بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فهذا مبحثٌ لطيف في مسألة قول الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي (ت 277): (كتبت عن ألف شيخٍ وكسر؛ كلهم ثقات)، ونظرٌ في صحته من عدمها.
وقد كنتُ كتبته بعد عملي في تحقيق الموجود من مشيخة الفسوي؛ لارتباط الكلام فيه بالمشيخة، وربما أدرجه في مباحث المقدمة.
وما في هذا المبحث للمباحثة والمدارسة والنظر، لا للتقرير والقطع. والله الموفق.
* * *قال المزي: «وقال عبدالله بن عمر بن عبدالله بن الهيثم الأصبهاني: حدثنا أبو بكر الحافظ، قال: سمعت أبا عبدالرحمن النهاوندي الحافظ[1] يقول: سمعت يعقوب بن سفيان يقول: (كتبت عن ألف شيخٍ وكسر؛ كلهم ثقات)»[2]، وقال في موضع آخر: «وقال أبو عبدالرحمن عبدالله بن إسحاق النهاوندي الحافظ: سمعت يعقوب بن سفيان يقول: (كتبت عن ألف شيخٍ وكسر؛ كلهم ثقات، ما أحدٌ منهم أتخذه عند الله حجة إلا رجلين: أحمد بن صالح بمصر، وأحمد بن حنبل بالعراق)»[3]. وفي هذا تصريح من يعقوب بأن شيوخه الذين كتب عنهم ثقات.
ولا إشكال في كون يعقوب -كغيره من الأئمة- ينتقي في مشايخه، من حيث تجنب أهل البدع والأهواء، ونحو ذلك، ويدل له قوله: «حدثنا علي بن قادم الكوفي، وقصَّرتُ في الكتابة عنه للتشيع؛ فإنه كان يميل إلى التشيع، ثم وجدت عامة كُهُولنا قد كتبوا عنه، وقالوا: (هو ثقة)»[4]. إلا أن المشكل ما سبق من كونه يوثِّق كلَّ شيوخه.
وقد استنكر الذهبي هذا المنقول عن يعقوب -بفقراته الثلاث-، فقال: «في صحة هذا نظر؛ فإن يعقوب ما كتب عن ألف شيخ ولا شطر ذلك، وهذه مشيخته موجودة في مجلد لطيف، وشتان ما بين الأحمدين في سعة الرحلة، وكثرة المشايخ، والجلالة والفضل»[5]، وقال: «ليس في مشيخته إلا نحو من ثلاثمائة شيخ، فأين الباقي؟ ثم في المذكورين جماعة قد ضعفوا»[6].
فالذهبي يستنكر في الكلمة المنقولة عن يعقوب ما يلي:
1- ما جاء فيها من أنه كتب عن ألف شيخٍ وكسر، وهذا يتعارض مع قلة شيوخ يعقوب في المشيخة، فإنه لو كتب عن هذا العدد لأخرج رواياتهم في مشيخته. وربما أجيب عن ذلك بأنه ليس من شرط المشيخة استيعاب جميع الشيوخ.
2- أنه ساوى في الاحتجاج بين أحمد بن حنبل وأحمد بن صالح، و«شتان ما بين الأحمدين في سعة الرحلة، وكثرة المشايخ، والجلالة والفضل». ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن الراوي يصف شيوخه بحسب ما رآه ولمسه وعايَشَهُ منهم من العلم والزهد والعبادة وغير ذلك ونحوه، لا بحسب ما يشتهر عنهم ويُعرف، خاصة ما كان اشتهاره في القرون التالية.
3- أنه حكم بتوثيق كل شيوخه، بينما فيهم جماعة قد ضعفوا، وتضعيف بعضهم لا يخفى على مثل يعقوب؛ لاشتهاره وجلائه، وإمامة يعقوب ومعرفته[7].
ومما يزيد الشك في صحة المنقول عن يعقوب في توثيق شيوخه:
1- أن الخطيب أخرجه بإسناده، فقال: «أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبدالعزيز البزاز بهمذان، قال: حدثنا صالح بن أحمد بن محمد الحافظ، قال: سمعت أبا عبدالرحمن عبدالله بن إسحاق النهاوندي يقول: سمعت يعقوب بن سفيان يقول: (كتبت عن ألف شيخ، حجتي فيما بيني وبين الله رجلان)، قلت له: يا أبا يوسف، مَن حجتك -وقد كتبتَ عن الأنصاري وحبان بن هلال والأجلة-؟ قال: (حجتي أحمد بن حنبل، وأحمد بن صالح المصري)»[8]، ونقله عنه كذلك ابن أبي يعلى[9]. وغير خافٍ أنه ليس في هذا قوله: «كلهم ثقات».
وهذا الإسناد أشهر وأقوى من الإسناد الذي نقله المزي، حيث إن شيخ الخطيب صدوق -كما قال الخطيب نفسه[10]-، وشيخه صالح بن أحمد أبو الفضل التميمي الهمذاني، قال فيه الخطيب: «وكان حافظًا فهمًا ثقةً ثبتًا»، ووثقه غيره[11]. وأما الإسناد الذي نقله المزي، فعبدالله بن عمر بن عبدالله بن الهيثم الأصبهاني هو ابن أبي القاسم المذكِّر، كان متعبدًا واعظًا، قال فيه السمعاني: «كان ديِّنًا فاضلًا خيِّرًا مكثرًا من الحديث»[12]، وشيخه (أبو بكر الحافظ) لم أتبينه على وجه اليقين، إلا أن يكون: محمد بن علي بن الجارود، وهو من الثقات، قال فيه أبو الشيخ الأصبهاني: «كثير الحديث ثقة صاحب أصول»[13]، ولم أجد وصفه بالحفظ إلا لابن عبدالهادي[14]. وهذا إسناد صحيح، إلا أن إسناد الخطيب أصح منه وأقوى، وهو العمدة.
2- أن يعقوب بن سفيان صرَّح بتضعيف بعض شيوخه، منهم من أخرج له في مشيخته. ووقفت من ذلك على موضعين:
أولهما: قال يعقوب: «حدثنا الحجاج بن نصير، حدثنا إسماعيل بن مسلم العبدي حديثَ الصرف. وإسماعيل ثقة، والحجاج بن نصير فيه لين، كان شيخًا مغفلًا سليمًا، وكان ابن ابنة الأزهر[15] أدخل عليه أحاديث»[16].
ثانيهما: قال يعقوب: «حدثني الفيض بن (الفضل)[17] مولى بجيلة، قال: حدثنا سالم بن عبد الأعلى الأودي، قال: حدثنا نافع...»، فذكر حديثًا، ثم قال: «والفيض وسالم ضعيفان، لا يفرح بحديثهما»[18].
وهذه قرينة قوية على عدم صحة ما جاء عن يعقوب من أن كل شيوخه ثقات.
3- ومما يشكك في صحة الكلمة كلها -وهو محل بحث وتأمل-: أن يعقوب لم يروِ -فيما وجدتُ- عن الإمام أحمد بن حنبل بصيغةٍ صريحة في السماع، وروى كثيرًا من مسائله وأقواله بواسطة، وواسطته إليه: الفضل بن زياد، وسلمة بن شبيب، وأبو طالب، ولو كان سمعه لصاح بذلك، ولروى عنه في تاريخه، ولذُكرت له مسائل عنه -إذ مثل يعقوب يحرص أن يستفيد من أحمد في هذا العلم-.
ولم أجد من ترجم ليعقوب فذكر روايته عن أحمد، وقد عدَّ ابن نقطة بعض البلدان التي دخلها يعقوب وبعض مشاهير شيوخه فيها[19]، ولم يذكر بغداد -لعله للاختصار-، ولو كان يعقوب يروي عن أحمد لحرص ابن نقطة على ذكر ذلك.
وليعقوب شيوخ بغداديون تأخروا في الوفاة عن الإمام أحمد، فكأن يعقوب دخل بغداد بعد وفاة أحمد.
وقد ذكر ابنُ أبي يعلى يعقوبَ في طبقات الحنابلة[20] وقال: «سمع من إمامنا أشياء»، ولم يعتمد في ذلك إلا على هذه الحكاية.
فسماع يعقوب من أحمد فيه نظر. والله أعلم.
--------------------------------
[1] هو عبدالله بن إسحاق بن سيامرد، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/247).
[2] تهذيب الكمال (32/33).
[3] تهذيب الكمال (1/343).
[4] المعرفة والتاريخ (2/436).
[5] سير أعلام النبلاء (12/162).
[6] السابق (13/181).
[7] منهم: العباس بن الفضل الأزرق، انظر ترجمته في الجرح والتعديل (6/213) تاريخ بغداد (12/134) ميزان الاعتدال (2/385، 386)، وسعيد بن سلام العطار، انظر ترجمته في لسان الميزان (4/55).
[8] تاريخ بغداد (4/199، 200) (5/327 ط. بشار).
[9] طبقات الحنابلة (2/557).
[10] تاريخ بغداد (2/406).
[11] تاريخ بغداد (9/331)، تذكرة الحفاظ (3/985، 986).
[12] الأنساب (11/217).
[13] طبقات المحدثين بأصبهان (3/579).
[14] طبقات علماء الحديث (2/469).
[15] هو بشر بن آدم السمان، انظر ترجمته في تهذيب الكمال (4/90-93) وغيره.
[16] المعرفة والتاريخ (2/114).
[17] وقع في المعرفة: (العباس)، وهو خطأ؛ إذ لم أجد في الرواة مولى لبجيلة هذا اسمه، وقد صرَّح يعقوب باسمه في المشيخة (167)، فقال: «حدثنا الفيض بن الفضل مولى بجيلة...»، وهو كذلك في مصادر ترجمته، انظر: التاريخ الكبير (7/139)، الجرح والتعديل (7/88)، ثقات ابن حبان (9/12).
[18] المعرفة والتاريخ (3/58).
[19] التقييد (2/314-316).
[20] (2/557).