التعليقات النقدية على اختيارات وآراء "د. لطف الله خوجة" حول الصوفية (1)
* ابتدأ نقاش حول الصوفية (ماهيتها وأصلها وأنواعها) في مجموعة د. عبدالعزيز قاسم، وقد تجاذبت الآراء حول مسألة: هل لدينا فكرة صوفية واحدة أو صوفيات؟
ورأيتُ نشر هذا التعليق النقدي في هذا المنتدى تعميمًا للفائدة، وطلبًا للنقد والتمحيص، فبالمدارسة تُصقل الآراء وتكمل التصورات، وتلقح الأفكار.
أبدأ –أولاً- بشكري جميع الأخوة الذين أبدوا ملاحظاتهم الشخصية حول الحوار، و نزولاً عند رغبتهم –بل أمرهم- في مواصلة حوار التصوُّف، سوف أعرضُ ما لديَّ لجميعِ المتابعين، بعيداً عن الجدل الثنائي الذي صاحبه ما لم أكن أحبِّذه.
ولأنَّ محورَ النقاش لم يكن من الواضحات عند البعض –كما توهمتُ خطئًا- ويحتاج إلى مزيد توضيحٍ وتدليل؛ فبإذن الله سأشرع في وضع تعليقاتي النقدية على الفكرة التي طرحها أخونا الفاضل د. لطف الله في رؤيته لأصل التصوف ونشأته.
[عرض رأي د. لطف الله خوجة]
أودُّ –أولاً- أن أنبِّه إلى أني سبق أن اطلعت على رأي أخي د. لطف الله في أبحاثه ومقالاته العلمية. وأزعمُ أن لديَّ تصوراً كاملاً لرأيه قبل تلك المجاذبات الأخيرة. وحين أثير الموضوع ضمن هذه المجموعة رجوتُ أن يكون ثمة مجالٌ لمناقشة رأيه الذي لا أحسبه وُفِّق فيه للصواب.
وقبل الدخول في التفاصيل نحتاج لتوضيح نقطة الخلاف:
فالمشهور بين أهل العلمِ أن التصوف بدأ بين المسلمين بصورة نزوعٍ نحو المبالغة في التقشف والتزهد والانصراف عن الدنيا، ثم دخلت فيه صورٌ من البدع التي بدأت صغيرةً، ثم لم تزل تكبر حتى تمادى كثيرٌ من المتصوفة، فوقعوا في (التصوف الفلسفي) الذي هو أخطر مراتب التصوف.
هذا هو المشهور في كلام العلماء. وأما بعض الباحثين فمن رأيهم أن التصوفَ فكرةٌ واحدةٌ لا اعتدال فيها، كانت موجودةً لدى الأمم السابقة، ثم دخلت على المسلمين، فمنهم من أخذ بها كاملةً، ومنهم من أخذ بعضاً وترك بعضاً. فمن وصل إلى التصوف الغالي، فهو الصوفي حقيقيةً. و أما من لم يصل، فلم يفهم التصوف ولم يحقِّقْه، ولا يُطلق عليه الاسم إلا مجازًا. وعليه فليس هناك صوفية معتدلة وصوفية غالية. فالصوفية كلها فكرة واحدة متطرفة أجنبية عن البيئة الإسلامية.
وهو الرأي هو الذي تبناه أخونا د. لطف الله خوجه في أبحاثه ومقالاته العلمية المنشورة. وحين أقول إنه تبنى ذلك القولَ أو تأثر به، فلست أرى في ذلك أي مذمةٍ أو لمزاً له ما دامَ أخذ رأي هؤلاء عن قناعةٍ بأدلته، فالأفكار والتصورات تنسب لأول من قال بها، و لا عيبَ بعد ذلك أن يؤيدها المتأخر ويأخذ بها. لكن يبقى الشأن في قيمتها العلمية.
[عرض أدلة د. لطف الله خوجة]
يرى أخونا د. لطف الله أنَّ هناك أربع مسائل هي موضع التحرير، وبِفَصلِ القولِ فيها بالأدلة البرهانيَّة؛ يُفصَل القول في القضيَّة الأساس وهي: "فكرة التصوف: هل فيها اعتدال، أو كلها فكرة فلسفية لا اعتدال فيها".
وأولى تلك المسائل –في نظر د. لطف الله- مسألة: " تحقيق نسبة التصوف إلى أيِّ شيءٍ، هل هو إلى الصوف أم إلى كلمة (سوفيا) الفلسفيَّة؟"
يقول د. لطف الله: (من قال بالتصوف المعتدل، سواء من المتصوفة أو من غيرهم، فإنه استند إلى نسبة التصوف إلى الصوف.. وأما من قال بأن التصوف فلسفي، ليس فيه اعتدال، فإنه استند إلى إنكار نسبة التصوف إلى الصوف).
ثم قال بلغة واضحة لا لبس فيها: (هذا موضع التحرير، فمن ثبت دليله فقوله هو الحق، لا من بطل دليله).
ففي رأي د. لطف الله أن تحرير اشتقاق كلمة (صوفية) هو موضع التحرير. فإن ثبت أن الكلمة مشتقة من لفظ أجنبي، فهي فكرة أجنبية، وإن ثبت أنها مشتقة من لبس (الصوف) فلا.
ما هي الأدلة [البرهانيَّة] التي اعتمد عليها الأخ د.لطف الله في إثبات رأيه؟
شرع د.لطف الله في رفض أغلب المعاني التي يُنسَب إليها التصوف، ثم ضيقَ الخيارات لتنحصر بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما القول بأن التصوف من الصوف أم من كلمة أجنبيَّة؟ وانتخب الرأي القائل بعدم "اشتقاق الكلمة" ومن ثم فإنَّها ترجع للكلمة اليونانية "سوفيا".
ثم سلكَ منهجًا قائمًا على ثنائية "النقض" و"التأسيس"، أي نقض الآراء المخالفة له، فإذا ما سَلِمَ له النقض كما يعتقد، قام بتأسيسِ رأيه الذي يرى أنه الصحيح والصواب، فالنقض اشتمل على أربعة أدلة –تقريبًا، ودليل الإثبات اشتمل على ثلاث عشرة دليلاً أو نقطة تقريبًا. ونحن هنا سوف نعرض للنقض أولاً ثم التأسيس، منوعين بين التفصيل و الإيجاز حسب الحاجة.
الطريق الأول [النقض]: يمكن أن نلخصه تحت اسم [البرهان القشيري].
اجتهد د. لطف الله في نفي أن تكون كلمة (الصوفية) مشتقة من لبس (الصوف)، وقد أسَّسَ برهانه على دعوى أن المتصوفة لم يشتهروا بلبس الصوف، وعمدته نصٌ قاله إمام التصوف "عبدالكريم القشيري" في كتابه الشهير "الرسالة" حيث زعم أنَّ الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف لمحاولة تبرير زعمه أن اللفظة غير مشتقة.
ومدار أدلة الأخ خوجة على أربعة، كما يلي:
(1) النص: قال القشيري: (القوم –أي المتصوفة- لم يختصوا بلبس الصوف).
قال الأخ لطف الله: (عدم الاختصاص يعني انتفاء النسبة ما بين التصوف والصوف).
ويقول أيضًا: (إذن النتيجة المهمة هنا: أن القوم لم يختصوا بلبس الصوف).
وقال: (وهذه شهادة خطيرة، فيها نقض لقول من ادعى أن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف، شهد بها إمام عارف من أئمة الصوفية المتقدمين).
وقال: (كان علة ذلك، كما ذكر القشيري: أن القوم لم يختصوا ولم يشتهروا به).
وقال فزاد: (فالصوفية لم يُعرفوا بهذا اللباس، لا قديما ولا حديثاً).
وقال عنهم أنهم: (أعرضوا عن لبسه، فلم يتميزوا به).
كل هذه النتائج ولَّدها د. لطف الله من ذلك النص الصغير الذي ذكر فيه القشيري أن الصوفية "لم يختصوا بلبس الصوف".
(2) سلامة الدليل [البرهاني-القشيري] من المعارضة والرد:
بعد أن شيَّد الأخ لطف الله بنيان برهانه على ذلك النص العابرِ، واستنبط منه تلك النتائج الكبار، زاد في التأكيد والتثبيت، فذكر أن هذا النص قد سلم من الرد والمعارضة، ولذا فهو حقيقة مسلم بها ودليلٌ برهانيٌ!
يقول الأخ د. لطف الله: (ومما يعطي الشهادة قيمة أكبر، أنا لم نسمع بإمامٍ صوفيٍّ انبرى للرد عليه وإبطال زعمه هذا، فسكوتهم دليل موافقتهم له، ويبعد أن يكونوا غير مطلعين على كتابه، بل يستحيل، فكتابه "الرسالة" من أشهر كتب التصوف، فمن الذي لا يعرفه من الصوفية؟!).
وقال :(وهذه شهادة مهمة كونها صادرةً من إمامٍ متفقٍ عليه. وكونه لم يرد أحد كلامه هذا، ولم يعارضه أحد، لا من معاصريه، ولا من أتى بعده، فهل يعقل أن يكذب في شهادته، أو يخطئ، ثم يسكت عنه جميعهم، من أولهم إلى آخرهم، مع ظهور المسألة، وعدم خفائها؟).
وزاد، فقال: (لم يعترض أحد من المتصوفة بإنكار على هذا التقرير، لا من المعاصرين لهما، ولا من اللاحقين. أفلا يدل هذا على إقرارهم وتسليمهم بهذا التقرير؟).
(3) الدليل [العاضد] من كلام إمام الصوفية الهجويري:
بعد أن أقام د. لطف الله أساس برهانه على نص القشيري، وَجَدَ ما يَشُدُ من أزره ويعضده، وهو كلام الهجويري في كتابه "كشف المحجوب".
قال لطف الله: (بل سايره على هذا الرأي، ووافقه: إمام آخر معاصر له هو الهجويري).
وقال: (الهجويري كذلك أنكر النسبة إلى الصوف).
(4) دليل خلو تعريفات الصوفية من الصوف:
ثم عضد د. لطف الله رأيه بأن تراث الصوفية حتى منتصف القرن الخامس يكاد يخلو من ذكر الصوف. يقول لطف الله: (المتتبع والدارس تعريفات المتصوفة الأولين، المؤسسين، منذ بداية التصوف، وحتى منتصف القرن الخامس يلحظ خلوَّها من ذكر الصوف، إلا تعريفا يتيماً أو تعريفين من بين حوالي ثمانين تعريفاً، .. فلو كانت النسبة صحيحةً، فلم أعرضوا عن ذكره في هذه التعريفات؟!).
[التعليقات النقديَّة على أدلة د. لطف الله النقضيَّة]
ما ذكرتُهُ هو لبُّ وزبدة أدلة الأخ لطف الله، وهو قد طالب –سابقًا ومرارًا- بالأدلة البرهانية وترك الأدلة الخطابية. ولذا فنحن هنا لتقييم مدى كونها أدلةً فضلاً عن كونها برهانيَّةً.
(1) تقييم البرهان الأول:
أرتكزَ الدليل الأول والأهم –عند الأخ لطف الله- في إنكار النسبة الشهيرة بين التصوف والصوف، على النص السابق الذي قاله القشيري.
ومنه استنتج د. لطف الله: انتفاء النسبة ما بين التصوف والصوف، وأن الصوفية لم يشتهروا بلبس الصوفِ، بل لم يُعرفوا بهذا اللباس، لا قديماً ولا حديثًا. ثم ذكر أن هذه شهادة خطيرة –حسب تعبير لطف الله- تنقض قول من ادعى أن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف.
وللتعليق على الدليل الأول أقول:
أولاً: القشيري لم يقل: إن الصوفية (لم يشتهروا بلبس الصوف) أو إن الصوفية (لم يُعرفوا بهذا اللباس)، بل قالَ إنهم (لم يختصوا بلبس الصوف). وفرقٌ كبيرٌ بين التعبيرين. فالصوفية كانوا معروفين مشهورين بلباس الصوف منذ القدم. لكن القشيري يريد أن يقولَ إن لبس الصوف ليس خاصاً بهم. بل هو لباسٌ يشاركهم فيه غيرهم. فمن الخطأ أن يأتي الأخ لطف الله ليجعل عبارة القشيري دالةً على أن الصوفية "لم يشتهروا بلبس الصوف". ومقام القشيري في التصوف يبعد معه أن يجهل شهرة الصوفية بذلك.
قد يتصف فرد أو طائفة بصفة ويشتهر بها، حتى مع مشاركة غيره فيها. لكن شهرته بها تكون لمعنى خاصٍ استوجب ذلك، كما هو الحال بالنسبة للصوفية، إذ كانوا يلبسون الصوف هم وغيرهم. لكنهم اشتهروا به، لتعبدهم بلبسه، و لملازمتهم له عمداً بقصد التقشف وخشونة العيش.
ثانياً: لو فُرض أن القشيري أراد المعنى الذي قصده د. لطف الله. فإن انفراده بهذا الرأي بلا دليلٍ فهذا يكفي لعدم قبوله، وردِّه عليه، لأنَّ قوله المنفرد يقابل قول أغلب أئمة الصوفية وغيرهم، حيث قرروا خلاف ذلك، والعدول عن المشهور والمستفيض والمقرر إلى رأي فردٍ بلا دليل؛ تحكم لا يجوز.
ولأن الواضحات لم تعد واضحات، فسوف أسوق القليل من الكثير من تقريرات كبار أئمة الصوفية قبل القشيري وبعده، وتقريرات غيرهم من المؤرخين والعلماء المراقبين حال الصوفية في عصورهم.
[1] السابقون على القشيري.
أول مصدر يُطالعنا هنا هو أعظم وأقدم سفر لتأريخ التصوف، وهو كتاب (اللمع) لأبي نصر السراج الطوسي (378هـ).
قال شيخ الصوفية المعاصر (عبدالحليم محمود): (السراج الطوسي أعظم مؤرخ صوفي في تاريخنا قديمه وحديثه، هو بحق أكبر المؤلفين الصوفيين، وأستاذهم جميعًا بلا استثناء، هو الكتاب الأم في تاريخ التصوف الإسلامي، هو أقدم مرجع صوفي إسلامي، وهو فوق هذا أكبر هذه المراجع وأوثقها وأغزرها مادة، وأنقاها جوهرًا ولفظًا، ومن مادته الخصبة اقتبس كافة من أرخ للتصوف).
وبعد هذا الثناء الوافر، أنقلُ ما قاله هذا الإمام الصوفي، قال تحت باب اسمه (الكشف عن اسم الصوفية، ولم سموا بهذا الاسم، ولم نسبوا إلى هذه اللبسة).
فكما تلاحظ من عنوان الباب يظهر رأي إمامِ الصوفية هذا.
ثم نكمل معه، حيث يقول: (نسبتهم إلى ظاهر اللبسة، لأن لبسة الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام وشعار الأولياء والأصفياء، ويكثر في ذلك الروايات والأخبار).
ثم قال: (الصوفية عندي، والله أعلم، نُسبوا إلى ظاهر اللباس..لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام والصديقين وشعار المساكين المتنسكين).
أما المصدر الثاني فهو كتاب (التعرف لمذهب أهل التصوف) لأبي بكر الكلاباذي (380هـ). فقد قال: (ومن لبسهم وزيهم سُموا صوفيَّة). وقال: (الصوف لباس الأنبياء وزي الأولياء). ثم ساق الروايات في فضل لباس الصوف.
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: (أخبرني أبو علي عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن فضالة النيسابوري بالري قال سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن سعيد السرخسي ببخارى يقول سئل أبو علي الروذباري (322 هـ) –صاحب الجنيد- فقيل له: من الصوفي؟ فقال: من لبس الصوف على الصفا).
وقال الحكيم الترمذي ) 360هـ( في (النوادر):)فعلى هذا المثال عَامَلت متزهدة زماننا، سَمِعَت أنه مضى في السلف الصالح من الصحابة والتابعين قوم اجتزوا بالدون من الحال فلبسوا الصوف والخلقان و أكلوا النخالة وامتنعوا من الشهوات.. فخلف من بعدهم خلف اتبعوهم فيما ابتدعوه وهم غير صادقين فيها فأقبلوا على لبس الصوف والخلقان وأكل النخالة والخبز المتكرج يريدون بذلك إظهار الزهد وقلوبهم مشحونة بشهوات الدنيا).
ونقل الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي (360هـ) في (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) عن ابن المبارك وكذا في (تاريخ بغداد) أنه قال يعاتب أحد العباد:
أيها القارئ الذي لبس الصوف *** وأمسى يعد في الزهاد
الزم الثغر والتواضع فيه *** ليس بغداد منزل العباد
وكذلك ذكر عبدالله بن محمد بن جعفر بن حيان أبو محمد الأنصاري (369هـ) في كتابه، أنه سمع أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي من الصوفية الكبار، أنه قال: (سُمِيت الصوفية باسم الصوفية لأنهم قوم عملوا بحقائق الدين وحققوا العمل للآخرة بالزهد في الدنيا والتقلل، وكان لباسهم الصوف من إحدى تلك الحقائق فكان ظاهرًا ففارقوا به الناس فسموا به).
وذكر أبو نعيم الأصبهاني في (الحلية) أنَّ لباس الصوف هو اختيار الصوفية.
بل إن القشيري نفسه قال: (قال أبو سليمان الداراني : الصوف علم من أعلام الزهد)!!
[2] المعاصرون للقشيري.
وممن احتج بهم الأخ لطف الله الإمام الصوفي الهجويري، ويا ليته –وهو المختصص خمسة عشر عامًا في التصوف- قلَّبَ كتاب (كشف المحجوب) قليلاً، لوجد أنه بعد صفحاتٍ يسيرة عقدَ بابًا كاملاً بعنوان: (باب في لبس المرقعة).
قال فيه: (اعلم أن لبس المرقعة شعار المتصوف، ولبس المرقعات سنة، ومن هنا قال الرسول عليه السلام: "عليكم بلباس الصوف تجدون حلاوة الإيمان").
ثم شرع في إيراد الروايات والآثار التي تحث وتخص لباس الصوف بالأجر والثناء ومزيد الفضل. ثم ساق أسماء مشاهير أولياء وأئمة الصوفية الذين لبسوا الصوف.
قال: (أمر داود الطائي رحمه الله بلبس الصوف، وكان من الصوفية المحققين).
وقال: (كان الشيخ محمد بن خنيف رضي الله عنه يرتدي لمدة عشرين عامًا ثوبًا من الصوف الغليظ ويعتكف).
ثم عقدَ فصلاً تحدث عن تصوف زمانه؛ فقال فيه: (فصل: وأما ترك عادة هذه الطائفة فلا يكون شرطًا في طريقتهم، وقلة ارتدائهم ثياب الصوف الآن له معنيان..إلخ).
[3] اللاحقون للقشيري.
قال السهروردي (632هـ) في (عوارف المعارف): (نُسبوا إلى ظاهر اللبسة، وكان ذلك أبين في الإشارة إليهم وأدعى إلى حصر وصفهم، لأن لبس الصوف كان غالبًا على المتقدمين من سلفهم.. فالقول بأنهم سموا صوفية للبسهم الصوف أليق وأقرب إلى التواضع..ولم يزل لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمتقشفين والعباد).
وأنشد عبد الغني النابلسي في (ديوانه):
واجعل معاشك من خبز الشعير ومن *** ماء وإن لم يكن عذبا فتغترف
وخرقة الصوف طول العمر تلبسها *** مع صاحب أو صحاب أنت تأتلف
وقال عبد الرؤوف المناوي قي (فيض القدير): (وقد أمر الشارع بالتوسط بين التفريط والإفراط حتى في العبادة وفيه رد على من تحرى من الصوفية لبس الصوف دائما ومنع نفسه من غيره وألزمها زيا واحدا وعمد إلى رسوم وأوضاع وهيئات ويرى الخروج عنها منكرا).
[4] من غير الصوفية.
قال ابن خلدون عن الصوفية: (وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفه الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد و الانفراد عن الخلق و الإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم).
وهو رأي ابن تيمية.
وقال ابن القيم في (الزاد): (وذكر الشيخ أبو إسحاق الأصبهاني بإسناد صحيح عن جابر بن أيوب قال: دخل الصلت بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جبة صوف وإزار صوف وعمامة صوف، فاشمأز منه محمد وقال: أظن أن أقواما يلبسون الصوف ويقولون قد لبسه عيسى ابن مريم.. ومقصود ابن سيرين بهذا أن أقواما يرون أن لبس الصوف دائما أفضل من غيره فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره).
وقال بدر الدين العينى الحنفي في (معانى الأخيار): (الصوفى: نسبة إلى لبس الصوف، منهم الطائفة التي تسمى بالصوفية، وأكثرهم أهل بدع وضلال).
وقال الشيخ علي بن سلطان محمد القاري في (مرقاة المفاتيح): (وأما أكثر طوائف الصوفية فاختاروا لبس الصوف).
فهذه جملة يسيرة -من كثير- من أقوال أئمة الصوفية وغيرهم تبين أن لباس الصوف كان شعارًا ورمزًا للصوفية. فلماذا يرفض د. لطف الله كل هذا ويُتمسك بنص القشيري فقط، ثم يبني عليه أن الصوفية لم يشتهروا ولم يُعرفوا بلبس الصوف قديماً ولا حديثاً؟
ثالثاً: أنَّ الأخذَ بقولِ صوفيٍ واحدٍ، ثم تحميله ما لا يحتمل، لا يُعتبرُ دليلاً فضلاً أن يكون برهانيًا، فضلاً أن يكون ناقضًا لحقائقَ مشهورة مقررة، فأين منهجية البحث العلمي؟
ألم يرد الأخ لطف الله قول الكلاباذي في اختياره أحد معاني التصوف، والسبب كما قال لطف الله: (هذا قول يحتاج إلى دليل، ولم يستند إلى شيء، ولم أره لغيره).
وبنفس المنطق: فإنَّ قولَ القشيري –حسب فهم د. لطف الله- قول يحتاج إلى دليل، ولم يستند إلى شيء، ولم أره لغيره، بل خالفه الصوفية في ذلك.
فلماذا قبل أخونا د. لطف الله كلام القشيري ورفض كلام الكلاباذي؟! وتتضح خطورة هذا الانتقاء حين نعلم أن د. لطف الله سيبني عليه أن الصوفية فكرة فلسفية واحدة واردة من خارج البيئة الإسلامية.
رابعاً: إذا سلمنا –جدلاً- بصحة قول القشيري وهو: "إنَّ الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف"، فمن أين للدكتور لطف الله أنهم اعرضوا عن لبسه؟ وأنهم لم يُعرفوا بهذا اللباس، لا قديما ولا حديثًا؟ فهذا المعنى زائدٌ جدًا على ما قاله القشيريُ، فأين الدليل البرهاني هنا؟!
خامساً: قال د. لطف الله: (التصوف فكرة ونحلة.. وبناء على هذا: إن أردنا التعرف على دين أو نحلة أو فكرة ما.. لا يصح أن نلجأ إلى المنتسبين فنعتمدهم مصدرًا).
يريد لطف الله بهذا الكلام أن المنتسب الذي لم يحقق معنى التصوف، لا يصلح أن يكون مصدراً لتعريفهِ وفهم معناه. وعليه فقد كان من المفترض ألا يصح الاستدلالُ بكلام القشيري والهجويري كمصدرٍ معتمدٍ يشرح معنى التصوف، إلا في حالة واحدةٍ، وهي ما إذا كان الدكتور يرى أن القشيري والهجويري متحققين بالتصوف الفلسفي –الذي هو عنده غير معتدل وزندقة ومضاد للإسلام-!!.
سادساً: كلام القشيري –لو سُلمت دلالته- فهناك إشارات قد تحمل كلامه على أنه يتحدثُ عما غلب ووقع فيه زُهَّادُ عصره، ومتصوفة زمانه، حيث لُبِسَ التصوف للدنيا والشهوات، فلم يَعد مختصًا على الصوفية الحقة كما يراها هو.
فقد جاء ما نصه في رسالته: (هذه رسالة كتبها..القشيري.. إلى جماعة الصوفية ببلدان الإسلام في سنة 437هـ.. اعلموا رحمكم الله، أنَّ المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم.. حصلت الفترة في هذه الطريقة، لا بل اندرست الطريقة بالحقيقة، مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء).
فهنا يُقرر -حسبَ رأيه هو- أنَّ الطريقة الصوفية اندرست، فإن كانت شهادة على غير عصره فقد ردها أهل ذلك العصر، وإن كان شهادة على عصره، فقد بررها أحد أئمة الصوفية المعاصرين زمانه، وهو الهجويري.
قال الهجويري: (وقلة ارتدائهم ثياب الصوف الآن، له معنيان، أحدهما: أن الأصواف تشعثت والأنعام انتقلت في الغارات من مكان إلى مكان. والثاني: أنَّ طائفة من أصحاب البدع اتخذوا رداء الصوف شعارًا لهم، ومخالفة شعار أهل البدع سنة ولو مخالفة للسنة).
فالهجويري –الذي احتج به لطف الله- يؤكد أنَّ الأصلَ في الصوفيّة لبس الصوف، وأنه شعارهم وعادتهم المعروفة، لكنهم في عصره أخذوا في التقلل منه بسبب ما ذكره.
ومن هنا نتساءل: كيف يمكن أن يرد –باحثٌ أكاديميٌ متخصصٌ في التصوف- جميعَ تلك الدلالاتِ التي تثبت أنَّ الصوف شعارَ الصوفية، لأجل نصٍ واحدٍ يتيمٍ ذي دلالةٍ محتملةٍ؟
فهل وقف الأخ لطف الله على تلك النصوصِ وتجاهلها وتمسك بنص القشيري وحده؟ أو أنه لم يقف عليها أصلاً –رغم كثرتها وشهرتها-.
سؤال يضع علامات تعجب كبرى، أياً كان جوابه.
(2) تقييم الدليل الثاني:
لعل الأخ لطف الله استشعر ضعف دليله فحاولَ تدعيمه وتقويته بدعوى أنه لم يسمع بإمام صوفي، لا من معاصريه، ولا من أتى بعده، انبرى للرد على كلام القشيري وإبطال قوله. فالجميع –في رأيه- سكتوا موافقين للقشيري، فهل يعقل أن يكذب القشيري في شهادته، أو يخطئ، ثم يسكت عنه جميعهم، من أولهم إلى آخرهم، مع ظهور المسألة، وعدم خفائها؟ بل –يواصل الأخ لطف الله-: لم يعترض أحد من المتصوفة بإنكار على هذا التقرير، لا من المعاصرين لهما، ولا من اللاحقين. أفلا يدل هذا على إقرارهم وتسليمهم بهذا التقرير؟
وللتعليق على هذا الدليل؛ أقول:
لأنَّ في المدارسة فوائد، فأول فائدة هنا تظهر هي: أن هذا الدليل قويٌ جدًا بنبرته الواثقة وخطابيَّته القوية فقط لا غيرَ. أما مضمونه فلا أساس له من الصحة ألبتة، فكلام أخي الدكتور لطف لله لم يقم على أساس دراسةٍ ومعرفةٍ بمحتويات بطون كتب الصوفية، وخبرةٍ في مصادرهم، بل هو مجرد تخميناتٍ وافتراضاتٍ لم تقم على استقراء حقيقيٍّ، يدعمه منطق البحث العلمي إطلاقًا.
وآمل ألا يقول أخي الدكتور لطف الله أني -بكلامي هذا- لم أحترم تخصصه في دراسة التصوف. لأن الاحترامَ شيءٌ يجب ألا يقدم على الحقيقة العلمية القريبة الواضحة التي لا يتعب الباحث في الوقوف عليها.
فحين يكون هناك نص في (الرسالة القشيرية)، ويريد باحثٌ ما أن يتتبع موقف العلماء منه. فمن أقرب المراجع التي كان المفترض -من المبتدئ فضلاً عن المتخصص- أن يراجعها؛ شروح الرسالة القشيرية نفسها. هذا من البديهيات.
ففي حين يزعم أخونا د. لطف الله أن أحداً لم يعترض على كلام القشيري، نجد في (شرح الرسالة القشيرية) للشيخ الصوفي زكريا الأنصاري تعليقاً لا أدري كيف فات د. لطف الله الوقوف عليه.
فحين قال القشيري: (لكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف). تعقبه الأنصاري فقال: (لكن هذا لا يضر، لأن الحكم للغالب، والغالب عليهم لبسه، والاكتفاء به، وإنما اختاروا لبسه لأنه أرفق بهم ولأنه لباس الأنبياء والصالحين).
وحينما قال القشيري: (أشهر من أن يُحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ واشتقاق) تعقبه معترضًا فقال: (وأنت خبير بأن شهرتهم لا تغني عن بيان اشتقاق اسمهم).
وممن تعقب القشيري أيضًا من أئمة الصوفية علي الهروي البسطامي (875هـ) في كتابه المخطوط (حل الرموز و مفاتيح الكنوز في شرح رسالة السهروردي) فبعد أن عرض الآراء في نسبة التصوف، ذكر مقولة القشيري (أن الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف) فتعقبها وأورد عليه أن الصوف لباس الأنبياء والأولياء والمتصوفة وساق الروايات.
ومن المعاصرين: قال الشيخ الصوفي صلاح الدين التيجاني في (الكنز) بعد ذكره كلامًا للقشيري، قال: (أما اشتقاقها فالصحيح لغويًا أنها نسبة إلى الصوف، وذلك أنَّ هؤلاء الزهاد والعباد كانوا يلبسون الصوف، إذ كان من علامة الزهد آنذاك).
وقال الصوفي المعاصر –شيخ مشايخ الطريقة الغنيمية- أبو الوفا الغنيمي التفتازاني رادًا كلام القشيري بعد عرضه: (والأصوب أن يُقال: إن اشتقاق كلمة صوفي هو من الصوف، فيقال: تصوف الرجل إذا لبس الصوف، وكان الصوف شعارًا للعباد والزهاد لأول نشأة الزهد، وكثير من الصوفية أنفسهم يذهبون إلى هذا الرأي).
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف جزمَ أخونا د. لطف الله وأطلق القول بأنه: لم يسمع بإمام صوفي، لا من معاصري القشيري، ولا من أتى بعده، انبرى للرد على كلامه، وأنهم سكتوا موافقين ومقرين له، وأنه لم يعترض أحد من المتصوفة بإنكار على هذا التقرير، لا من المعاصرين لهما، ولا من اللاحقين؟
مثل هذا المنهج من أخينا د. لطف الله هو ما كنت أرغب في مناقشته معه. فقد رأيت في كلامه مجازفاتٍ وإطلاقاتٍ كبيرةً تفتقر للحد الأدنى من التحقيق والتحرير. ثم تأتي البلية حين تجعل هذه الإطلاقات مقدماتٍ لنتائج وأحكام تشتمل على ما ينافي العدل و الإنصاف.
والله أعلم..
عايض بن سعد الدوسري
(يتبع بإذن الله الحلقة الثانية).