علماء فلسطين أمام التحدياتالتحرير
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وبعد:
عُقد في بيروت بتاريخ 25/2/1430هـ ـ 26/2/1430هـ الموافق 20/2/2009م ـ 21/2/2009م المؤتمــر التأسيسي لـ (هيئة علماء فلسطين في الخارج)، واجتمع فيه عدد كبير من الفلسطينيين المتخصصين في الدراسات الشرعية، وانتخبوا الإدارة التنفيذية للهيئة.
ولا شك أن هذه مبادرة رائدة، وخطوة مباركة تستحق الإشادة والتقدير؛ لأسباب كثيرة، لعل من أهمها:
أولاً: أن الرؤية الإسلامية في الصراع مع العدو اليهودي غُيبت ردحاً طويلاً من الزمن، وأصبحت الشعارات العَلْمانية، والخطابات اليسارية تؤثر تأثيراً كبيراً على الخطاب الفلسطيني، وتشكل كثيراً من البرامج والمشاريع السياسية والاجتماعية؛ خاصة في عقد الخمسينيات إلى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي الميلادي.
وقد كان للحركة الإسلامية بمختلف توجهاتها دور كبير ومحمود في إعادة الاعتبار للرؤية الإسلامية، واستطاعت أن تبرز بوضوح الطبيعة العقدية والمنهجية للصراع مع العدو اليهودي. وعندما يتصدر العلماء والدعاة منابر الفتوى والتأثير السياسي والاجتماعي في الأمة؛ فإن الرؤية الإسلامية ستزداد وضوحاً ورسوخاً؛ بإذن الله تعالى.
ثانياً: عندما تَفَرَّق الفلسطينيون في أرض الشتات، وتمزق بعض نسيجهم الاجتماعي؛ ظهر في الساحة الفلسطينية رموز ومنظمات وتجمعات تصدرت لقيادة الشعب الفلسطيني، وكان أثر الفقهاء والعلماء وطلبة العلم يومذاك محدوداً، وقد آن أوان أن يتصدر العلماء الريادة والتأثير في المجتمع الفلسطيني، ويكون لهم صوت مسموع في رعاية قضايا الأمة، وتوجيه مسيرتها.
إننا نتألم كثيراً عندما يُغيَّب أو يَغيب علماء الأمة عن قول كلمتهم الربانية الصادقة في النوازل التي تعرض لأمتهم، ويزداد ألمنا عندما يحدث ذلك في أرض الجهاد والرباط؛ فقد كان العلماء على مَرِّ التاريخ في مقدمة الصفوف؛ فهم الذين يُحْيُون الحمية والغيرة في صفوف المسلمين، ويجيِّشونهم للذبِّ عن حرمات الدين، والدفاع عن المقدسات، ويجمعون شتاتهم على كلمة الحق، من عصور الصحابة الأطهار ـ رضي الله عنهم ـ إلى عصر عز الدين القسام والحسيني وغيرهما من علماء الأمة.
إن ثمَّة حقيقةً جديرةً بالتأمُّل، هي أن المدَّ العَلْماني بكل أطيافه يشهد انحساراً ملحوظاً في الشارع الإسلامي. والتأزمُ الحزبي الذي تشهده الساحة الفلسطينية ناتج عن تناقض المرجعية الفكرية، وتشتت الولاءات السياسية، ولن يملأ هذا الفراغ إلا قيادات شرعية واعية، تعتصم بحبل الله المتين، وتعتز بسنة سيد المرسلين #، وتلتحم مع الشعوب المسلمة بكل صدق وإخلاص.
إن الصراع مع العدو اليهودي أخذ أبعاداً متعددة، والمرحلة القادمة تشهد تطورات نوعية في مواقف كثير من السياسيين، وقد جاء تشكيل (هيئة علماء فلسطين في الخارج) في وقتٍ حَرِجٍ ومرحلة حساسة، وأمام الهيئة مسؤولية كبيرة جداً لن يقوى على تحمُّلها إلا الأفذاذ من الكبار، وما أجمل قول الشاعر:
ومن يتهيَّبْ صعودَ الجبال
يعشْ أبدَ الدهرِ بينَ الحفرْ
ونحن إذ نبارك تأسيس (هيئة علماء فلسطين في الخارج) نرى أن من واجبنا أن نتواصى مع علمائنا بالحق، مؤكدين على أهمية الفتوى الشرعية في صياغة الرؤية الإسلامية، والتأثير على الرأي العام، ولا شك أن هذا من أولويات عمل الهيئة، لكننا في الوقت نفسه نرى أن لا يُخْتَزَل دور العلماء في إصدار البيانات واجترار الشجب والشكوى، وإنما ينبغي أن يتجلَّى في التصـدي الفــاعل لهمــوم الأمة، والنهــوض بهــا من كبوتها، والالتزام بمهمــة الأنبيــاء ـ عليهــم الصلاة والسلام ـ الذي جاء بيانه في قوله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُم ُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ} [الجمعة: ٢]. ونحسب أن من أولى أولويات الهيئة في المرحلة القادمة التركيز على ما يلي:
أولاً: إعادة بناء وتشكيل العقلية الفلسطينية ـ بمختلف شرائحها وتجمعاتها ـ وَفْق الأسس والمنهجية الإسلامية، وهذا يعني باختصار شديد: أن يتجه الخطاب الفلسطيني بكل مضامينه الفكرية والسياسية والتربوية والاجتماعية هذه الوجهة.
إن هذه المسؤولية الكبيرة تتطلب تحرير الشعب الفلسطيني من كل الولاءات العَلْمانية، وصياغة مشروع فكري متعــدد الأبعـاد للنهوض بالأمة ينطلق من كتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة نبيه #، وتتبناه الهيئة بكل جدية، وتسعى لتوظيف كل الطاقات والمؤسسات المتاحة لتحقيقه.
ثانياً: العلماء الربانيون هم أهل الحل والعقد في الأمة، وهم القادرون على ضبط المسيرة وتوجيهها، وهم ورثة الأنبياء ومشاعل الهدى والنور في الأمة، وينبغي التأكيد على أن العلماء ليسوا مجرد مستشارين كغيرهم من الخبراء وأهل الرأي؛ بل دورهم يتعدى ذلك إلى الإمساك بزمام القيادة، وصناعة الموقف السياسي، وتحريك الجماهير، وتوظيف طاقاتهم في مشاريع مؤسسة تخدم القضية.
ثالثاً: قيادة العلماء للشعب الفلسطيني لن تتحقق بقرار سياسي يُوهَب، ولا بأزياء مظهرية تُلبَس، ولا بمؤسسة شكلية تُعلَن؛ وإنما بمواقف جريئة صادقة، ومبادرات جادة وتضحيات كبيرة يراها الناس حية مخلصة رأي العين، وليس ذلك إلا للعلماء الربانيين الذين يرجون ما عند الله والدار الآخرة. والرسوخ العلمي الذي نتطلع إليه لن يكتمل إلا باستيعاب الواقع المعاصر وتحدياته المختلفة، والنظر بعين البصيرة الواعية لمتطلبات المرحلة.
ولن يتحقق لهيئة علماء فلسطين تأثيرها في المجتمع الفلسطيني ما لم تنطلق باستقلالية واضحة، وجرأة كبيرة في الإبانة عن رؤيتها وتوصيلها لشتى التيارات والأحزاب والتجمعات السياسية. ويحسن في هذا السياق التأكيد على أن الهيئة لكي تنجح في تحقيق أهدافها ورسالتها العلمية؛ لا ينبغي أن تحصـــر نفسهــا في نطـــاق حـــزب أو تتكلم بلسان فصيل سياسي، بل هي حاضنة للفلسطينيين جميعهم بمختلف أحزابهم ومنظماتهم، ويجب أن تترفع عن التهارش السياسي، وتربأ بنفسها عن التدافعات الرخيصة التي لا تخدم القضية الفلسطينية؛ تحقيقاً لقوله ـ تعالى ـ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ} [الأعراف: ٩٩١].
رابعاً: إن ما تمرُّ به القضية الفلسطينية من تحديات يفوق جهود الأفراد مهما كانت قدراتهم، ونتوقع أن يكون للهيئة دور فاعل في استنهاض همم علماء فلسطين وتوحيد جهودهم وتكامل أدوارهم وتوظيف طاقاتهم في الأولويات التي تخدم قضيتهم.
ومن نافلة القول: التأكيد على ضرورة تضييق دائرة الخلاف والتفرق، والسعي الجاد لإزالة الخلاف وإذابته وإشاعة مبدأ التناصح والتواصي بالحق، وإذا صلح العلماء وصفت قلوبهم وزكت سرائرهم وترفعوا عن القيل والقال؛ كانوا قدوةً لمن وراءهم من الدعاة؛ فالناس تبع لعلمائهم.
خامساً: عدد المتخصصين في الدراسات الشرعية من الفلسطينيين كبير بلا شك، لكنه قليل بالنسبة للحاجة العلمية والدعوية التي يحتاجها الشعب الفلسطيني، ومن المهم جداً أن تتولى (هيئة علماء فلسطين في الخارج) بالتنسيق مع (هيئة علماء فلسطين في الداخل) إعداد جيل جديد من العلماء وطلبة العلم، وَفْق رؤية علمية شاملة، ويتطلب ذلك تنسيقاً محكماً مع الجامعات الإسلامية في العالم الإسلامي.
إن صناعة العلماء مهمة من أشق المهام وأعقدها، ولكنها من أجلِّ المسؤوليات وأهمها. ودور الهيئة ينبغــي أن لا يقتصر على استقطاب المتخصصين في الدراسات الشرعية فحسب، بل يجب أن يتعداه إلى إعداد وبناء العلماء. ولا يخفى عليكم أن العلم ليس مجرد ألقاب علمية أكاديمية فحسب، بل هو إعداد منهجي متكامل يشمل الجوانب العلمية والدعوية والتربوية والجهادية.
نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يرفع درجاتكم، ويجعلكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
http://www.albayan-magazine.com/bayan-260/bayan-01.htm