بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله معز الإسلام بنصره ومؤيد جنود التوحيد بقهره والصلاة والسلام على المبعوث بأمره وعلى آله وصحبه المقتفين لأثره
أما بعد :
فمن الأمور المزعجة على الساحة ظاهرة النفخ والتفخيم ، والتي يتولى كبرها ثلة من الجهال يجعلون من كل ناعقٍ عالماً جهبذاً ومحدثاً متفنناً وأصولياً متقناً
وإذا وقع هذا المنفوخ المكبر في ضلالة
كانت الأعذار جاهزة فهو مصنفٌ في خانة المجتهدين أصحاب الأخطاء المغتفرة _ حتى ولو في المسائل المتفق عليها بين أهل السنة _
ومن لا يعمل لا يخطيء !!! وينبغي عليك إذا أردت انتقاده أن تفتتح مقالك وتختمه بذكر علمه وفضله ومناقبه ومآثره وخيرٌ لك ألا تذكر اسمه لكي لا تؤكل بلا ملح
دعنا من ذكر هؤلاء ولنشرع بالمقصود
ثمة أطروحة سمجة تقول أنه لا ينبغي التثريب على الأشاعرة لاشتغالهم بعلم الكلام فقد اشتغل به جماعة من أهل السنة ولو لم يشتغلوا به لكان نقصاً في حقهم وعلم الكلام مثل أصول الفقه وعلم الحديث وغيرها
وأقول جواباً على هذا التخليط
المشتغلون بعلم الكلام على صنفين
الصنف الأول من يعتقد أن علم الكلام من أشرف العلوم ولا يتوصل إلى كمال التوحيد إلا بمعرفته وهذا الصنف يطوع النصوص الشرعية للقواعد الكلامية
ومثال ذلك من يقول أن إثبات الصفات الفعلية يستلزم حلول الحوادث في الذات وحلول الحوادث في الذات يستلزم حدوثها لذا ينبغي أن نؤول النصوص الشرعية المثبتة للصفات الفعلية
الصنف الثاني صنفٌ يعتقد أن علم الكلام لايحتاجه الذكي ولا ينتفع به البليد غير أنه عرف قواعده لإظهار تناقض أهله فيه ولإلزامهم بل ألزموا به أنفسهم
وهذا مثله مثل من يقرأ الإنجيل للإحتجاج بما فيه على النصارى أو لإثبات تحريفه
فمن سوى بين هذين الصنفين فقد تعدى وظلم والصنف هو الذي يتناوله الذم والتقريع الوارد عن السلف
ولا يخفى على القاريء أن شيخ الإسلام هو المقصود بالصنف الثاني لذا اخترت طائفةً من نصوصه في درء التعارض لبيان موقفه من علم الكلام
قال شيخ الإسلام (1/156) (( فالمعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة يقولون إن أصلهم المتضمن نفي الصفات والتكذيب بالقدر الذي يسمونه التوحيد والعدل معلوم بالأدلة العقلية القطعية ومخالفوهم من أهل الإثبات يقولون إن نقيض ذلك معلوم بالأدلة القطعية العقلية
بل الطائفتان ومن ضاهأهما يقولون إن علم الكلام المحض هو ما أمكن علمه بالعقل المجرد بدون السمع كمسألة الرؤية والكلام وخلق الأفعال وهذا هو الذي يجعلونه قطعيا ويؤثمون المخالف فيه
وكل من طائفتي النفي والإثبات فيهم من الذكاء والعقل والمعرفة ما هم متميزون به على كثير من الناس وهذا يقول إن العقل الصريح دل على النفي والآخر يقول العقل الصريح دل على الإثبات ))
قلت المقصود بالطائفة الثانية الأشاعرة والكرامية فهم متكلمي أهل الإثبات
وشيخ الإسلام هنا يظهر تناقض المتكلمين فهم يزعمون أن علمهم عقليٌ محض ثم هم على لا يتفقون على الأدلة العقلية بل كلٌ منهم يزعم أن أدلته العقلية هي القطعية
قال شيخ الإسلام ( 1/342) (( ومن العجب قول من يقول من أهل الكلام إن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم الكلام الذي يعرف بمجرد العقل وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات عندهم وهذه طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب الإرشاد وأمثالهم
فيقال لهم هذا الكلام تضمن شيئين أحدهما أن أصول الدين هي التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع والثاني أن المخالف لها كافر وكل من المقدمتين وإن كانت باطلة فالجمع بينهما متناقض وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم إلا بالعقل يكفر وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به أو الإمتناع عن متابعته مع العلم بصدقه مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم ))
قلت صاحب الإرشاد هو الجويني وهو من أئمة الأشاعرة فتأمل
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر(603) وهو يصف حال المتكلمين (( وقد آل بهم الأمر إلى أن اعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم
فالله الله من مخالطة المبتدعة ))
وقال شيخ الإسلام متكلماً على دليل المتكلمين في إثبات الصانع (1/309) (( ولهذا كان عامة أهل العلم يعترفون بهذا وبأن سلوك هذه الطريق ليس بواجب بل قد ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن سلوك هذه الطريق بدعة محرمة في دين الرسل لم يدع إليها أحد من الأنبياء ولا من أتباعهم
ثم القائلون بأن هذه الطريق ليست واجبة قد يقولون إنها في نفسها صحيحة بل ينهى عن سلوكها لما فيها من الأخطار كما يذكر ذلك طائفة منهم الأشعري والخطابي وغيرهما
وأما السلف والأئمة فينكرون صحتها في نفسها ويعيبونها لاشتمالها على كلام باطل ولهذا تكلموا في ذم مثل هذا الكلام لأنه باطل في نفسه لا يوصل إلى حق بل إلى باطل كقول من قال الكلام الباطل لا يدل إلا على باطل وقول من قال لو أوصى بكتب العلم لم يدخل فيها كتب علم الكلام وقول من قال من طلب الدين بالكلام تزندق ونحو ذلك
ونحن الآن في هذا المقام نذكر ما لا يمكن مسلما أن ينازع فيه وهو أنا نعلم بالضرورة أن هذه الطريق لم يذكرها الله تعالى في كتابه ولا أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم ولا جعل إيمان المتبعين له موقوفا عليها فلو كان الإيمان بالله لا يحصل إلا بها لكان بيان ذلك من أهم مهمات الدين بل كان ذلك أصل أصول الدين لا سيما وكان يكون فيها أصلان عظيمان إثبات الصانع وتنزيهه ))
قلت هذه الطريقة لا يكاد يخلو منها متن من متون متأخري الأشاعرة في العقيدة (انظر السنوسية والنورية على سبيل المثال )
وقال شيخ الإسلام (8/48) (( وسأل رجل ابن عقيل فقال له هل ترى لي أن أقرأ الكلام فإني أحسن من نفسي بذكاء فقال له إن الدين النصيحة فأنت الآن على ما بك مسلم سليم وإن لم تنظر في الجزء يعني الجوهر الفرد وتعرف الطفرة يعني طفرة النظام ولم تخطر ببالك الأحوال ولا عرفت الخلاء والملاء والجوهر والعرض وهل يبقى العرض زمانين وهل القدرة مع الفعل أو قبله وهل الصفات زوائد على الذات وهل الاسم المسمى أو غيره وهل الروح جسم أو عرض فإني أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا ذلك ولا تذاكروه فإن رضيت أن تكون مثلهم بإيمان ليس فيه معرفة هذا فكن وإن رأيت طريقة المتكلمين اليوم أجود من طريقة أبي بكر وعمر والجماعة فبئس الاعتقاد والرأي
قال ثم هذا علم الكلام قد أفضى بأربابه إلى الشكوك وأخرج كثيرا منهم إلى الإلحاد ))
قلت في هذا رد على من قاس علم الكلام على علم الحديث وأصول الفقه فإن هذين العلمين لا يستغنى عنهما في فهم الشريعة بخلاف علم الكلام كما أن أصل هذين العلمين كان موجوداً في عصر السلف بخلاف علم الكلام
وقال رحمه الله ( 7/140) (( بل نجيبكم وأولئك جميعا ببيان أنه ليس معكم فيما تخالفون به النصوص لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل ليس معكم في ذلك إلا الأكاذيب المموهة المزخرفة بالألفاظ المجملة الموهمة التي تلقاها بعضكم عن بعض تقليدا لأسلافكم فإذا فسر معناها وكشف عن مغزاها ظهر فسادها بصريح المعقول كما علم فسادها بصحيح المنقول وتبين أيضا أن حجة الرسول قائمة على من بلغه ما جاء به ليس لأحد أن يعارض شيئا من كلامه برأيه وهواه بل على كل أحد أن يكون معه كما قال تعالى (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )) سورة النساء 65
ونحن لا نسلم ما سلمتموه أنتم من المقدمات الفاسدة كما سلمتموه لمن عارض الكتاب من القرامطة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم بل نسد عليهم الطريق التي منها دخلوا على الإسلام ونمنعهم المقدمات التي جعلوها أصل علم الكلام الذي خالفوا به الكتاب والسنة وإجماع الأنام ))
وقال رحمه الله (7/165) (( فهذا كلام أبي حامد مع معرفته بالكلام والفلسفة وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام ويذكر خلاف من نازعهم ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول لأمته وإذا لم يكن فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد امتنع أن يكون معارضا لها فضلا عن أن يكون مقدما عليها فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضا للكتاب والسنة وما كان من ذلك مناقضا للكتاب والسنة وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذي لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين لا من السلف والأئمة ولا أحد من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة وما يقبل من ذلك وما يرد وما يحمد وما يذم وإن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء
هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدل باطلا وإن قصد به نصر الكتاب والسنة فيذمون من قابل بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد فكيف من قابل السنة بالبدعة وعارض الحق بالباطل وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق ))
وقال رحمه الله (7/186) (( فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه وما خرج عنه فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع وإما مشاغبات بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل وقت بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منها مألوفا في العصر الأول فكان الخوض فيه بالكلية من البدع ))
الله أكبر الله أكبر تأمل هذا جيداً فإن فيه الرد المفحم على المهرطق الذي يقيس اشتغال شيخ الإسلام بعلم الكلام على اشتغال الأشاعرة به
وقال رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية ( 1/101) (( قالوا وكذلك فالعقل ينفي ذلك بما دل على حدوث الجسم والعرض القائم به قالوا لأنه لم يدل العقل على حدوث كل موصوف قائم بنفسه وهو الجسم وكل صفة قائمة به وهو العرض والدليل المذكور على ذلك دليل فاسد وهو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وبطلانه))
أكتفي بهذا القدر لئلا يمل القاريء
وصل اللهم صلاةً تبلغ الكثرة ، وعلى النبي والعترة ، والصحابة البررة ، ومن تبعهم بإحسان إلى ساعة الزجرة