من شرح النووي على مسلم :
((قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج رضي الله عنه : (
حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه ثنا أبي ثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني إلى آخر الحديث )
فائــــدة 1
اعلم أن مسلما - رحمه الله -
سلك في هذا الكتاب طريقة في الإتقان والاحتياط والتدقيق والتحقيق مع الاختصار البليغ والإيجاز التام في نهاية من الحسن مصرحة بغزارة علومه ودقة نظره وحذقه , وذلك يظهر في الإسناد تارة وفي المتن تارة وفيهما تارة , فينبغي للناظر في كتابه أن يتنبه لما ذكرته فإنه يجد عجائب من النفائس والدقائق تقر بآحاد أفرادها عينه , وينشرح لها صدره , وتنشطه للاشتغال بهذا العلم . واعلم أنه لا يعرف أحد شارك مسلما في هذه النفائس التي يشير إليها من دقائق علم الإسناد . وكتاب البخاري وإن كان أصح وأجل وأكثر فوائد في الأحكام والمعاني , فكتاب مسلم يمتاز بزوائد من صنعة الإسناد , وسترى مما أنبه عليه من ذلك ما ينشرح له صدرك , ويزداد به الكتاب ومصنفه في قلبك جلالة إن شاء الله تعالى . فإذا تقرر ما قلته ففي هذه الأحرف التي ذكرها من الإسناد أنواع مما ذكرته , فمن ذلك أنه قال أولا : حدثني أبو خيثمة , ثم قال في الطريق الآخر : وحدثنا عبيد الله بن معاذ , ففرق بين حدثني وحدثنا . وهذا تنبيه على القاعدة المعروفة عند أهل الصنعة وهي أنه يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ : حدثني , وفيما سمعه مع غيره من لفظ الشيخ : حدثنا , وفيما قرأه وحده على الشيخ : أخبرني , وفيما قرئ بحضرته في جماعة على الشيخ : أخبرنا , وهذا اصطلاح معروف عندهم , وهو مستحب عندهم , ولو تركه وأبدل حرفا من ذلك بآخر صح السماع ولكن ترك الأولى . والله أعلم .
فائــــــدة 2
ومن ذلك أنه قال في الطريق الأول : ( حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ) ثم في الطريق الثاني أعاد الرواية ( عن كهمس عن ابن بريدة عن يحيى ) فقد يقال : هذا تطويل لا يليق بإتقان مسلم واختصاره , فكان ينبغي أن يقف بالطريق الأول على وكيع , ويجتمع معاذ ووكيع في الرواية عن كهمس عن ابن بريدة وهذا الاعتراض فاسد لا يصدر إلا من شديد الجهالة بهذا الفن . فإن مسلما رحمه الله يسلك الاختصار لكن بحيث لا يحصل خلل , ولا يفوت به مقصود , وهذا الموضع يحصل في الاختصار فيه خلل , ويفوت به مقصود ; وذلك لأن وكيعا قال : عن كهمس , ومعاذ قال : حدثنا كهمس . وقد علم بما قدمناه في باب المعنعن أن العلماء اختلفوا في الاحتجاج ولم يختلفوا في المتصل , فأتى مسلم بالروايتين كما سمعتا ليعرف المتفق عليه من المختلف فيه وليكون راويا باللفظ الذي سمعه . ولهذا نظائر في مسلم ستراها مع التنبيه عليها إن شاء الله تعالى وإن كان مثل هذا ظاهرا لمن له أدنى اعتناء بهذا الفن إلا أني أنبه عليه لغيرهم ولبعضهم ممن قد يغفل , ولكلهم من جهة أخرى وهو أنه يسقط عنهم النظر وتحرير عبارة عن المقصود . وهنا مقصود آخر وهو أن في رواية وكيع قال : عن عبد الله بن بريدة , وفي رواية معاذ قال : عن ابن بريدة , فلو أتى بأحد اللفظين حصل خلل فإنه إن قال : ابن بريدة لم ندر ما اسمه , وهل هو عبد الله هذا , أو أخوه سليمان بن بريدة ؟ وإن قال : عبد الله بن بريدة كان كاذبا على معاذ فإنه ليس في روايته عبد الله والله أعلم .
فائــــــدة 3
وأما قوله في الرواية الأولى ( عن يحيى بن يعمر ) فلا يظهر لذكره أولا فائدة , وعادة مسلم وغيره في مثل هذا أن لا يذكروا يحيى بن يعمر لأن الطريقين اجتمعتا في ابن بريدة ولفظهما عنه بصيغة واحدة إلا أني رأيت في بعض النسخ في الطريق الأولى عن يحيى فحسب , وليس فيها ابن يعمر , فإن صح هذا فهو مزيل للإنكار الذي ذكرناه ; فإنه يكون فيه فائدة كما قررناه في ابن بريدة والله أعلم . ومن ذلك قوله : ( وحدثنا عبيد الله بن معاذ وهذا حديثه ) , فهذه عادة لمسلم - رحمه الله - قد أكثر منها وقد استعملها غيره قليلا وهي مصرحة بما ذكرته من تحقيقه وورعه واحتياطه ومقصوده أن الراويين اتفقا في المعنى واختلفا في بعض الألفاظ وهذا لفظ فلان والآخر بمعناه والله أعلم .
فائـــــــدة 4
وأما قوله ( ح ) بعد يحيى بن يعمر في الرواية الأولى فهي حاء التحويل من إسناد إلى إسناد فيقول القارئ إذا انتهى إليها : ح قال وحدثنا فلان هذا هو المختار , وقد قدمت في الفصول السابقة بيانها والخلاف فيها والله أعلم . فهذا ما حضرني في الحال في التنبيه على دقائق هذا الإسناد وهو تنبيه على ما سواه , وأرجو أن يتفطن به لما عداه ولا ينبغي للناظر في هذا الشرح أن يسأم من شيء من ذلك يجده مبسوطا واضحا فإني إنما أقصد بذلك إن شاء الله الكريم الإيضاح والتيسير والنصيحة لمطالعه وإعانته وإغناءه من مراجعة غيره في بيانه , وهذا مقصود الشروح . فمن استطال شيئا من هذا وشبهه فهو بعيد من الإتقان , مباعد للفلاح في هذا الشأن , فليعز نفسه لسوء حاله , وليرجع عما ارتكبه من قبيح فعاله . ولا ينبغي لطالب التحقيق والتنقيح والإتقان والتدقيق أن يلتفت إلى كراهة أو سآمة ذوي البطالة , وأصحاب الغباوة والمهانة والملالة , بل يفرح بما يجده من العلم مبسوطا , وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحا مضبوطا , ويحمد الله الكريم على تيسيره , ويدعو لجامعه الساعي في تنقيحه وإيضاحه وتقريره . وفقنا الله الكريم لمعالي الأمور , وجنبنا بفضله جميع أنواع الشرور , وجمع بيننا وبين أحبابنا في دار الحبور والسرور . والله أعلم .