بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد سمعت يوما شيخنا عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد حفظهما الله تعالى، يذكر أنه صنف رسالة لطيفة في تسمية ربنا تبارك وتعالى بالمحسن، ثم صنف بعض الإخوة رسالة يتعقب فيها من سمى الله بالمحسن، مضعفا أحاديث الباب، فاستعنت الله تعالى على جمع أحاديث الباب وذكر الأدلة على ثبوت هذا الإسم لربنا جل في علاه، وهي ثلاثة أدلة:
الدليل الأول: حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، فقد أعله الأخ الفاضل بأمور، أنا ذاكرها بعون الله تعالى باختصار:
فمن ذلك قوله أن الإمام أحمد(4/123...) وأبو بكر(6/433) ومسلم (13/113) والنسائي في الكبرى(3/64..) والترمذي(1413) وابن ماجة (3170) وابن حبان(13/199) وابن الجارود(839) وعلي بن الجعد (1262) والبغوي في السنة(2777) والطحاوي في مشكله(4643) والبيهقي في السنن(9/280) والطبراني في معاجمه كلهم قد خرجوه من حديث شداد بن أوس مرفوعا:" إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"، وذكر أسانيدهم، من غير أن يذكر أحد منهم زيادة: "إن الله محسن"، إلا عبد الرزاق وحده في رواية الدبري عنه، وقد أطنب المذكور في ذكر من خرج الحديث ليوهم كثرة من رواه بغير الزيادة، بجنب قلة من خرج الحديث بالزيادة، وما هكذا يُعِلّ جهابذة أهل الحديث، فإن هذا الأمر عندهم مظانه علم التخريج، الذي يتم فيه تتبع من خرج الحديث من بطون الكتب والأجزاء والمرويات، وهو أول طرق جمع الحديث، ومن ثم تأتي الطريق الثانية وهي معرفة رجال الحديث ومن ثم بيان مدار الحديث وذكر مواطن الاتفاق فيه والاختلاف، ومن هنا يبدأ علم التعليل ومعرفة الزيادات من غيرها، فأقول:
إن المتتبع لطرق هذا الحديث يجد بأنها ترجع بأسرها إلى طريق واحد وهو طريق أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم به، وهو حديث غريب صحيح لم يروه عن أبي الأشعث إلا أبوقلابة، ولا عن أبي قلابة إلا أيوب السختياني وخالد الحذاء، ثم رواه الناس عنهما، وأما متابعة عاصم الأحول لهما فهي وهم لا شك فيه كما سيأتي، فإن الحديث محفوظ مشتهر من طريق أيوب وخالد كلاهما عن أبي قلابة عن أبي الأشعث به، ثم اختلفا فيه، فذكر زيادة :"إن الله محسن"، أيوب بن أبي تميمة السختياني في الأصح عنه، ولم يذكرها خالد الحذاء في أكثر الطرق عنه، وأيوب السختياني أوثق، وهو أضبط من خالد الحذاء، ولأنه لم يختلف عليه في الحديث، وبهذا التقرير والبيان، يظهر الجواب للعيان، عن شبهة إيراد كثرة المخرجين، من قلة الذاكرين، لتلكم الزيادة، فإنما الحديث يرجع إلى رجلين فقط، ذكر الزيادة أحفظهما وأوثقهما:
أما عن طريق خالد الحذاء، فقد حدث به عنه كل من الثوري وهشيم واسماعيل بن علية ويزيد بن زريع وحفص بن غياث ومنصور وعبد الوهاب بن عبد المجيد والأعمش وخالد بن عبد الله وشعبة ووهب كلهم من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة بذاك الإسناد والمتن، لكن اختلف على شعبة بن الحجاج ومنصور ووهب وغيرهم في حديثهم عن خالد:
أما عن الإختلاف على شعبة فقد روى الحديث عنه الحفاظ من أصحابه كمحمد بن جعفر غندر وأبي داود الطيالسي وعلي بن الجعد وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ومسلم بن إبراهيم وعلي بن سهل البزار كلهم عن شعبة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس به كما رواه الحفاظ أيضا عن خالد الحذاء، وخالف كل هؤلاء في الإسناد شبابة بن سوار في رواية بن أَبِي الْحَارِثِ عنه، فقال الطبراني في الكبير حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن الْعَبَّاسِ الأَخْرَمُ الأَصْبَهَانِي ثنَا إِسْمَاعِيلُ بن أَبِي الْحَارِثِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بن سَوَّار حَدَّثَنَا شُعْبَة عَن عَاصِمٍ الأَحْوَل عَنْ أَبِي قِلابَة عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ به، فجعله من حديث شعبة عن عاصم الأحول عن أبي قلابة بدل ما قاله الحفاظ عن شعبة عن خالد الحذاء، وهذه الرواية غريبة من حديث شعبة، وهي وهم لا شك فيها لمخالفة شبابة سائر من ذكرنا من أصحاب شعبة، ولسائر الناس ممن رواه عن خالد الحذاء، والوهم فيها من شبابة والله أعلم، فقد حدث له نفس الشيء في حديث آخر عن شعبة، فقال قال أبو عيسى الترمذي في علله:"ورب حديث يروى من أوجه كثيرة، وإنما يستغرب لحال الإسناد.."، ثم مثل بما خرج من طريق شبابة بن سوار نا شعبة عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الدباء والمزفت"، ثم قال: هذا حديث غريب من قبل إسناده، لا نعلم أحداً حدث به عن شعبة غير شبابة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أوجه كثيرة أنه نهى أن ينتبذ في الدباء والمزفت"، وكذا استغرب رواية شبابة ابن المديني، وقال يعقوب بن شيبة: وهذا حديث لم يبلغني أن أحدا رواه عن شعبة غير شبابة"، وقال ابن رجب في شرح علل الترمذي: وحديث شبابة إنما يستغرب لأنه تفرد به عن شعبة، وقد روى شعبة وسفيان والثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: الحج عرفة"، قال: فهذا الحديث المعروف عند أهل الحديث بهذا الإسناد"، ونفس الشيء يقال عن حديث شبابة السابق فإنه محفوظ من حديث خالد الحذاء، وهذا جنس من العللِ خفيةٌ يخطئ فيها من يزعم أنها من المتابعات، بينما هي علة ووهم بيّن، فإذ الأمر كذلك فقد رجع الحديث إلى رواية خالد الحذاء والسختياني فقط وبالله تعالى نتأيد، وأمر آخر وهو أن ابن العباس الأخرم فإنه وإن كان ثقة، فقد كان اختلط، فلعل الطبراني قد أخذ عنه هذه الرواية بعد الإختلاط، والله أعلم.
أما عن الإختلاف على منصور في حديثه عن خالد الحذاء، فقد رواه عنه كل من جرير وزائدة وإسرائيل واختلفوا عليه،
فرواه مسلم من طريق جَرِير عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ به، كما روى الناس عن خالد الحذاء، وكذلك هي رواية زائدة، وخالفهما إسرائيل فرواه عن منصور عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي الأشعث به، فزاد في الإسناد أبا أسماء،
قال البيهقي في شعبه: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ثنا أبو الحسين بن ماتي ثنا أحمد بن حازم أنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن منصور عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي الأشعث الصغاني عن شداد بن أوس فذكره ، قال البيهقي: كذا قال إسرائيل، وخالفه جرير فرواه عن منصور نحو رواية الثوري وغيره عن خالد"، وقال أبو عوانة حدثنا عمار بن رجاء وأبو أمية قالا: ثنا عبيد الله بن موسى ثنا إسرائيل عن منصور عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء" ـ قال: كذا قال ، وهو خطأ يقوله أبو عوانة ـ عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وقال أبو عوانة حدثنا الصغاني وجعفر بن محمد الصائغ وأبو العباس الفضل بن العباس الحلبي قالوا: ثنا معاوية بن عمرو ثنا زائدة ثنا منصور عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء ...".
وقد خرج الطبراني ما قد يوافق رواية إسرائيل، فقال حدثنا عبد الله بن الحسين المصيصي ثنا محمد بن بكار ثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:« إذا ذبحتم فأحسنوا..."، والوهم والمخالفة في هذا الحديث بينة، والصواب رواية من رواه عن قتادة عن أنس كما سيأتي .
أما عن الاختلاف في حديث وهب عن خالد:
فقد قال الطبراني(7/275) ثنَا أَحْمَدُ بن دَاوُدَ الْمَكِّي ثنَا سَهْلُ بن بَكَّار حَدَّثَنَا وَهْب عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاء عَنْ أَبِي قِلابَة عَنْ أَبِي الأَشْعَث عَنْ شَدَّاد عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ...، فجعله من حديث خالد.
وقال الطبراني مرة أخرى حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن دَاوُدَ الْمَكِّي حَدَّثَنَا سَهْلُ بن بَكَّار حَدَّثَنَا وَهْب حَدَّثَنَا أَيُّوب عَنْ أَبِي قلابَة عَن أَبِي الأَشْعَث عَنْ شَدَّادِ به. فجعله من حديث أيوب، ووهب لا أدري من هو إلا أن يكون وهيب بن خالد الثقة المشهور فالله أعلم, وإن لم يكن هو فوهب مجهول مضطرب في حديثه، وقد كًُرِر وهب مرتين مما يبعد دعوى التصحيف والله أعلم, وقد يكون الوهم من سهل بن بكار، فقد قال عنه الحافظ: ثقة ربما وهم، وإن كان حفظه فقد روى الحديث على الوجهين والله أعلم.
ومن الإختلاف على خالد ما ذكره ابن رجب في شرح الحديث من جامعه قال:"وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب السير عن خالدٍ عن أبي قِلابة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله كتبَ الإحسّانَ على كلِّ شيءٍ"، أو قال على كلِّ خلقٍ"، قال ابن رجب:" هكذا خرَّجها مرسلةً وبالشكّ في: كُلِّ شيء، أو: كلِّ خلق".
ومن الاختلاف أيضا على خالد الحذاء، أنه قد حدث بالحديث عنه كل من الثوري وهشيم واسماعيل بن علية ويزيد بن زريع وحفص بن غياث ومنصور والأعمش وخالد بن عبد الله وشعبة ووهب كلهم من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة به، من غير زيادة:"إن الله محسن"، ورواها إسحاق بن راهويه عن عبد الوهاب بن عبد المجيد عن خالد الحذاء، لكن اختلف عليه أيضا في ذكرها، فروى الحديث مسلم في الصحيح عن إسحاق عن عبد الوهاب عن خالد به، لم يذكر الزيادة، وكذلك هي رواية الشافعي وابن المثنى عن عبد الوهاب، وخالف مسلما أحمد بن سلمة الحافظ فروى الزيادة عن إسحاق الحنظلي عن عبد الوهاب بها، خرج روايته البيهقي (9/280) قال:أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو الفضل بن إبراهيم ثنا أحمد بن سلمة ثنا إسحاق بن ابراهيم أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد ثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله محسان كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبح أحدكم فليحسن ذبحته، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"، قال البيهقي:"رواه مسلم في الصحيح عن إسحاق الحنظلي"، وأحمد بن سلمة النيسابوري حافظ حجة كبير كان صاحبا للإمام مسلم ورفيقا له في الرحلة، وصنف المستخرج الصحيح على مسلم، فعل هذا الحديث منه والله أعلم، وهذا الإختلاف الكثير على خالد فيه إشعار بأنه حدّث بالحديث في مجالس متفرقة على صور شتى، فحدث كل واحد بما سمع، والله أعلم.
وقد أعل المذكورُ الحديثَ بالطعن في حفظ إمام كبير من أئمة الحديث، وهو أبو عبد الله الحاكم، فقال عنه:"إمام في الحديث لكنه كثير الغلط ظاهر السقط، كما سيظهر من كلام الأئمة"، ثم نقل عن الزيلعي قوله في نصب الراية(1/342):" قال ابن دحية في كتابه العلم المشهور: ويجب على أهل الحديث أن يتحفظوا من قول الحاكم أبي عبد الله فإنه كثير الغلط ظاهر السقط وقد غفل عن ذلك كثير ممن جاء بعده وقلده في ذلك"، وهذا والله عين الخلط والتدليس، فإن أبا عبد الله بن البيع ثقة حافظ كبير بإجماع المسلمين، لم يتكلم في حفظه أحد منهم، بل جعلوه المقدم عليهم في الحفظ، وكذا قدمه شيخه الدارقطني على الإمام ابن منده في الحفظ، فقال السلمي: سألت الدارقطني: أيهما أحفظ: ابن مندة أو ابن البيع ؟ فقال: ابن البيع أتقن حفظا"، وقال ابن طاهر: سألت سعد بن علي الحافظ عن أربعة تعاصروا: أيهم أحفظ؟ قال:من ؟ قلت: الدار قطني، وعبد الغني، وابن مندة، والحاكم، فقال: أما الدار قطني فأعلمهم بالعلل، وأما عبد الغني فأعلمهم بالأنساب، وأما ابن مندة فأكثرهم حديثا مع معرفة تامة، وأما الحاكم فأحسنهم تصنيفا"، وقال ابن الصلاح في مقدمته: "سبعة من الحفاظ أحسنوا التصنيف، وعظم الانتفاع بتصانيفهم في أعصارنا، وذكر منهم الحاكم، وقال الذهبي في السير:الإمام الحافظ الناقد العلامة شيخ المحدثين"، فجعله رأسا وشيخا للمحدثين، وقال ابن خلكان:" هو إمام أهل الحديث في عصره، والمؤلف فيه الكتب التي لم يسبق إلى مثلها، كان عالما عارفا واسع العلم"، وهكذا أثنى على حفظه جميع الأئمة، حتى طعن في حفظه الصغار والله المستعان، وقد كان يلزم من طعنهم في هذا الإمام تضعيف جميع أحاديث المستدرك بتلكم العلة الواهية التي ذكروا، وكذا صنعوا مع مصنف عبد الرزاق بدعوى تفرد الدبري به، وهذا والله عين الطعن في مصنفات أهل الإسلام، ومن ثم إبطالها بهذه الدعاوي العرية التي سنبين بعون الله زيفها، فأما ما نقله المذكور عن الزيلعي وابن دحية فهو عين البتر والتخليط، فإن القوم إنما تكلموا في تصحيح الحاكم وتساهله، لا في حفظه وإتقانه، وبنقل كلام الزيلعي كاملا يتبين البتر والخلط، قال الزيلعي:"... وهذه العلة راحت على كثير ممن استدرك على الصحيحين فتتساهلوا في استدراكهم ومن أكثرهم تساهلا الحاكم أبو عبد الله في كتابه المستدرك فإنه يقول: هذا حديث على شرط الشيخين أو أحدهما وفيه هذه العلة إذ لا يلزم من كون الراوي محتجا به في الصحيح أنه إذا وجد في أي حديث كان ذلك الحديث على شرطه لما بيناه، بل الحاكم كثيرا ما يجيء إلى حديث لم يخرج لغالب رواته في الصحيح كحديث روي عن عكرمة عن ابن عباس فيقول فيه: هذا حديث على شرط البخاري، يعني لكون البخاري أخرج لعكرمة، وهذا أيضا تساهل وكثيرا ما يخرج حديثا بعض رجاله للبخاري وبعضهم لمسلم فيقول: هذا على شرط الشيخين وهذا أيضا تساهل وربما جاء إلى حديث فيه رجل قد أخرج له صاحبا الصحيح عن شيخ معين لضبطه حديثه وخصوصيته به ولم يخرجا حديثه عن غيره لضعفه فيه أو لعدم ضبطه حديثه أو لكونه غير مشهور بالرواية عنه أو لغير ذلك فيخرجه هو عن غير ذلك الشيخ ثم يقول : هذا على شرط الشيخين أو البخاري، أو مسلم وهذا أيضا تساهل لأن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره، فلا يكون على شرطهما وهذا كما أخرج البخاري ومسلم حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال وغيره ولم يخرجا حديثه عن عبد الله بن المثنى فإن خالدا غير معروف بالرواية عن ابن المثنى، فإذا قال قائل في حديث يرويه خالد بن مخلد عن ابن المثنى : هذا على شرط البخاري ومسلم كان متساهلا"، قال: وكثيرا ما يجيء إلى حديث فيه رجل ضعيف أو متهم بالكذب وغالب رجاله رجال الصحيح فيقول: هذا على شرط الشيخين أو البخاري أو مسلم وهذا أيضا تساهل فاحش ومن تأمل كتابه المستدرك تبين له ما ذكرناه، قال ابن دحية في كتابه العلم المشهور: ويجب على أهل الحديث أن يتحفظوا من قول الحاكم أبي عبد الله فإنه كثير الغلط ظاهر السقط وقد غفل عن ذلك كثير ممن جاء بعده وقلده في ذلك"، وهذا والله كلام بيّن ظاهر محله، وفرق كبير بين الطعن في حفظ الرجل، وبين الكلام على تساهله في التصحيح، كما هو الفرق بين السماء والأرض بل أبين من ذلك، وهذا أمر ظاهر جدا، فقد تكلم في تصحيح الحاكم كثير من الأئمة كما هو معروف في جميع كتب المصطلح، وسبب تساهله كما ذكر ابن حجر وغيره أنه سود كتاب المستدرك في آخر عمره، ثم راجع الشطر الأول منه، ولم يتسن له مراجعة باقيه لأن المنية عجلته، ثم ذكر الحافظ أن الشطر الأول من الكتاب لم يحدث له فيه ذلك التساهل لكونه نقح كتابه وهذبه، أما عن حفظ الحاكم فهو إمام حافظ كبير مجتمع عليه لا يحل لأحد أيا كان أن يطعن في حفظه ويخالف سبيل المؤمنين والله المستعان.
وقد روى أيضا زيادة أن الله محسن، أيوب السختياني عن أبي قلابة ولم يختلف عليه في حديثه، فقد حدّث به عنه كل من معمر وحماد بن زيد:
أما رواية معمر عن أيوب فخرجها عبد الرزاق في مصنفه (4/492) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين قال:" إن الله محسن يحب الإحسان إلى كل شئ ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"، ومن طريقه خرجه الطبراني عن الدبري عن عبد الرزاق به،
وقد أعل المذكور الحديث بعلل منها:
أن الحافظ عبد الرزاق كان قد عمي واختلط، والدبري ممن أخذ عنه بعد الإختلاط وقد تفرد بالزيادة، وأن عبد الرزاق يخطئ في حديث معمر كما نقل عن الدارقطني، وكل ما ذكر ليس بشيء كما سنبين:
أما القول عن تفرد الدبري عن عبد الرزاق وأنه أخذ عنه بعد الإختلاط والدبري كان صغيرا آنذاك، فلا يضر أصلا، لأنه على أقل الأحوال أن يكون الدبري قد أخذ كتاب المصنف عن عبد الرزاق إجازة كما ذكر الحفاظ، ومن المعلوم أن الإجازة أحد طرق التحمل الصحيحة باتفاق أهل الحديث، بل قدمها بعضهم على السماع لأن السمع عندهم قد يخون، أما الإجازة فهي أن يدفع الشيخ للتلميذ كتابه ويقول له: إروه عني، ومن المعلوم أن الشيخ ـ وهو هنا عبد الرزاق ـ من الحفاظ الأثبات الجامعين بين ضبط الصدر وضبط الكتاب، ولا نعلم عن أحد من المسلمين تكلم عن ضبط كتاب عبد الرزاق، بل كلهم قد أجمعوا أنه إذا حدث من كتابه فهو من أكبر الأثبات، وكذلك حفظ الصدر، إلا ما حدث له بعد الإختلاط، وبيقين يدري كل ذي عقل سليم أن مصنف عبد الرزاق كتاب مكتوب كتبه عبد الرزاق بيده وراجعه وعارضه وصححه وغير ذلك مما يدخل في ضبط الكتاب، ثم أملى كتابه على تلاميذه وأجازه لآخرين، فإذ الأمر كذلك فإن العبرة بما هو موجود في الكتاب من غير النظر إلى راويه بعد أن تحققنا بالإجماع أن المصنف من تصنيف عبد الرزاق، وهذا الحديث منه، وعليه فمن طعن في أي حديث من أحاديث المصنف بهذه الدعوى العرية، فقد فتح على نفسه بابا من الشر عظيما، فإن الأمة قد تلقت هذا الكتاب بالقبول، واعتنت به، وجعلوه مصدرا أساسيا في حفظ أقوال وأفعال السلف الطيب من صحابة وتابعين ومن بعدهم من أصحاب القرون المفضلة، وفيه كذلك جملة كبيرة من الأحاديث والتفسير وغير ذلك، فمن طعن في شيء منه بهذه الدعوى العريّة، فليطعن في كل المصنف لأنه عنده عن رجل واحد، وما يقال عن أي حديث فيه يقال عن الآخر أيضا، ومن ثم إبطال أهم مصدر من مصادر حِفظ مذاهب السلف والذي قال عنه الذهبي:" هو خزانة العلم"، والله المستعان،
ثم فيما نقله المعارض عن الدارقطني قوله:"عبد الرزاق يخطئ عن معمر في أحاديث لم تكن في الكتاب"، لأكبر دليل على ما قلناه لا ما ادعاه، فقد قيد الخطأ بما ليس في الكتاب، وحديث الباب موجود في كتاب المصنف، يؤيد صحة ذلك ما نقله ابن رجب في شرح العلل عن الإمام أحمد قال: "حديث عبد الرزاق عن معمر أحب إلي من حديث هؤلاء البصريين، كان يتعاهد كتبه وينظر فيها يعني في اليمن"، نعم تكلم الناس في روايات عبد الرزاق بعد الإختلاط، مما ليس موجودا في الكتاب، فكانوا حينئذ يقدمون ما في الكتاب على ما في الحفظ, فقال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن هانئ:" عبد الرزاق لا يعبأ بحديث من سمع منه وقد ذهب بصره، كان يلقن أحاديث باطلة، وقد حدث عن الزهري أحاديث كتبناها من أصل كتابه وهو ينظر، جاؤوا بخلافها"، فانظر رحمك الله كيف قدم ما في أصل الكتاب، وأعل ما خالفه، وذكر الأثرم أيضاً أن أحمد وذكر له حديث:" النار جبار"، فقال: هذا باطل، ليس من هذا شئ، ثم قال: ومن يحدث به عن عبد الرزاق ؟ قلت: حدثني أحمد بن شبويه، قال: »هؤلاء سمعوا بعدما عمي، كان يلقن فلقنه، وليس هو في كتابه ، وقد أسندوا عنه أحاديث في كتبه كان يلقنها بعدما عمي"، فتأمل جيدا يا رعاك الله، كيف أعل الحديث بأمرين، أحدهما كون ابن شبوية روى عنه بعد الاختلاط، والثاني: أن الحديث ليس في كتاب عبد الرزاق"، وقال عبد الله وسمعت يحيى بن معين يقول:" ما كتبت عن عبد الرزاق حديثاً قط إلا من كتابه، لا والله ما كتبت عنه حديثاً قط إلا من كتابه"، أما قبل الإختلاط فقد كان الرجل من الحفاظ، قال أحمد بن صالح: قلت لأحمد بن حنبل: رأيت أحداً أحسن حديثاً من عبد الرزاق؟ فقال: لا"، وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأحمد ابن حنبل: كان عبد الرزاق يحفظ حديث معمر؟ قال: نعم، قيل له فمن أثبت في ابن جريج عبد الرزاق أو محمد بن بكر البرساني؟ قال: عبد الرزاق، وعمي عبد الرزاق وكان يلقن"، وقال البخاري:" ما حدث عنه عبد الرزاق في كتابه فهو أصح"، وقال أبو عبد الرحمن النسائي: عبد الرزاق بن همام من لم يكتب عنه من كتاب ففيه نظر، ومن كتب عنه بآخرة حدث عنه بأحاديث مناكير"، على أن بعض الحفاظ ذكروا أن عبد الرزاق لما تغير لم يحدث إلا من كتابه، فقال السخاوي(3/341):" قال الحاكم: قلت للدارقطني: أيدخل في الصحيح حديث عبد الرزاق؟ قال:إي والله، قال:وكأنهم لم يبالوا بتغير عبد الرزاق لكونه إنما حدثه من كتبه لا من حفظه"، ولم يكتف المعارض بالطعن في أبي عبد الله الحاكم ومصنف عبد الرزاق حتى بدّع إماما من أئمة المسلمين وهو ابن حزم الظاهري، وليس هذا مجال الذب عنه، فعسى أن أفرد بحثا في الذب عنه.
ثم طعن المذكور في رواية عبد الرزاق عن معمر، وقد مضى عن الأئمة أنها من أصح الروايات، وقال حنبل: سمعت أبا عبدالله(أحمد بن حنبل) يقول: إذا اختلف أصحاب معمر، فالحديث لعبد الرزاق"، وقال ابن معين: كان عبد الرزاق في حديث معمر أثبت من هشام بن يوسف"، وكذا قال غيرهما من الحفاظ، والله المستعان.
وبقي أمر آخر ننبه عليه، وهو زعمه أنّ الدبري قد تفرد برواية كتاب المصنف عن عبد الرزاق فليس كذلك البتة، فقد روى المصنف عنه أيضامحمد بن علي النجار الصنعاني، ومحمد بن عبد الله السكري ومحمد بن يوسف الحذاقيكما ذكر ابن خيرالأشبيليفي فهرسته.
وقد وقعت هذه الروايات لحافظنا ابن عبد البر النمري، فإنه يروي عنهم من طرقهم في التمهيد وغيره، وكذلك وقعت له رواية الدبري، فإنه لما ذكرها في التمهيد (8/15) قال:" وبهذا الإسناد عندنا مصنف عبدالرزاق ولنا والحمد لله فيه إسنادان غير هذا مذكوران في موضعهما، قال: فقد بان بما ذكرنا من رواية الثقات عن ابن شهاب لهذا الحديث ...".
وكذلك وقعت رواية الدبري للحافظ ابن حزم من رواية ابن الأعرابي عن الدبري به، ويحتج بها، ولم يتكلم عليها البتة، ومثله العقيلي وغيره، وهو كتاب مشهور بين المسلمين تلقوه بالقبول والله المستعان.
وقد ذكرنا آنفا أن رواية الدبري عن عبد الرزاق وإن كان سمعها منه في صغره، فهي أيضا إجازة صحيحة، وإنما يهم الدبري على عبد الرزاق خارج المصنف، أما في نفس المصنف فالعبرة بما في الكتاب كما مر، ولم يقع له الوهم فيه إلا من جانب التصحيف، قالابن خير الإشبيليفي الفهرسة: إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدبري وكان يستصغر فيعبد الرزاق، وكان العقيلي يصحح روايته عن عبد الرزاق وأدخله في كتاب صحيح الحديثالذي ألف، قال: وقرأت بخط الحكم أمير المؤمنين: نا أحمد بن مطرفبن عبد الرحمن المشاط نا أبو عثمان سعيد بن عثمان الأعناقي قال: رحل ابن السكريمحمد بن عبد الله إلى صنعاء اليمن فامتحن أصحاب عبد الرزاق من بقي منهم، فألفى أبايعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدبري أفضلهم، فسأله عن مصنف عبد الرزاق كيف رواه؟ فقال: كان أبي إبراهيم بن عباد القارئ للديوان على عبد الرزاق وحضرت السماع حتىانقضى، وكان إذا مضى حديث يستحسن أصحاب الحديث إسناده قالوا له: يا أبا بكر، حدثنا،فكان يقرؤه لنا، وكان أبي يعلم على ذلك الحديث، فقال له السكري: أقرأه يا أبا يعقوب،فقرأه عليهم، فلم يرد عليه السكري شيئا من تصحيف ولا غيره إنما أسمع حتى فرغبقراءته، فقال له السكري يا أبا يعقوب: لا تقرئ هذا المصنف لأحد إلا كما قرأته لنا،ولا تقبل تلقين أحد، فما كان مقيدا فاقرأه كما كان، وما لم يكن مقيدا فاقرأه كما بقي،وقال السكري: إذا استفتحت الكتاب فقل: قرأنا على عبد الرزاق وإذا جاء الحديث الذيحدثكم به وقرأه فقل: نا عبد الرزاق". ثم إن الدبري إنما حدثت له الأوهام في المصنف من قبيل التصحيف فقط، أما أصل الكتاب فموجود ومن غير روايته، وقد جمع تصحيفات الدبري ابن مفرج القرطبيفي رسالة أسماها: إصلاح الحروف التي كانإسحاق بن إبراهيم الدبرييصحفها في مصنفعبد الرزاق"، وإنما أكثرت شيئا في هذا الباب انتصارا للسلف، ولقطع دابر التكلم عن أحاديث المصنف أو المستدرك أو غيرهما بهذه الدعاوي الباطلة، ولتبيين قيمة كتب عبد الرزاق التي تلقتها الأمة بالقبول، وأنه لم يطعن في كتابه أحد.
هذا عن عبد الرزاق أما عن شيخه معمر فهو أيضا ثقة إمام، إنما حدث له الوهم في البصرة، وهنا قد حدث باليمن، وشيخه عبد الرزاق اليمني من أوثق الناس فيه كما مر من كلام أحمد وابن معين وغيرهما, أما رواية معمر عن أيوب فهي صحيحة على شرط البخاري ومسلم، فقد خرجا له بهذا الإسناد كثيرا، ولم يتفرد بالحديث فقد تابعه عليه حماد بن زيد متابعة تامة:
خرج متابعته إسماعيل بن إسحاق القاضي في جزء أحاديث أيوب (61) قال: حدثنا يحيى الحماني حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إن الله محسن فأحسنوا وإذا قتلتم فأحسنوا قتلتكم وإذا ذبحتم فليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"،وهذا حديث صحيح كل رجاله ثقات إلا يحيى الحماني فمختلف فيه وهو صدوق على أقل الأحوال، وقد كان أول من صنف مسندا، وأثنى عليه ابن عيينة، فذكر الخطيب عن القعنبي قال: رأيت رجلا طويلا شابا في مجلس ابن عيينة فقال ابن عيينة: من يسأل لأهل الكوفة؟ ثم قال: أين ابن الحماني؟ فقام، فقال: من أنت فانتسب له، فقال: نعم كان أبوك جليسنا عند مسعر، فجعل يسأل"، وقال أحمد حدثنا الرمادي حدثنا إبراهيم بن بشار قال رأيت عند سفيان بن عيينة جماعة من البصريين يتذاكرون الحديث قال فتحرك سفيان للكوفيه فسمعته يقول: أين أصحابنا الكوفيون أين بن آدم أين ابن عبد الحميد الحماني"، وقال أبو حاتم الرازي: سألت يحيى بن معين عن الحماني؟ فأجمل القول فيه، وقال عثمان الدارمي" سمعت يحيى بن معين يقول ابن الجعابي صدوق مشهور بالكوفة مثل ابن الحماني"، وقال ابن منيع: كنا على باب يحيى بن عبد الحميد الحماني فجاء يحيى بن معين على بغلته فسأله أصحاب الحديث فأبى وقال جئت مسلما على أبي زكريا فدخل ثم خرج فسألوه عنه فقال ثقة ثقة"، وقال الدوري: لم يزل يحيى بن معين يقول: يحيى بن عبد الحميد ثقة حتى مات"، ثم إن إمام الجرح ابن معين قد اطلع على الكلام في يحيى ولم يره جارحا له، وهذا أحد أوجه الترجيح للموثقين، ذاك أن المعدّل إذا اطلع على أسباب الجرح وفندها كان قوله أولى، فقد قال الهمداني: سألت يحيى بن معين عن الحماني؟ فقال: ثقة، فقلت: يقولون فيه، فقال: يحسدونه هو والله الذي لا إله إلا هو ثقة"، وقال الدارمي: سمعت يحيى بن معين يقول: ابن الحماني صدوق مشهور ما بالكوفة مثله، ما يقال فيه إلا من حسد"، ثم فسر الدارمي بأن الحماني كان شيخا لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فيما شتم به ورُمي، فقال الدارمي: كان الحماني شيخا فيه غفلة لم يكن يقدر أن يصون نفسه كما يفعل أصحاب الحديث، وربما يجئ رجل فيشتمه وربما يلطمه"، على أن الحماني كان يدافع عن نفسه، ويتحدى بحفظه كل من تكلم فيه فكان يقول لأصحابه:"لا تسمعوا كلام أهل الكوفة فإنهم يحسدونني لأني أول من جمع المسند وقد تقدمتهم في غير شئ"، وقال أبو عبيد سمعت أبا داود يقول:" كان حافظا"، وقال الرمادي: هو عندي أوثق من أبي بكر بن أبي شيبة، وما يتكلمون فيه إلا من الحسد"، وقال محمد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي: سألت محمد بن عبد الله بن نمير عن يحيى الحماني؟ فقال: هو ثقة، هو أكبر من هؤلاء كلهم فاكتب عنه"، وقال ابن عدي: لم أر في أحاديثه مناكير وأرجو أنه لا بأس به"، وقال الذهبي: كان من أعيان الحفاظ وليس بمتقن"، يعني أنه في درجة الصدوق عنده لذلك لما ذكره الذهبي في تاريخه وصفه بالحافظ، ثم خرج له حديثا من طريقه ثم حسنه، وقال ابن تغري بردي:" هو الحافظ الإمام أبو زكريا الكوفي؛ كان أحد الحفاظ الرحالين، وكان يحفظ عشرة آلاف حديث يسردها سرداً"، وقال عنه الحافظ ابن حجر:"حافظ ، إلا أنهم اتهموه بسرقة الحديث"،وذكره السيوطي في تذكرة الحفاظ، وقال الألباني في الصحيحة:" الحماني هو ثقة حافظ من رجال مسلم إلا أنهم
اتهموه بسرقة الحديث كما في التقريب"، ثم إن الحافظ ابن عدي قد استقرأ أحاديث الحماني فلم يجد فيها حديثا منكرا، وذكر أنه إنما تكلم فيه حسدا فقال ابن عدي :" وليحيى الحماني مسند صالح، ويقال أنه أول من صنف المسند، وذكر أن الذي تكلم فيه إنما تكلم من حسد"، ثم قال ابن عدي: ولم أر في مسنده وأحاديثه أحاديث مناكير فاذكرها وأرجو أنه لا بأس به".
فإذ قد ثبت ضبط الرجل وصدقه بيقين، فلا يقبل الجرح فيه إلا مفسرا، فنظرنا في قول من ضعفه، فوجدنا أن البخاري قال: يتكلمون فيه رماه أحمد وابن نمير"، وما ذكره البخاري عن ابن نمير لم يصح عنه، فقد قال ابن عدي:قال لنا ابن عبدان: قال ابن نمير: الحماني كذاب، قيل لعبدان: سمعته من ابن نمير؟ قال: لم أسمعه منه"، والصحيح عن ابن نمير هو التوثيق له، فقد قال مطين: سألت ابن نمير عن يحيى الحمانى فقال: هو أكبر من هؤلاء كلهم، فاكتب عنه"، وقال الخطيب نا ابن الفضل أنا جعفر بن محمد بن نصير الخلدي حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: سألت محمد بن عبد الله بن نمير عن يحيى الحماني فقال: هو ثقة هو أكبر من هؤلاء كلهم فاكتب عنه", وقال ابن عدي: سمعت ابن سعيد سمعت الحضرمي يقول: سألت ابن نمير عن يحيى الحماني وها هنا علي بن حكيم ومنجاب وأصحابنا متوافرون، قال: هو أكبر من هؤلاء كلهم"، فقدمه على غيره من الثقات.
ثم نظرنا فيما رماه أحمد بن حنبل من تكذيب للحماني، فوجدنا أنه كذّبه لما قيل له إنه روى عنك الحديث الفلاني، فقال: كذب ما حدثته"، وليس فيه تكذيب له أيضا، فإن مثل هذا قد حدث لكثير من الثقات مع مشايخهم، والقول فيها قول المثبت، وهي مسألة من حدث ثم نسي، وقد خرجا في الصحيح أمثال هذه الروايات، على أن الإمام أحمد قد شك بعد ذلك وقال: ما أعلم أني حدثته ولا أدري، لعله على المذاكرة حفظه وأنكر أن يكون حدثه به"، ثم إن الإمام أحمد قد تراجع عن تكذيب الحماني لما راسله، فقال عبد الرحمن سمعت أبي يقول: كتب معي يحيى الحماني إلى أحمد بن حنبل، فقرأ أحمد كتابه، وسألته أن يكتب جوابه، فأبى، وقال: أقرئه السلام". فهذا تراجع عن هجره، ثم أمسك عن تكذيبه، كما قال الخطيب أخبرنا البرقاني قال قرأت على أبي حاتم محمد بن يعقوب الهروي أخبركم محمد بن عبد الرحمن السامي قال: وسئل أحمد بن محمد بن حنبل عن يحيى الحماني فسكت عنه فلم يقل شيئا"، وقال ابن عدي: سمعت أحمد بن محمد بن سعيد يقول ثنا الحضرمي من كتابه قال: سألت أحمد بن حنبل عن يحيى الحماني قلت تعرفه؟ قال: وكيف لا أعرفه، قلت: هو ثقة، قال: أنتم أعلم بمشايخكم"، ثم وثقه بعد ذلك، فقد قال ابن حجر في اللسان: وثقه أحمد وضعفه الجمهور"،
ثم نظرنا فيما قاله محمد بن عبد الرحيم:" كنا إذا قعدنا إلى الحماني تبين لنا منه بلايا"، فوجدنا أن من بلاياه أقواله في التشيع إن صحت عنه، لا بلايا في حفظه، فقد ذكر أبو الشيخ الأصبهاني سمعت دلويه يقول: سمعت يحيى بن عبد الحميد يقول:" مات معاوية على غير ملة الإسلام"، فقال دلويه: كذب عدو الله"، فإن صح عنه هذا فقد كذب فيه حقا، ولا يلزم منه التكذيب في حديثه، وقد اختلف أهل العلم في قبول رواية المبتدع، والأصح أنها تقبل، خاصة وأن حديث الباب ليس مما يناسب بدعة التشيع، هذا إن صح عنه هذا الكلام، وإلا فالأصل السلامة منه.
ثم نظرنا في قول من اتهمه بسرقة الحديث فوجدنا أن عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي قال: خلفت عند يحيى الحماني كتبا فيها أحاديث عن سليمان بن بلال وغيره، فرأيته قد خرج ذلك في الزيادات".
وليس في هذا طعن في ثقة الرجل البتة، فإن هذه مسألة معروفة عند أهل الحديث، وهي المناولة الغير مقرونة بإجازة، وهي أن يناول الشيخ التلميذ كتبه، من غير أن يأذن له بروايتها، وقد عدها جماعة من أهل الحديث طعنا في فاعلها، لكن صحح الأكثر جواز الرواية بها حتى ولو قال فيها أخبرني الشيخ، وقد فعل ذلك كثير من الحفاظ، من غير أن ينقص من عدالتهم شيئا، وليس هذا مجال بحثنا، فليرجع إلى كتب المصطلح لزيادة البسط فيها، وإنما ذكرت إشارات من ذلك ليعلم اللبيب سبب الطعن في هذا الحافظ الكبير، ومن ذلك أن اسماعيل بن موسى نسيب السدي قال: جاءني يحيى الحمانى وسألني عن أحاديث عن شريك، فذهب فرواها عن شريك"، وقال: هو كذاب"، وليس في هذا دليل على كذب الرجل، فإنه قد يكون سمع من شريك، ثم أراد أن يتثبت أكثر من حديثه ليحفظها جيدا، فحصل له ذلك، حتى قدمه أبوحاتم وغيره على غيره من الثقات في شريك، فقال علي بن حكيم وذكر يحيى الحماني، قال:" ما رأيت أحدا أحفظ لحديث شريك منه"، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: لم أر أحدا من المحدثين ممن يحفط يأتي بالحديث على لفظ واحد سوى يحيى الحماني في شريك"، ثم قال: سئل أبي عنه فقال: لين". ووجه الجمع بين قوليه أن الحماني في درجة الصدوق عند أبي حاتم، وهو من المتشددين في التعديل، وخلاصة القول في الحماني أنه ثقة حافظ أو صدوق، ليس له البتة حديث منكر يُلمز به كما قال ابن عدي:" لم أر في أحاديثه مناكير وأرجو أنه لا بأس به"، فصح هذا الحديث، وقد توبع عليه الحماني متابعة تامة:
فقال أبوعوانة في مستخرجه: حدثنا يوسف القاضي ثنا سليمان ثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله"، وإن كان أبو عوانة قد عطف هذه الرواية على رواية خالد الحذاء، ثم قال بمثله، فلا يلزم منه أن يكون بمثل نفس الألفاظ كما هو معروف عند المحدثين، بل يكفي التماثل في أصل الحديث ومعناه، واللفظ المنطوق الصريح يقدم على الإحالة يقينا، وقد جاء منطوقا في متابعة الإمام ابن مغلس لأبي عوانة:
فقال الحافظ عبد الحق الإشبيلي في الأحكام(1/222):" اسْمه محسان سُبْحَانَهُ"، ثم قال:" روى أَبُو مُحَمَّد بن حزم قَال: كتب إِلَيّ أَبُو المرجى الْحسين بن زروان الْمصْرِي ثنَا أَبُو الْحسن الرَّحبِي ثَنَا أَبُو مُسلم الْكَاتِب ثَنَا أَبُو الْحُسَيْن عبد الله ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمُغلس ثَنَا يُوسُف بن يَعْقُوب ثَنَا سُلَيْمَان بن حَرْب الواشحي ثَنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ عن أبي قلَابَة عَن شَدَّاد بن أَوْس قَال: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:"إِن الله محسان، فَأحْسنُوا ... " وَذكر بَاقِي الحَدِيث"، وقد احتج به عبد الحق الإشبيلي، ولم يتعقبه ابن القطان الفاسي، فهو منهما تصحيح للحديث، وكذا صححه ابن حزم فقال في المحلى:" فإنما تؤخذ(الأسماء) من نص القرآن، ومما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ إحصاؤنا منها إلى ما نذكر، وهى:... وذكر منها المحسان"، وإن لم يوجد الحديث في المحلى، فربما قد ذكره في المجلى المفقود، والمحلى مختصر منه، على كل فقد صحح ابن حزم حديث التسمية بالمحسان، وهو الذي ذكر أنه لا يجوز تسمية الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه، أو بما سماه به نبيه فيما صح عنه، وهذا من ابن حزم توثيق ضمني لشيخه ولرجال الإسناد المذكورين، وقد خرج أيضا في المحلى شيئا من هذه النسخة وصححها واحتج بها في غير ما موضع، فمن ذلك قوله (10/12) كتب به إلي أبو المرجى على بن عبد الله بن زرواز نا أبو الحسن محمد بن حمزة الرحبى نا أبو مسلم الكاتب نا أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المغلس قال نا عبد الله بن احمد بن حنبل فذكر حديث الرضعات العشر المحرمة من طريق ابن إسحاق ثم قال: وهذا إسناد صحيح إلا انه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما، أحدهما أن يكون ابن اسحاق وهم فيه لأنه قد روى هذا الخبر عن الزهري من هو أحفظ من ابن اسحق وهو ابن جريج فقال فيه: أرضعيه خمس رضعات على ما نورده بعد هذا..أو يكون محفوظا فتكون رواية ابن اسحق صحيحة ورواية ابن جريج صحيحة فيكونان خبرين اثنين..."، وانظر أيضا (11/304) وغير ذلك، وأبو المرجى هو على بن عبد الله بن زرواز أو ذروان ويسمى أيضا الحسين بن عبد الله، وقد صحح له تلميذه ابن حزم واحتج به كما مضى وهو أعرف الناس به، وكذلك احتج بالرحبي وهو أبو الحسن محمد بن حمزة الرحبى، وكذا احتج بأبي مسلم الكاتب صاحب كتاب الأمالي، واسمه محمد بن أحمد بن علي بن حسين البغدادي نزيل مصر، قال عنه ابن الجزري:" معمر مسند عالي السند"، وقال الحافظ أبو عمرو الداني :" كتبنا عنه كثيرا"، وقال الذهبي في السير:" الشيخ العالم المقرئ المسند الرحلة"، قال:" وتفرد في الدنيا، وكان خاتمة من حدث عن البغوي، وابن أبي داود على لين فيه"، وقد ذكر ابن القطان وغيره أن اللين فيه إنما في بعض سماعاته من البغوي خاصة، وقال الخطيب: قال لي الصوري: بعض أصول أبي مسلم عن البغوي وغيره جياد، قلت: فكيف حاله من حال ابن الجندي ؟ فقال: قد اطلع منه على تخليط، وهو أمثل من ابن الجندي"، فقدمه على ابن الجندي، وجعله ابن الجوزي من الأكابر، وأما أبوالحسن عبد الله بن أحمد بن المغلس الظاهري، فقال عنه الذهبي: هو العلامة أبو الحسن عبد الله بن أحمد ابن محمد بن المغلِّس البغدادي الفقيه، أحد علماء الظّاهر، له مصنفات كثيرة، وخرّج له عدّة أصحاب، تفقه على محمد بن داود الظاهري"، وقال أيضا:"وكان ثقة إماماً واسع العلم كبير المحل"، وقال الخطيب وابن الجوزي: كان ثقة فاضلا فهما"، وأما يوسُف بن يَعْقُوب فهو القاضي، قال عنه الذهبي:" الإمام الحافظ الفقيه الكبير الثقة القاضي"، وسُلَيْمَان بن حَرْب ثقة مشهور، فصح الحديث وله شاهد صحيح آخر من حديث أنس كما سيأتي:
فإن قال قائل: قد خرج أبوعوانة الحديث في مستخرجه من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« إن الله عز وجل، كتب الإحسان على كل شيء..."، بغير الزيادة، ثم عطف عليه الروايات التي من طريق أيوب السختياني وقال بمثله، فقال: حدثنا يونس ثنا ابن عيينة عن أيوب عن أبي قلابة بنحوه"، ثم قال: حدثنا يوسف القاضي ثنا سليمان ثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله"، قيل له: قد ذكر أبوعوانة الحديث بالإحالة، ولا يلزم منها التماثل في نفس الألفاظ، بل يكفي التماثل في أصل الحديث، هذا أمر، والأمر الثاني أن اللفظ المنطوق الصريح مقدم على الإحالة والرواية بالمعنى بإجماع أهل العلم، والأمر الثالث أن الإحالة جنس من أجناس العلل الخفية كما ذكر الحفاظ، وكم من الأحاديث التي رُويت بالإحالة تبين بجمع الطرق والألفاظ أنها قد تتغاير نوعا ما، وهذا أمر معلوم عند العلماء، تراهم ينتقدون بعض الأحاديث المحالة بتبيينهم أنها ليست بنفس الألفاظ، والتمثيل لهذا الأمر يطول وإنما نكتفي بالإشارة إليه ليلا يقلب زاعمٌ الأمر، فيقدم الإحالة على اللفظ المنطوق، والله المستعان، وقد جاء الحديث منطوقا أيضا في شاهد أنس بن مالك رضي الله عنه:
الحديث الثاني: وهو حديث أنس رضي الله عنه:
قال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي نا عثمان بن طالوت نا محمد بن بلال نا عمران القطان عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إذا حكمتم فاعدلوا، وإذا قتلتم فأحسنوا، فإن الله عز وجل محسن يحب الإحسان»، قال: لم يرو هذين الحديثين عن قتادة إلا عمران القطان، تفرد بهما محمد بن بلال"، وكذلك رواه ابن أبي عاصم عن ابن طالوت به، وخرجه ابن عدي عن ابن مكرم ثنا علي ثنا محمد ثنا عمران القطان به، ورواه أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن الفضل الجوهري ثنا أبي ثنا أبي ثنا سليمان بن داود المنقري ثنا محمد بن بلال به، وهذا خبر صحيح من حديث محمد بن بلال، وكل رجاله ثقات، فقد قال الهيثمي:"رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات"، وقال الألباني في الصحيحة:"وهذا إسناد جيد رجاله ثقات معروفون غير محمد بن بلال وهو البصري الكندي، وقال ابن عدي:" أرجو أنه لا بأس به، وقال الحافظ:" صدوق يغرب"، وكذلك حسنه الذهبي في الميزان فإنه قال من ترجمة محمد بن بلال:" وساق له ابن عدى أحاديث حسنة"، وحديث الباب قد ساقه ابن عدي، ومحمد بن بلال من أهل الصدق وكان من أروى الناس عن عمران القطان وأوثقهم فيه، فقد قال الآجري: سألت أبا داود عنه فقال: ما سمعت إلا خيرا"، ووثقه ابن حبان والهيثمي، وقال أبو أحمد بن عدي:" يغرب عن عمران، وروى عن غير عمران أحاديث غرائب وليس حديثه بالكثير وأرجو أنه لا بأس به"، وكذا قال ابن حجر:" صدوق يغرب"، يعنيان أنه يتفرد عن عمران بأحاديث، وليس التفرد بطعن في الراوي البتة، لأنه كان من ألزم الناس لعمران، ولأنه صدوق عندهما، فقد قال أحمد بن سنان: سمعت محمد بن بلال راوية عمران القطان"، وقال الذهبي:"وهو معروف عن عمران القطان"، وقال أيضا: صدوق، غلط في حديث كما يغلط الناس"، وحسن أحاديثه فقال:"وساق له ابن عدى أحاديث حسنة"، بينما ذكره العقيلي في الضعفاء وقال يهم في حديثه كثيرا"، والعقيلي من المتشددين، والعبرة بقول الجمهور، وأما عمران القطان فقد وثقه أحمد وعفان وابن حبان والهيثمي وابن شاهين وقال:"أبو العوام عمران القطان من أخص الناس بقتادة"، وأحسن الثناء عليه يحيى القطان، وأما ما ذكره الفلاس قال:" كان عبد الرحمن يحدث عن عمران القطان وكان يحيى لا يحدث عنه"، وكذا ما ذكره الدوري عن يحيى بن معين قال:" عمران القطان ليس بشيء لم يرو عنه يحيى بن سعيد"، فإن يحيى القطان لم يحدث عنه لكونه خارجيا، ومع ذلك فقد أثنى عليه، وقال ابن عدي: وهو ممن يكتب حديثه"، وقال المنذري: صدوق، وقال ابن حجر في التقريب: "صدوق يهم، بينما قال في مقدمة الفتح: صدوق"، وصحح له الترمذي فقال عن حديث رواه من طريق عمران القطان عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع" قيل يا رسول الله أو يطيق ذلك ؟ قال يعطى قوة مائة"، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه من حديث قتادة عن أنس، إلا من حديث عمران القطان"، وصحح له في غير ما موضع، وكذلك احتج به ابن خزيمة في صحيحه وقد ذكر أنه لا يروي إلا عن الثقات، وصحح له الحاكم وقال عن حديث له: هذا حديث صحيح الإسناد غير أن الشيخين لم يخرجا عمران القطان وليس لهما حجة في تركه فإنه مستقيم الحديث"، وقال أيضا: أما مسلم فإنه لم يخرج في كتابه عن عمران القطان، إلا أنه صدوق في روايته وقد احتج به البخاري في الجامع الصحيح"، وقال الألباني في الإرواء(2/311):" وفي عمران القطان كلام يسير لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن"، بينما ضعفه ابن معين والنسائي وأبوداود بسبب خارجيته، ولنفس الشيء تركه يحيى القطان مع حسن الثناء عليه، فقد قال عمرو بن علي:" كان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه وكان يحيى لا يحدث عنه وقد ذكره يحيى يوما فأحسن الثناء عليه"، فثبت بكلام أكثر الأئمة صدق الرجل، وليس الجرح بالبدعة قادح في الضبط، فصح الحديث خاصة مع شاهده السابق من حديث شداد.
وهكذا روى الحديث عمران القطان عن قتادة عن أنس، وخالفه سعيد بن بشير وفيه لين فجعله من حديث قتادة عن أبي قلابة به، ووهم فيه وهما شديدا فيه: فقال الطبراني حدثنا عبد الله بن الحسين المصيصي ثنا محمد بن بكار ثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:« إذا ذبحتم فأحسنوا .."، وإنما هذا محفوظ من حديث أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد كما رواه الحفاظ، فاختلط حديث شداد مع حديث أنس على هذا الراوي فأدخل إسناد حديث في حديث آخر، والله وحده الموفق للصواب.
الحديث الثالث: حديث سمرة رضي الله عنه:
قال ابن عدي(6/2419) ثنا محمد بن أحمد بن الحسين الأهوزاي ثنا جعفر بن محمد بن حبيب ثنا عبد الله بن رشيد ثنا مجاعة بن الزبير أبو عبيدة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله عز وجل محسن فأحسنوا فإذا قتل أحدكم فليكرم قاتله وإذا ذبح فليحد شفرته وليرح ذبيحته"، وليس هذا مما يعتبر به والله أعلم، وفي الحديث الأول والثاني كفاية والله الهادي إلى الصواب.
كتبه أبوعيسى الزياني الجزائري