- العبرة الأولى -
تبين بجلاء جبن الأنظمة العربية عن تسمية الأشياء بأسمائها فضلاً عن اتخاذ سياسة الموقف العملي ضد الظلم وإن كانت هي ضحية الظلم والبغي ، كما اتضح بشكل أكثر من ذي قبل الفجوة الهائلة والبعد الشاسع بين هذه الأنظمة وشعوبها على جميع الأصعدة : الدينية ، السياسية ، بل حتى الإنسانية ، فهناك وحشة مزمنة ترسم خندقاً مترامي الأطراف بين نفسية الحاكم والمحكوم ، يعزز هذا مظاهر سلوكية تنم عن شك متغلغل وثقة شبه معدومة في قدرة النموذج المعاصر للحاكم العربي على اكتساب درجة من الوعي تؤهله للقيام بأعباء الولاية ، لقد بتنا نخشى أن يصدق على حالنا المؤسف الحديث الشريف : ((...شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم . وتلعنونهم ويلعنونكم)). فصراخ الشعوب وأنينها تحت وطأة الكبت لم يلفت نظر الأنظمة القائمة إلى حاجات رعاياها العميقة ، لا ، وإنما استرعى انتباههم إلى أمر مهم ، ألا وهو ضرورة خنق هذا الصوت الغوغائي المزعج الآتي من الحضيض والقضاء عليه تماماً. وبسبب توالي هذا الإجراء الاستبدادي – أياً كانت دوافعه - جيلاً بعد جيل ، تحول العربي إلى إنسان يتقبل الظلم بصدر رحب ، ويرى كشف النحر للسهام الباغية منقبة يُحمد عليها ، ليس بالضرورة لأنه مقتنع بالصلاحية المطلقة لـ "اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" بقدر ما هو مُجبر على التسليم بقلة الجدوى من ممارسة الشق الآخر من المعادلة : "الدين النصيحة قلنا : لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" و "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر". وكثيراً ما تواطأ العلماء (أو حملة الشريعة وإرث الأنبياء) – بقصد أو غير قصد – مع النظام الجائر في تكريس هذا الشعور بالدونية عند الإنسان العربي وذلك بالتأكيد على ضرورة مراعاة الشق الأول من المعادلة دون ثانيها، بل ضرورة معاقبة من سولت له نفسه سلوك مسلك الخوارج ، وقمعه بيد من حديد، فالخارجي اليوم ليس من يكفّر بفعل الكبيرة ، لا ، من يقول الحق وينصح لأئمة المسلمين وعلمائهم هو الذي يضع قدمه على أول درجة في سلّم الخوارج. المهم "اسمع وأطع" ، "اسمع وأطع" ، "اسمع وأطع" ، و "عليك بخاصة نفسك" ، أما مبدأ عمر بن الخطاب "لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها" فقُلِب رأساً على عقب :"لا خير فيكم إن قلتموها ولا خير فينا إن لم نعاقب عليها".
يتبع إن شاء الله.