بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُئِلَ صَاحِبُ الفَضِيْلَةِ العَلاَّمَةُ عَبدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَاصِرٍ البَرَّاك ـ سَلَّمَهُ اللَّـهُ تَعَالَى ـ :
فضيلة الشيخ لا يخفاكم ما يمر ببعض مناطق المملكة هذه الأيام من موجات برد شديدة، ولأن لمثل هذه الأحوال أحكاماً جاءت الشريعة بها وقد كثر السؤال عنها، رأينا أن نتقدم إليكم بها رجاء أن تحرروها لنا، والأسئلة هي:
أولاً: ما حكم الصلاة في الرحال ولاسيما الفجر في تلك الحال؟
ثانياً: يصبح الناس في بعض المناطق وقد تجمد الماء فلا يسيل إلاّ قرب الظهر وهذا وقع في بعض قرى القصيم فهل لهم التيمم نظراً لبرودة الجو، ولتجمد الماء الذي تستغرق إسالته وقتاً؟
ثالثاً: ما حكم الجمع بين الظهرين، وهل يستحب في هذه الحالة؟
رابعاً: أيهما أفضل جمع الظهرين أم الصلاة في الرحال؟
خامساً: يكثر طلب المأمومين من الإمام الجمع، فما هو الضابط في جمع العشائين؟
سادساً: ما حكم غسل الجنابة إذا وجب وخيف الضرر؟ وهل يتوضأ ويتيمم أم يكفيه التيمم؟
وجزاكم الله عنّا وعن المسلمين خيرًا.
فأجاب ـ رَفَعَ اللَّـهُ قَدرهُ ـ :
الحمدُ للَّـهِ وحدَهُ والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى مَن لا نبي بعده. أما بعد.
فمعلوم أن الأصل في الصلوات الخمس هو التوقيت؛ أي فعل كل صلاة في وقتها، وقد أجمع العلماء على جواز الجمع بين الظهر والعصر للحاج بعرفة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وذهب الجمهور إلى جواز الجمع للمسافر تقديماً وتأخيراً ولاسيما إذا جد به السير، أما إذا كان نازلاً فالسنة هي التوقيت ويجوز له الجمع، كما يدل لذلك حديث أنس رضي الله عنه فقد روى البخاري ومسلم من حديث أنس أنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما »، وعن معاذ رضي الله عنه : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن يرتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك؛ إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن يرتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم جمع بينهما ».
وأما الجمع في الحضر فاستدل له بحديث ابن عباس كما في صحيح مسلم قال: « جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر » ، قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: « أراد أن لا يحرج أمته ».
وقد قال بظاهره بعض العلماء بشرط ألا يكون عادة، كما ذكر النووي والشوكاني ونقله عن الحافظ بن حجر، وذهب الجمهور إلى عدم جواز الجمع من غير عذر وهو الصواب، فإن أحاديث توقيت الصلوات الخمس صحيحة محكمة، ولهذا حمله من لا يرى الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما على الجمع الصوري؛ وهو فعل الصلاة الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها.
وقال من ذهب إلى جواز الجمع في الحضر: لابد أن يكون هناك سبب اقتضى الجمع، ونفي الخوف والمطر لايدل على نفي السبب مطلقاً.
يدل لذلك أن ابن عباس قال: أراد أن لا يحرج أمته. فعلم أنه صلى الله عليه وسلم جمع لرفع حرج، وحديث ابن عباس هذا هو عمدة من قال بجواز الجمع في المطر بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
ومعلوم أن المطر الذي يجوز معه الجمع، هو المطر الذي تحصل به المشقة والحرج في حضور الجماعة ويبيح التخلف عنها.
وقد ضبطه الفقهاء بأنه المطر الذي يبل الثياب بللاً يتأذى به الإنسان، ويلحقه الحرج به. وخص الإمام أحمد في المشهور إباحة الجمع للمطر بالمغرب والعشاء، وألحق في مذهبه بالمطر الوَحَل لمشقة السير عليه، والريح الشديدة الباردة، وعليه فلا يجوز عنده الجمع بين الظهر والعصر لشيء من هذه الأسباب، والموجب لتخصيص الجمع بالمغرب والعشاء حديث يروى في ذلك وهو ضعيف جداً، قالوا: والجمع بين المغرب والعشاء هو الذي نقل عن بعض الصحابة وجمع من التابعين، منهم الفقهاء السبعة وعمر بن عبدالعزيز.
والصواب جواز الجمع بين الظهرين وبين العشاءين إذا وجد المقتضي وهو الحرج والمشقة بمطر أو وحل أو ريح باردة شديدة أو غير ذلك من الأعذار العامة.
وأما مجرد شدة البرد فلا تبيح الجمع لإمكان توقيه بالملابس المناسبة الواقية، والعبرة في هذا كله بالحال العامة الغالبة، فلا اعتبار بالحالات الفردية، وعليه فإذا كان الغالب الفقر وقلة الملابس الواقية فإنه يباح الجمع حينئذ؛ لوجود المقتضي للجمع وهو الحرج والمشقة غير المعتادة.
ويدل لعدم مشروعية الجمع في البرد أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم الجمع لذلك، ولو وقع لكان كثيراً ولنقل؛ لأن البرد من الأمور المعتادة في الشتاء من كل عام.
وأما من قام به عذر يبيح له التخلف عن الجماعة فقد يباح له الجمع كالمريض الذي يشق عليه ترك الجمع، وقد لا يباح له الجمع كالخائف من عدو أو غريم يلازمه ولا وفاء عنده.
فعلم أن العذر المبيح للجمع في الحضر هو العذر العام الذي يبيح التخلف عن صلاة الجماعة، وإذا أمكن الجمع فهو أفضل من فعل كل صلاة في وقتها في البيت.
وأما ما يتعلق بالتيمم فلا يخفى أن المبيح للتيمم هو عدم الماء أو العجز عن استعماله لخشية الضرر، والماء إذا تجمد ولم يقدر على إسالته في الوقت فهو في حكم المعدوم.
ومن أصبح عليه غسل الجنابة وخشي على نفسه فيكفيه التيمم ولا يلزمه الوضوء معه، كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: « يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب » ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت : إني سمعت الله يقول : ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [ سورة النِّساء ، الآية : 29 ] ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً.
والحَمْدُ للَّـهِ على تَيسيرِهِ ورحمتِهِ بعبادِهِ إنَّهُ رؤوفٌ رحيمٌ.