كنتُ قرأتُ المقالينِ اللذين صَدَّر بهما الشيخُ أحمدُ شاكر كتاب « الشعر والشعراءِ » لابن قتيبةَ . وهما مقالانِ كتبَهما السيد صقر ينتقدُ بهما تحقيقَه . فرأيتُه أنكرَ بعضَ الرِّواياتِ الصحيحةِ ، ولجَّ في نفيِها ، إما لمكانِ الإلْفِ ، والعادةِ من نفسِه ، وإما لأنَّه وجدَها في بعضِ الكتبِ على غيرِ ما هي عليهِ في كتابِ ابنِ قتيبةَ ، وخفِيَت عليهِ مواضعُها في الكتبِ الأخرَى . فكرِهتُ أن يتجرَّم دهرٌ ، فيعتقِدَ الناس كلَّ ما ذكرَه حقًّا . وقد تضيعُ النُّسَخ المخطوطةُ التي حفِظت لنا هذه الرِّواياتِ ، أو يعسُر على جمهورِ الناسِ الرجوعُ إليها . فذكرتُ منها بعضَ ما صادفتُ غيرَ مستقصٍ ، ولا مستوعبٍ :
1-قالَ السيد صقر ( 1 / 10 ) :
( قال امرؤ القيس يصِف فرسًا :
كميت يزِل اللِّبدُ عن حال متنِه *** كما زلَّتِ الصفواءُ بالمتنزَّلِ
والصواب : ( بالمتنزِّل ) كما جاء في شرح المعلقات للتبريزي ص 41 ، والديوان 133 ) ا . هـ .
قلتُ :
هذه الرِّواية التي خطَّأها روايةٌ ثابتةٌ صحيحةٌ رواها ابنُ قتيبةَ ( ت 276 هـ ) نفسُه في « كتاب المعاني الكبير 1 / 146 » ، ورواها أيضًا شيخُه أبو حاتمٍ السجستانيُّ ( ت 255 هـ ) في « المذكر والمؤنث 161 » ، وأبو منصور الأزهريُّ ( ت 370 هـ ) في « تهذيب اللغة 12 / 249 » . ويبعُد أن تكونَ مصحَّفةً في جميعِ هذه الكتبِ .
فهذا ما بلغَنا من الرِّوايةِ في ضبط هذه الكلمة . وهي صحيحةٌ في اللغةِ ؛ فقد وردَ في المعاجمِ أن ( تنزَّلَه ) مثلُ ( نزَّله ) ؛ فـ ( المتنزَّل ) إذن بمعنى ( المنزَّل ) ؛ وهو المطرُ .
2-قال السيد صقر ( 1 / 10 ) :
( وقال الآخر :
أرأيت إن بكرت بليلٍ هامتي *** وخرجت منها باليًا أثوابي
...
وهو خطأ ، والصواب :
... *** وخرجت منها عاريًا أثوابي
... لأن الإنسان لا يخرج من الدنيا باليَ الأثواب ؛ بل يخرج منها عاريًا ) ا . هـ .
قلتُ :
هذا ليس خطأ كما ذكرَ ؛ فقد رواها كذلك أبو عليّ القالي ( ت 356 هـ ) في « أماليه 2 / 279 » . ويمكنُ أن يُّخرَّج على وجهينِ ذكرَهما أبو عبيد البكريُّ ( ت 487 هـ ) في « اللآلي 2 / 922 » :
أحدُهما : أن الأكفانَ لا تكون إلا مما بلِيَ عادةً .
الآخر : أن يكون هذا مجازًا مرسَلاً عَلاقتُه المستقبليَّةُ ؛ أرادَ أنَّ مصيرَها للبِلى ، كما قالَ تعالى : إني أراني أعصر خمرًا ، وكما يقال : قتلتُ القتيلَ . و يشهدُ لهذه الروايةِ قولُ النابغة الجعدي :
أرأيت إن صرخت بليلٍ هامتي *** وخرجت منها باليًا أوصالي
وهو شاهدٌ للسماعِ ، لأنه اهتدمَ هذا البيتَ ؛ لم يغيِّر فيه إلا الكلمة الأخيرة ، وشاهدٌ للقياسِ ، لأن المرء لا تبلَى أوصالُه حالَ خروجه من الدنيا ؛ وإنما تبلَى بعد ذلك .
3- قالَ السيد صقر ( 1 / 13 ) :
( كقول العباس بن مرداس السلمي :
وما كان بدرٌ ولا حابسٌ *** يفوقان مرداسَ في مجمعِ
وكذلك وردَ مرةً أخرَى ... ، وهو خطأ . والصواب : ( وما كان حصنٌ ولا حابسٌ ) [ ثم أخذ يعدِّد المصادر التي فيها هذه الرواية ] ) ا . هـ .
قلت :
ما خطَّأه ليس خطأً ؛ فقد رواهُ كذلكَ ابنُ سعدٍ ( 230 هـ ) في « طبقاتِه 4 / 272 » ، ومسلمٌ ( ت 261 هـ ) في « صحيحه ، رقم 1060 » . وهو في « العقد الفريد 5 / 357 » لابن عبد ربه ( ت 328 هـ ) عن أبي حاتمٍ السجستانيِّ .
وله وجهٌ من النظرِ ؛ فإن عيينةَ هو ابن حصن بن حذيفة بن بدرٍ ؛ فـ ( بدرٌ ) جدُّه ؛ وإن كنت أرى أن الأرجحَ روايةُ ( حصن ) حتى يقابِلَ ( حابسًا ) ، و ( مرداسًا ) ، لأنهما أبوان ، وليسا جدَّينِ ؛ ولكن لا يجوز أن تُقدَّم رِوايةُ نسخةٍ على أخرَى إذا كانت الأولَى أوثقَ عند المحقِّق ، وكانتِ الرِّوايةُ التي فيها محتملةً مقبولةً . وللمحقِّق أن يعلِّق في الحاشية بما يشاءُ .
4-قال السيد صقر ( 1 / 14 ) :
( وقدَّمتِ الأديمَ لراهشَيهِ *** وألفى قولها كذبًا ومينًا
هكذا جاء في الطبعتين : ( وقدَّمتِ الأديمَ ) . وهو خطأ . والصواب : ( وقدَّدتِ ) ) ا . هـ .
قلتُ :
هذه الرِّواية ليست خطأ ؛ فهي رواية أبي زكرياءَ الفراءِ ( ت 207 هـ ) في « معاني القرآن 1 / 37 » ، وأبي عبيدةَ معمرِ بنِ المثنَّى ( ت 210 هـ ) في « الديباج 112 » ، وابنِ سلامٍ الجمَحيِّ ( ت 231 هـ ) في « طبقات فحول الشعراء 1 / 76 » ونقلَ كلامَه أبو عبيد الله المرزبانيُّ ( ت 384 هـ ) في « الموشح 15 » بهذه الرواية . وهي أيضًا روايةُ أبي بكرٍ الأنباريِّ ( ت 328 هـ ) في « الزاهر في معاني كلام الناسِ 1 / 157 » ، وقدامةَ بنِ جعفر ( ت 337 هـ ) في « نقد الشعر 182 » ، والجوهريِّ ( ت 393 هـ ) في « الصحاح 7 / 60 » ، و الشريفِ المرتضى ( ت 436 هـ ) في « أماليه 2 / 258 » ، و الزمخشريِّ ( ت 538 هـ ) في « المستقصى في أمثال العرب 1 / 243 » ، وغيرِهم .
وهذا البيتُ لعَديِّ بن زيد العِباديِّ ، يصِف فيه خبرَ جَذيمةَ الأبرشِ مع الزبَّاء عندما دعته إليها ، وأوهمتْه أنها ستتزوجُه ، وتَدينُ له ؛ فلما جاءَ ، غدرت به ، وقدَّمت الأديمَ ( وهو الجلد المدبوغ ) ؛ فجعلته تحت ذراعيه ، حتى لا يسيلَ الدمُ ، ثم قطعت راهشَيْهِ ( وهما عرقان في باطن الذراعِ تراهما ظاهرينِ ) حتى ماتَ .
بل إنَّ رِواية ( قدَّمت ) أبلغُ من ( قدَّدت ) ؛ فهي تصوِّر جَذيمةَ وهو قادِمٌ إلى الزبَّاءِ يطمعُ أن تقدِّم له نفسَها ، ومُلكَها كما وعدته ؛ فإذا هي تقدِّمُ له الأديمَ ، لتقتلَه . وهذه مفارقةٌ بلاغيَّةٌ بديعيَّةٌ تعملُ على إبراز مفاصلِ الحدثِ ، ومقاطعِه ، ومواضعِ العجَب منه بأجلَى صورةٍ ؛ ألا ترى أن ذلك أشعرَك مقدار الخيبة ، والخُسْر اللذينِ مُنِِي بهما ، وأيُّ شيء أحاطَ به ، وكم من الآمال التي تحطَّمت دون أن ينالَها . ونظيرُ هذا اللون من البلاغة قوله تعالى : إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً ، وقوله : هذا نزلهم يوم الدين .
أبو قصي فيصل المنصور