المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو المظفر الشافعي
أخواني أعضاء المجلس العلمي
السلام عليكم ورحمة الله.
وبعد
فقد حصل لي مع بعض طلبة العلم نقاش حول استحباب تكرار الصلاة على الجنازة عند الشافعية, فكتبت رسالة في هذه المسألة أبين فيها أدلة الشافعية مع الإجابة عما حولها من اعتراضات.
وقد أحببت أن أطلعكم عليها, وأنا مستعد لمناقشة ما فيها؛ لأني لا أريد إلا العلم.
وهي هذه:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد.
فإنّ من المسائل التي ينتقد بها البعض مذهب سادتنا الشافعية رضي الله عنهم مسألة تكرار الصلاة على الجنازة, بزعم أنّ التكرار لا داعي له وأنّه لا دليل عليه, فأحببت أنّ أكتب كلمات أبين فيها مأخذهم ودقة نظرهم في الأدلة, وأن منتقدهم هو الذي أبعد النجعة, ولم يحسن فهم الأدلة, فأقول:
الدليل الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه: { أنّ أسود – رجلاً أو امرأة – كان يقم المسجد فمات ولم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بموته, فذكره ذات يوم فقال عليه الصلاة والسلام: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله. قال: أفلا آذنتموني؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا, فحقروا شأنه, قال: فدلوني على قبره. فأتى قبره فصلى عليه} رواه البخاري في الجنائز باب الصلاة على القبر بعدما يدفن رقم(1337) ومسلم في الجنائز باب الصلاة على القبر رقم(956).
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: { أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبراً فقالوا: هذا دفن – أو دفنت – البارحة. قال ابن عباس فصففنا خلفه, ثم صلى عليها}رواه البخاري في كتاب الجنائز باب صلاة الصبيان رقم (1326)
الكلام على الحديثين: في الحديثين دلالة واضحة على استحباب تكرار صلاة الجنازة؛ وذلك لأنّ الأصل أنّ المسلم لا يدفن إلا بعد أن يصلى عليه, فيكون الغالب أنّ القبر الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن إلا وقد صلي عليه.
فإن قيل: لعله علم بأنّه دفن قبل أن يصلى عليه.
فالجواب من وجهين:
الأول:أنّ هذا احتمال مرجوح, وأقوى منه ما قلناه؛ إذ لا عبرة بالوهم في مقابلة الظن.
الثاني: أنّ ترك الاستفصال مع وجود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
وبيان ذلك: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل هل صلي على الميت قبل الدفن أم لا؟ فحينئذٍ كانّه نصّ على عموم جواز تكرار الصلاة في الحالين.
فإن قيل: تكرار الصلاة على الميت خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم, ويدل على التخصيص حديث: { إنّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها, وإنّ الله ينورها بصلاتي عليهم}رواه أحمد [3/ 150] والبيهقي في السنن لكبرى[4/46] من حديث أنس بن مالك.
قلنا: الجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنّ الحديث حجة لنا وليست لكم؛ لأنّ العلة التي علل النبي صلى الله عليه وسلم بها صلاته على أهل القبور موجودة عند غيره من الصالحين وعوام المسلمين, ويشهد لذلك جميع أحاديث فضائل الصلاة على الميت كحديث عائشة:{من صلى عليه مئة – أو أربعون – من المسلمين شفعوا فيه} رواه مسلم في الجنائز باب من صلى عليه مئة شفعوا فيه قم (947), غاية الأمر أنّ غيره أقل منه في النور والبركة.
الثاني: معارضة دلالة الحديث على الخصوصية بقول ابن عباس في الحديث الثاني {فصففنا خلفه}؛ ولو كان تكرار الصلاة من خصوصياته صلى الله عليه وسلم لأنكر عليهم اصطفافهم خلفه؛لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
فإن قيل: لعله جاز لهم؛ لأنّهم صلوا معه؛ لأنّه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
قلنا: وعدم بيان هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة.
الثالث: أن الحنفية المنكرين على ساداتنا الشافعية رضي الله عنهم تكرار صلاة الجنازة جوزوا الصلاة على القبر, ولم يقولوا بالخصوصية في هذه المسألة, وهذا تحكم؛ لأنّهم فرقوا بين مسألتين في حديث واحد بلا دليل.
الدليل الثالث: أنّ الإنسان خوطب بصلاة الجنازة فلا يزول عنه الخطاب بها إلا بدليل, لأنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان.
ولذلك اشترط ساداتنا فقهاء الشافعية رضي الله عنهم في جواز الصلاة على القبر أن يكون المصلي من أهل الوجوب عند موت صاحب القبر.
فإن قيل:صلاة الجنازة فرض كفاية فعندما قام به البعض سقط عن الباقين.
قلنا: سقط الوجوب وبقي الاستحباب, نظير ذلك: ما لو احتاجت الأمة إلى من يتعلم علماً معيناً فإنّ ذلك يكون فرض كفاية, فإذا تعلمه عدد يقوم بحاجة الأمة صار تعلم ذلك العلم مستحباً.
ونقول أيضاًً إنّ هذا الدليل يدل على التفريق بين إعادة صلاة الجنازة, وبين تكرارها.
فالإعادة: أنّ يصلي الشخص على جنازة واحدة أكثر من مرة.
والتكرار: أن يصلي على الجنازة من لم يصل عليها مع الإمام أو الولي جماعة أو فرادى.
فالتكرار جائز؛ لأنّ من لم يصلي لم يسقط عنه الطلب كما بينا.
وأما الإعادة فلا تجوز؛ لأنّها تحتاج لأمر جديد ولم يثبت.
وبعد ففي هذا القدر كفاية لمن طلب الحق, وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الكلمات, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.