بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
أما بعد فهذا بحث لغوي أردت به إماطة اللثام عن مسألة اشتبهت على فئام من أهل العلم وقد أسميتها : الأدلة اللغوية الرائقة على عدم دخول إبليس في جنس الملائكة
فأقول مستعينا بالله جل وعلا :
ظاهر كلام الله جلت قدرته دال على كون إبليس من الجن كقوله سبحانه : (َإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) [الكهف : 50] ) ، ولا يقولن قائل إن ( كان ) تدل على المضي ؛ لأنه يرد على ذلك أنها ناقصة ، ومن نقصانها عدم دلالتها على زمن معين من جهة المعنى كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً )[الفتح : 14] ، ولا أظن أن عاقلا يقول : إنها هنا تدل على الماضي دون المستقبل فكذلك الآية الأولى ، وقوله جلا وعلا : ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ )[الرحمن : 15] صريح في أن الجن خلقت من النار .
لكن قوله تعالى : ( فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ ) 0[ص : 73ـ 74] أشكل على بعض المفسرين كون إبليس مستثنى ، وهل هو متصل ، أم منقطع ، وعلى كلا القولين لا أرى فرقا في عدم دخوله في جنس الملائكة لما يأتي :
الدليل الأول : كون لفظة ( الملائكة ) مؤكدة بـ( كل ) التي تفيد رفع توهم عدم الشمول .
بمعنى أن ( كل ) إذا أكدت اسما قبلها فإنها تفيد عموم ذلك الاسم ، فـ( كل ) ـ هنا ـ أفادت سجود ( الملائكة ) جميعا بلا استثناء سجود تحية لـ( آدم ) عليه السلام ، بخلاف ما لو قلت مثلا : ( جاء القوم إلى فلان ) فكلمة ( القوم ) تطلق على أدنى الجمع ومحتملة لقليله وكثيره .
الدليل الثاني : أن المستثنى في كلام العرب إما أن يكون من جنس المستثنى منه وصفته نحو قولك : ( جاء الطلاب إلا طالباً ) ، أو يكون المستثنى يتفق مع المستثنى منه في الصفة دون الجنس كقول العربي : ( نام القوم إلا ديكاً ) ، فـ( الديك ) وإن كان ليس من جنس ( القوم ) فقد عومل معاملتهم ؛ لوجوده بينهم ، كقول الأول :
وبلدة لَيْسَ بِهَا أنيسُ إلا اليعافير وإلا العيسُ
فكذلك ههنا ( إبليس ) في الآية لما كان حينها متصفا بالإيمــــان عومل معاملة ( الملائكة ) في طلب السجود منه وإن لم يكن من جنسهم ، فلما أبي واستكبر استثناه الله جل وعلا منهم كاستثناء العربي ( اليعافير والعيس ) من جنس المؤنسين وإن لم يكونا منهم
الدليل الثالث : أن الأصل في المعرف بـ( أل ) الاستغراق ودلالته على الجنس كله على الراجح عند محققي الأصوليين ، ولا يكون للعهد إلا بقرينة لفظية أو معنوية كدلالة لفظ ( فرعون ) في قوله سبحانه وتعالى : ( فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ) [المزّمِّل : 16] ، على أن الرسول ـ هنا ـ موسى عليه السلام بدليل كونه هو المرسل إليه .
الدليل الرابع : القائلون باشتراط كون المستثنى من جنس المستثنى منه يجعلون ( إلا ) في الآية بمعنى ( لكن ) ، ومن ثَم فهذا من باب الاستدراك لا الاستثناء ، وعليه فلا إشكال في الآية ، مع أن هذا القول مخالف لظاهر طريقة كلام العرب في الاستثناء الذي قدمناه في الدليل الثاني .
والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبع هداه إلى يوم الدين .
حرره طالب في 30/01/1430ـ 26/01/2009