اتصلت من يومين بأخي الكريم الأسـتاذ المحقق الثبت محمد نظام الفتيح الديرزوريّ ، والمقيم في المدينة المنورة منذ أكثر من ثلاثين عاما وحدثني حديثا طويلا عن نشرته المتقنة لكتاب : (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) ، وبما أنه غير خبير بالمنتديات طلبت منه أن يرسل لي نقده للطبعات السابقة ؛ كي أنشرها له على الشابكة ، وهي من الأهمية بمكان ، وهاهي ذي :



مَن الغيورُ على تاريخ المدينة !!!؟

اعترض أحد الأخوة (الأكاديميين) على تحقيقي لكتاب ( وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) والذي نشرته مكتبة دار الزمان بالمدينة المنورة مشكورة ، معتذراً بأن الكتاب مطبوع ومحقق من قِبل أحد (الأكاديميين) أساتذة الجامعات ، وبأنني لم آت بشيء جديد ، وعلى الرغم من أن هذا الكتاب المحقق المشار إليه غير موجود في أسواق المملكة ، إلا أنني ومع كل أسف مضطر بعد هذا الاعتراض أن أضع بين يدي الأخ الكريم المعترض والأخوة القراء بعض الأخطاء التي لا تقع من طالب العلم المبتدئ فضلاً عن أصحاب الشهادات العالية ، وسوف أختصرها ـ حرصاً على وقت القارئ ـ بثلاثة مواضع فأقول :
1ـ قال المؤلف رحمه الله في الفصل الحادي والثلاثين من الباب الرابع وهو يتحدث عن الحواصل والخزائن الموجودة في المسجد الشريف في زمنه : (( وفي جهة المغرب أيضاً إلى جانب المنارة الشمالية الغربية المعروفة بالخشبية ـ سميت بذلك لأن جَدَّ الخشبيينَ كان يؤذن بها ـ خزانة صغيرة .. )) لقد حَرَّف المحقق 2/473 قول المصنف (جد الخشبيين) إلى (حد الخشبتين) وضبط قوله : (يؤذِّن) هكذا (يؤذَّن) بالبناء للمفعول حتى يستقيم معنى الجملة عنده ، أقول : صحيح أن هذا التحريف موجود في بعض النسخ الخطية ، وكذلك في مطبوعة سابقة ، ولكنه صحيح أيضاً أن عبارة (جد الخشبيين) موجودة في نسخ أخرى نص المحقق على اعتماده عليها ، ولكنه مع الأسف لم يشر إلى هذه العبارة الصحيحة في تحقيقه ، ثم ما معنى وما مناسبة (حد الخشبتين يؤذَّن بها) ؟ وأما الذي أثبتناه ، فيؤكده ترجمة البدر بن فرحون في كتابه (نصيحة المشاور) لبعض هؤلاء المؤذنين الخشبيين الذين تنسب إليهم هذه المنارة ومنهم : الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن يحيى الخشبي ، والله أعلم .
2ـ قال المؤلف رحمه الله في الفصل الثاني عشر من الباب الرابع ينقل أثراً عن ابن شبة ويحيى : زاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد من شاميه ثم قال : لو زدنا فيه حتى نبلغ به الجبّانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، زاد يحيى : (وجاءه الله بعامر) . أقول : حُرِّفتْ هذه العبارة الأخيرة في المطبوعة المشار إليها من قبل المعترض 2/242 إلى (وخار الله لعمر) وعلى الرغم من اعتراف المحقق بأنها في الأصول (وجاه الله بعامر) ثم قال : وفي الخبر نفسه في كتاب المناسك للحربي (وجاه الله لعام) ، والتصويب من قراءة حمد الجاسر لنص الحربي المحرف ، انتهى ، عجيب هذا التصرف من المحقق الذي يعترف بالعبارة الصحيحة في نسخ الكتاب الخطية ثم ينقل عن الأستاذ حمد الجاسر الذي قرأ العبارة محرّفة في كتاب ثان واجتهد في تصحيحها ، أقول : إذا كان العلامة حمد الجاسر رحمه الله معذوراً لأنه لم يطلع على الأصول ، وليس هو بصدد تحقيق نص ، فما عذر المحقق الذي اعتمد على عدة نسخ خطية ، وكلها أثبتت العبارة صحيحة كما اعترف هو ؟ اللهم إلا إذا لم يحسن قراءة (وجاءه) لأنه في النسخ الخطية هكذا (وجاه) ، حيث إن أغلب النساخ في الماضي لا يثبتون الهمزة في الخط ، فكيف يا ترى يغيب هذا على محقق له خبرة كبيرة في المخطوطات والكتب والمصادر ؟ ثم ما مناسبة (وخار الله لعمر) و قوله رضي الله عنه جاء بعد انتهائه من الزيادة كما يدل عليه النص ؟ وأما معنى (وجاءه الله بعامر) : أي هيأ الله لهذا المسجد مع هذه الزيادة الكبيرة مَن يعمره بالصلاة والذكر ، وهذا واضح لا يحتاج إلى إعمال أي فكر .
3ـ قال المؤلف رحمه الله في الفصل الثالث من الباب الثاني : ولا شك أن الإقامة بالمدينة في حياته صلى الله عليه وسلم أفضل إجماعاً ، فيستصحب ذلك بعد وفاته حتى يثبت إجماعٌ مثلُه . والذي صنعه المحقق هنا 1/127 أنه أبدل كلمة (فيستصحب) بكلمة (فيستحب) قائلاً في الهامش : في الأصول (فيستصحب) وهو تحريف بيِّن . أقول : تحريف بيّن ممن ؟ من جميع النسخ على كثرتها ، وحتى من المطبوعة القديمة أيضاً ! ألا يعلم الأخ المحقق أن الاستصحاب من الأدلة الفقهية والمصادر التشريعية عند كثير من العلماء ، أليست عبارة المؤلف تتحدث عن حكم كون الإقامة بالمدينة في حياته صلى الله عليه وسلم أفضل إجماعاً ، وأن هذا الحكم يمكن أن يستصحب بعد وفاته فتكون الإقامة بالمدينة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أفضل أيضاً ، ثم أكد المؤلف هذا المعنى بقوله : حتى يَثبتَ إجماعٌ مثلُه ، أي مثل الإجماعِ الأول برفع ذلك الحكم عنه بعد الوفاة ، والله أعلم .
وأخيراً أقول : ليت المحقق أثبت هذه النصوص كما جاءت في أصولها وعلق عليها بالهامش كما يريد ، أما أن يغير النص الأصلي قاصداً متعمداً فهذا غير مقبول ، ثم إذا كان هذا التغيير للنص ناتجاً عن عدم الفهم والمعرفة ، فما بال المحقق أيضاً يغير نصوصاً أخرى مفهومة معلومة لديه ؟! حيث يقول في هامش 3/258 بعد أن غير في ألفاظ الحديث : وقد آثرت لفظ مسلم على لفظ السمهودي حيث وردت بعض الاختلافات في الألفاظ مثل (إزاره = رداءه ، فلهزني = فلهدني) . أقول : هذه الألفاظ من رواية النسائي وليس من السمهودي رحمه الله الذي قال بالحرف : (روينا في صحيح مسلم والنسائي) ، ولو خرجه المحقق عند النسائي لعرف ذلك ، وإدخال ألفاظ بعض الروايات في بعضها الآخر أمر مقبول عند العلماء لا غبار عليه ، ولا يحتاج إلى تغيير النصوص وتحريفها ..
أقول بعد كل هذا : فمن الغيور على تاريخ المدينة ياترى ، الذي يصحح مثل هذه الأخطاء ، أم الذي يغض الطرف عنها ويقف إلى جانب أصحابها ، ويدعو إلى التحكيم ؟!

وكتب
محمد نظام الدين الفتيح