السلام عليكم ورحمة الله.
شيخنا أمجد الفلسطيني.. تحية طيبة لك وللإخوة المشاركين.
اتفقت معك في ثلاث نقاط، واختلفنا في واحدة، فالذّي يجمعنا في هذا الموضوع أكثر مما يفرقنا.
فأمّا الثلاث التّي اتفقنا عليها:
1. أنّ هذا الموضوع ليس ذَمًّا لأهل الحديث، ولا استنقاصاً منهم.
2. أنّ المدارس قد تمايزت منذ القديم، فهناك الفقيه الصِرف، وهناك المحدَّث الصِرف، كما يوجد الفقيه العارف بقواعد الحديث، والمحدِّث الذّي يفقه الحديث.
3. أنّ الفقه مراتب وليس مرتبة واحدة.
أمّا المسألة التّي اختلفنا فيها:
هي مسألة: الإمام يحيى بن معين رضي الله تعالى عنه.
إمام المحدثين.
الذّي كان يحفظ ألف ألف حديث.
قال فيه الإمام أحمد: "كأنّ الله خلقه لهذا الشأن".
وأعجبني شيخي نقلك لكلام الإمام أحمد في عبد الرزاق صاحب المصنف، ففيه أنّ الفقه قليل عند أصحاب الحديث.
والشيء الذّي أعجبني أكثر تعليقك عليه عندما قلت: "يريد رتبة معينة من الفقه"، وهذه الرتبة التّي لأجلها فتحت الموضوع للمناقشة.
فوالذّي نفسي بيده ما كنت أريد أن أَصِل إلى مسألة المناقشة في مدى فقه الإمام، وإنّما أردت من خلال الموضوع أن أبين منزلة الفقيه، حتى لا يطمع أحد في عصرنا فيُنَادي بطرح أقوال الأئمة والنظر مباشرة في الكتاب والسنة، و..و..
وأظن – والله أعلم – أنّ كثيراً من الشباب الذّين يُنَادُون بطرح فكرة المذهبية، والزهد في فقه الأئمة انطلقت من مثل هذه الأمور.
وأعود للشّيخ فأقول:
فقه الرواية، أو فقه التحديث، هو الفقه الذّي يكون فيه المحدث عالماً بِما يحُدِّث، عارفاً لمعاني ما يروي، مُرتِّبا لأبواب الفقه إن صنَّف، محيطاً بناسخ الحديث ومنسوخه، له الأهلية في حمل مطلقه على مقيده، وعامه على خاصه،..
فهذه رتبة فقيه الحديث، وهي من مراتب الفقه، فإذا وجدنا وصفاً لأحد أئمة الحديث بهذا الوصف، فهم يقصدون هذه المرتبة، وأظنّ شيخنا أمجد أنّك عَرَّضت لذلك في كلامك فقلت عن الشيخ عبد الرزاق: "فإنّ مصنفه يدل على أنّه كان يتفقه".
ثمّ بعد هذه المرتبة تأتي مرتبة من أضاف على ما تقدم "تعليلات النصوص"، وأدرك أنّ الألفاظ لم تُقصّد لظواهرها، وإنّما هي قوالب للمعاني، وهذا الأمر يُنكِره كثير من المحدثين، بدليل أنّك نقلت في مشاركتك أنّهم إذا خالف ما يحفظون قدموا الحديث، وفيه دلالة على وجود فرق.
ثمّ عندما نَقلت شيخنا أنّ الإمام كان متفقها على طريقة أبي حنيفة، وأنّ له اختيارات فقهية، فلو نُقِلت لك شيخنا هذه الأمور كحجج لإثبات أنّ الشّيخ كان فقيها، وكنت ترى عكس ذلك، فهل كنت تُسلِّم بها.
– أُصدُقني شيخي أمجد القول -.
وقد وَقفتُ مؤخرا على باحث في درجة الماجستير، يبحث في موضوع عنوانه اختيارات القاضي عياض المالكي الحديثية، فهل نقول إنّ إمام المالكية في عصره كان محدِّثاً ؟.
الجواب: لا.
لأنّ محققي كتبه أثبتوا خلاف ذلك، وانظر على سبيل المثال محقق كتابه "الشِفا بالتعريف بحقوق المصطفى" فقد أخرج منه أكثر من ثلاثة أرباع من مجموع الأحاديث عَلَّق على بعضها بأنّه ضعيف، والبعض الآخر موضوع، وتساهل في بعضها فقال حسن لغيره.
هذا، وأؤكد لإخواني جميعا:
أنّ القول عن فلان بأنّه ليس بفقيه، لا يعني أنّه زاملة، يحفظ الحديث فقط، لا يدري معناه، وإنّما الفقه مراتب.
فلا يظنن أحد أنّه بِحفظ الحديث يحكم على المسألة، وعندما يُسأَل بأنّ الأئمة قالوا خلاف ذلك يقول ببساطة: لعلّ الحديث لم يَصِلهم !!، فليس الفقه بهذه السهولة، واعتبر بِيحيى بن معين الذّي كان يحفظ من الحديث أكثر مما تحفظ أضعافاً مضاعفة، ولم يقل هذا الكلام ولكنّه اختار أن يكون حنفياً لأنّه - ببساطة- عَلِم منزلة الفقهاء.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.