
لعنة الشهرةلعلي أجد مدخلاً لما أود قوله باستذكار أحد القصص التي لاتزال (محفورة) في ذاكرتي؛ ففي أحد حملات جمع التبرعات التي أقامتها الحكومة السعودية (وفقها الله) لإغاثة إخواننا المسلمين في فلسطين (إن لم تخني الذاكرة)، حيث أن الناس حُثوا على التبرع لصالح إخوانهم المسلمين عبر وسائل الإعلام المختلفة، وأكثر ماكان الناس يتفاعلون مع التلفاز، حيث أن عدداً من الدعاة وطلبة العلم يسعون في حث الناس إلى بذل المزيد من أموالهم، استوقفتني ماأرسلت به امرأة لتتصدق به، ألا وهو خاتمين وأقراط لابنتيها، خاتمة رسالتها بقولها: والله لاأملك من هذه الدنيا شيئاً ذا قيمة إلا هذين الخاتمين والأقراط، ولكني أجود به لصالح إخواننا، وبطبيعة الحال سعى من في التلفاز بوضع هذه المرأة أنموذجاً لبذل المزيد من المال لصالح هذه التبرعات، وكان الأخوة في التلفاز (حيث أن النقل كان مباشرًا) مسرورون لما وصل إليه المبلغ، عندها تلقوا اتصالاً من الشيخ عبدالمحسن العبيكان (حفظه الله)، ظانين أن الشيخ سيسعى في التطبيل كغيره لبذل المزيد من المال، ولكنه بدأ بقوله: سأنحو مسارًا آخرًا في حديثي، ثم ذكر أنه لا يسوغ أن نحمس الناس على التصدق بكل مايملكون، ثم ذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه خير لك أن تترك ذريتك أغنياء من أن تذرهم فقراء ... هذا الرأي من الشيخ حفظه الله لم يعجب الأخوة في التلفاز، وحاولوا تسريع إنهاء الاتصال، لئلا تتأثر أرقامهم!
ربما أن هناك الكثير من الناس في ذلك الحين لم يعجبهم ماذهب إليه العبيكان من رأي، ولكن عندما تتضح لنا الأمور، ونعلم أن بعضاً من أولئك الذين يطبلون للناس في الخروج من أموالهم، إنما هم يقولون مالايفعلون، يدعون الناس إلى الزهد، وهم يمتلكون البيوت الفارهة، ويركبون المراكب الفاخرة، وأرصدتهم في البنوك ربما أنها تعادل أضعاف أضعاف عشرات أولئك المتبرعين (فاللهم لاحسد)، فقلت في نفسي: ربما أن هذا الذي دعى الشيخ العبيكان لأن يقول ماقاله!
طبعًا ذكرت القصة السابقة لتكون تمهيداً لما أود إيصاله للقارئ الكريم، ولعلي أمهد أكثر من ذلك بذكر قصة أخرى وقعت مع صديقي سالم المحترف في تصميم مواقع الإنترنت، حيث أنه طُلب منه أن يصمم موقعاً إليكترونياً دعوياً باسم شخص من الناس والإشراف الفني عليه، فرد الأخ سالم: وكم الميزانية الشهرية التي حددتموها لهذا الأمر؟ فأُنكر الأمر عليه، وكيف أن هذا الأمر لايُراد منه إلا الأجر من الله وحده! فأتبع صديقي رداً عفوياً: كلنا نريد الأجر من الله عز وجل، ولكن أجر الدنيا مطلوب أيضاً، فكما أن أصحابكم يريدون دين ودنيا، فنحن كذلك نريد دين ودنيا!
لعلكم فطنتم إلى من أقصد بحديثي هذا! وربما يرد علي أحدٌ بأنهم بشر يصيبون ويخطئون، وقد يرد آخر بأن هناك أناسٌ آخرين من غير هذه الفئة من المفترض أن تتحدث عنهم. فأقول وبالله التوفيق: إن تركيزي في الحديث عن فئة الدعاة وطلبة العلم الشرعي وإن شئت فقل المشائخ، وذلك لخطورة اتخاذ الدين سلعة، وإثارة عواطف الناس واستغلالهم باسم الدين، وحين يعلم الناس بحقيقة المسيئون منهم يجعلونهم ينفرون من الدين. فبدون أن نحدد هذا أوذاك، فهناك من الدعاة من له شهرة وصيت ذائع يحسبهم الناس أولياء الله، وأكثر من يعرف حقيقتهم هم الناس من حولهم. إخواني الكرام؛ نعم هم بشرٌ يصيبون ويخطئون، ولكن ويلٌ للذين يقولون مالايفعلون، فمنهم من لايكاد أن يلقي موعظة إلا وبكى فيها، بينما تجده مضيعاً لأمانة عمله في الجامعة وإعطاءه المحاضرات لطلابه في الجامعة، فكيف يريد لطلابه أن يقبلوا منه البكاء في مواعظه! أخشية أم نفاق؟! ومنهم من يعظ الناس عن الحياة الزوجية وأن على الرجل أن لايظلم زوجته... بينما تجده مزواجاً (مطلاقاً) يعبث في بنات الناس وأكثر مايتخير الصغيرات منهن اللاتي لم يتجاوزن العشرين، يزوجهم الناس لشهرتهم باسم الدين، بينما هم أبعد مايكونون عن تطبيق تعاليم رب العالمين.
إخواني الكرام؛ ماأهدف إلى أن أصل إليه، هو أن علينا أن نبتعد عن ثقافة تقديس الأشخاص، فكل بشر ينبغي علينا أن نقيمه ونوزنه بعيداً عن شهرته (فهناك من تلعنه الشهرة وتصيبه بسخطها، وهناك من يمن الله عليه بفضله ويتغلب عليها)، كما أن علينا أن نبين للناس حقيقة من يتلاعب بهم ويستغلهم باسم الدين، حتى ولو كانوا من كانوا في الشهرة والصيت. والحمد لله رب العالمين.