكذب طالما لا ينكشف الشخص المخادع " .
أما رأي كاتب هذه السطور , فإن من الحكمة إعفاء جمال خاشقجي من منصبه , وليكن ذلك إن شئتم : بناء على طلبه . فإن من بدأ المأساة ينهيها , وإن من فتح الأبواب يغلقها , وإن من أشعل النيران يطفيها .
عذرا نزار , أن استعرت كلمات الحب والغزل في غير موضعها , لأننا نكتب إلى الفراغ الذي نسبح فيه , ولا نستطيع أن نعمل لأجله شيئا , حين أصبح التطاول على علماء الشريعة في هذا البلد شطارة وفذلكة . فالحكاية هي أخت لحكايات أخرى كثيرة من التناقض الأخلاقي , فلم نتفق فيما تفاهمنا عليه , ولم نتحاور فيما اختلفنا فيه بصدق وتجرد , دون تجاوز يفضي إلى خلاف غير مستحب , لأننا انشغلنا – يا معشر الكتاب - بالجدل العقيم بدل العميق , وبسوء الظن عن حسن الظن . وصدرنا الأحكام – حينئذ - من غير علم ولا وعي , فضاعت الحقيقة . وتحول الأمر إلى استقطاب وتحزب , وكأننا أمام معركة الحياة الفاصلة . وإن لله في خلقه شؤون , تذكي ما هو أكبر وأكثر من كل الشجى والشجون .
المصدر:
http://www.anbacom.com/articles.php?action=show&id=1462