شيخي الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي (أبوحنيفة الصغير)
الاثنين, 27 أبريل 2009
بقلم
سماحة الشيخ د. صالح بن عبدالله بن حميد*
إمام وخطيب المسجد الحرام و رئيس المجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد،
فقد اخترمت المنية قبل أيام قلائل شيخنا وأستاذنا القدوة العالم العلامة الفقيه البحّاثة المربي الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم احمد علي - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
وإنني في هذه الأسطر- وأنا أرغب في تدوين كلمات وفاء وعرفان لأستاذي الجليل وشيخي العالم- أعترف بالقصور وبالتقصير- أما القصور فإن سيرته وحياته وشخصيته لا تفي بها الكلمات- وليس هذا مبالغة- وقد أفضى رحمه الله إلى ما قدم.
وأما التقصير فلأني أعترف بأني لم أكن متواصلا معه التواصل المطلوب مما يجب أن يعمل به تلميذ شيخه، ولو ذهبت أتلمس عذراً أو مبررًا فقد يكون:
أولا: لطبيعة الشيخ- رحمه الله- في حبه للعزلة وهي العزلة الإيجابية فهو قارئ نهم، وبحاثة متمكن، وحافظ وقته فيما يفيد.
وثانيا: طبيعة عملي التي جعلت إقامتي في مكة المكرمة- زادها الله شرفا وفضلا- غير منتظمة. وماهذا إلا نوع من الاعتذار او التعاذر، وإلا فحق الشيخ- يرحمه الله- عليّ كبير وعظيم، لا يفيد معه مثله هذه المسوغات والتبريرات وحسبه الدعاء له بالمغفرة والرضوان من الكريم المنان.
ثم إن كلمات الوفاء هذه ليست كلمات تمجيد أو عبارات ثناء وإن كان- غفر الله له- يستحق كل ثناء وكل تمجيد ولكني سوف أحاول ان اجلي شيئا من شخصيته العلمية وهو يحاضر لنا في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية قسم الشريعة في مكة المكرمة، عامي 90/91هـ و91/92هـ في السنتين الثالثة والرابعة في مادة الفقه من كتاب (الروض المربع).
لقد قال شيخنا الاستاذ الدكتور عبدالوهاب ابوسليمان وهو زميله الوفي وصديقه الحميم قال في مقالته المنشورة في صحيفة عكاظ العدد (15555) والتاريخ 2/4/1430هـ بعنوان (الدكتور محمد ابراهيم احمد علي مدرسة حياة) (.. لم يكن تدريبه تقليدياً بإلقاء أو قراءة من كتاب او كتابة مذكرات تملى وقت المحاضرة..) أ.هـ. وهذا ما أردت بيانه وتفصيله.
من المعلوم أن طرق التدريس تتنوع وبتنوعها تختلف درجة إفادتها للطلاب، فطريقة الحلقات والمساجد عند الشيوخ، إما بقراءة المتن على الشيخ ثم شرحه من قبل الشيخ وهي من أجدى الطرق وأنفعها لاسيما أن للطالب الحرية- بعد المشاورة مع شيخه- في اختيار الكتاب المناسب لعمره وميوله وقدراته وكذلك اختيار الوقت الملائم لظروفه، كما أن في طريقتهم قراءة الكتب المطولة من التفسير وشروح الحديث، وكتب التاريخ والسير وغيرها.
والطريقة النظامية في التعليم الحديث وبخاصة في التعليم العام بالالتزام بمنهج مفروض على الطلاب والمدرس في خطة محددة وزمن محدد- فصل دراسي أو عام دراسي- ثم امتحان في المنهج وهذا مفيد إفادة حسنة في التعليم العام. ولكن مع الأسف أن هذه المنهجية في التدريس والامتحان والتقويم قد انتقلت في اغلب جامعاتنا العربية ولا أقول انها تلقينية بحتة ولكنها لا تساعد على بث الروح العلمية وبعث الهمة نحو الإبداع لدى الطالب الجامعي.
أما طريقة شخينا الدكتور محمد إبراهيم فطريقة فوجئنا بها لأنها على غير ما ألفنا ولقد استمتعنا بها لأنها فتحت لنا آفاق المعرفة وطرق التفكير وتوافقت مع ما يراه ويقصد إليه من ارتفاع مستوى الطلاب في هذه المرحلة الدراسية – المرحلة الجامعية- ولا سيما نهايتها وما ينبغي من تعويدهم على التفكير والبحث والنظرة الكلية الشمولية والاستقلال بالرأي وروح الابتكار والإبداع والاجتهاد المنضبط، وبخاصة في نظرته لمادة الفقه، فكانت طريقته –رحمه الله- ألا يقتصر اهتمامنا على المسائل الجزئية وفروع الأحكام وتحليل العبارات والجمل الفقهية بل حرص أن ينمي في الطلاب ملكة الاستنباط والنظر في علل الأحكام وإدراك القواعد والأصول الكلية ومقاصد الشريعة وقد كان ذلك منه على طريقتين:
الأولى: أنه حينما يقرأ فروع المسائل في الروض المربع يكلف الطلاب بالبحث عن العبارات الجوامع في الكتاب إن وجدت ومنها على سبيل المثال (الطلاق معتبر بالرجال). وإن لم توجد فإنه يأتي بقواعد من كتب القواعد ويبين للطالب كيف بنيت هذه الفروع عليها ومنها على سبيل المثال: (اليقين لا يزول بالشك) في بعض مسائل الطلاق وأشهد في هذا المقام أنه –رحمه الله- فتح لنا طريقة وطرقاً في البحث والتحليل والنظر، سواء في فهم العبارات الفقهية الجزئية أو في عودها وإعادتها إلى أصولها الكلية وقواعدها الفقهية. هذا بعض ما علق في الذاكرة من طريقته في التدريس رحمه الله.
أما ما عرف من سيرته –غفر الله له- فقد كان مثالياً غاية في المثالية في تواضعه وإنكاره لذاته وبعده عن المجامع العامة ليس ضعفاً ولا رغبة عن الناس والتعامل معهم، ولكن حرص منه على مجلسه ووقته في المحافظة عليه، وصرفه فيما يفيد من العلم وتحصيله ومذاكرته والبحث فيه، وهو يستقبل إخوانه وأصدقاءه، ومحبيه وطلابه، بحفاوة بالغة، وبذل كريم، فهو لطيف المعشر، عذب الحديث، يختار الكلمات، يحترز أن تصدر عنه كلمة نابية، أو عبارة ناشزة، فهو مرهف الشعور مؤدب وقور، في مجلسه فوائد وفي صداقاته تميز. ومع هذا الأدب الجم فإنه مثالي في الصرامة والوضوح وإحقاق الحق والمناقشة الموضوعية، بل انه يغبط على مثاليته وانضباطه الاجتماعي المستقيم وتدينه وصلاحه وإخلاصه، في علمه وعمله، وتعليمه وعلاقاته. لقد كان مثال الجدية في تعليمه وحرصه على طلابه ومتابعته لهم وإرشادهم والحرص على تفتيح مداركهم، وبث روح التفكير والبحث والثقة بالنفس.
أما إنتاجه الفكري وآثاره العلمية فإن شيخنا لم يكن كثير الإنتاج على الرغم من حفظه وقته واشتغاله بالعلم والبحث والمطارحات العلمية مع جلسائه من اهل العلم والفكر، بل أغلبهم متخصصون من زملائه ونوابغ تلاميذه، ومع هذا فإن له إنتاجاً حسناً، قليل في عدده رصين متين في نوعه وكيفه،وفي ربط بين الكمية والكيفية يأتي قول أستاذنا الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان –حفظه الله- وهو يعلق على مؤلفه: (مصطلح المذهب المالكي).
يقول: (قضى في تأليفه ما يقرب من عشرين عاماً متوالية، ليس للمالكية إطلاقاً مثله لم يشتغل أثناء تأليفه بعمل آخر سوى التدريس). أ. هـ، والكتاب ليس كبير الحجم مقارنة بما صرف فيه من السنين، ولكنه البحث والتمحيص، والتدقيق والعناية، التي جبل عليها شيخنا رحمه الله.
كما ألف كتابين، أحدهما: المذهب عند الحنفية، والآخر المذهب عند الشافعية، وقد حظيت بالقبول وترجمت إلى اللغات التركية والفارسية. وحقق مع زميله وصديقه أستاذنا الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان مجلة (الأحكام الشرعية) على مذهب الإمام أحمد، وكتاب (الجواهر الحسان في تراجم الفضلاء والأعيان من أساتذة وخلان) للشيخ زكريا بيلا –رحمه الله- واشتركا كذلك في بحث (التطور القضائي في المملكة العربية السعودية) وهو بحثٌ باللغة الإنجليزية، وكتب الدكتور محمد إبراهيم بحثاً عن المسؤولية الاجتماعية للفرد والدولة في القانون السعودي، وهو أيضاً باللغة الإنجليزية.
كما نقل – رحمه الله- إلى العربية بعض كتب الرحلات، ولقد قال فضيلة الأستاذ الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان وهو زميله العارف به، الخبير بفقهه: (إن حياته شريط ناطق لجلائل أعماله العلمية في التأليف التي يستمد منها أساتذة الجامعات في الحقل الفقهي، أسس مبادئهم الفقهية، وبخاصة في الفقه الإسلامي المقارن جدير بأن يلقب بـ(أبي حنيفة الصغير).. الخ).
وبعد فهذه كلمات يسيرة ومقالة مختصرة عن هذا الشيخ الجليل، والعالم النبيل، تذكيراً بمقامه الكريم، وفضله العظيم، فجزاه الله عن العلم وأهله خيراً، وأحسن إليه فيما قدم، وغفر له من ذنبه ما تأخر وتقدم،وأبقى ذكره ولا حرمنا أجره، إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر :
صحيفة المدينه
http://al-madina.com/node/131605