[SIZE="4"]
كأن شعورنا بالانشراح والسرور العارضِ الذي لا يقتضيه سببٌ مباشرٌ هو دليلٌ على خروجِنا عن الأصل العام شبه الملازم (الحزن) ؛ لأن الفرحَ بالشئ يسبقه شعورٌ بالحرمان منه لذا كان الفرح به مُبَررَاً . ألم تعلم أن الأشياء تتبين بأضدادها؟ ومثال الرِيّ بعد العطش , والشِبَع بعد الجوع أصبح مبتذلاً ولكن لا بد منه لتوضيح المراد , وربما اعترضتَ بأن ثمتَ شعوراً محايداً بين الطرفين ولنسمِهِ (السكون) ؛ كان الردُ : أنت واهمٌ لا سُكون , إنما هو حزنٌ مخفف اشتَبه عليك فسميتَهُ سُكوناً ؛ وإلا فلِمَ الفرحُ بالفرح ؛ لِمَ تهِشُ إليه وتُسّرُ بمقدَمه ؛ أليس دليلاً على الفقد ؛ ولو كان سكوناً حقاً لِمَ تتحركُ طلباً للذائذ والمسرات ؛ أليس دفعاً للحزن الذي تسميه سكوناً؟ وإن صحت هذه النظرة المتشائمة -وأرجو أن لا تصح- فلا بد من أخلاقٍ وآدابٍ نصْحَبُ بها هذا الصديق الثقيل (الحُزْن) أو حالة عدم السرور( السكون) -إن وافقناك على مضضٍ- .
ولكن هذا ربما يجرنا –ولا أدري لماذا؟- لبحثٍ آخر أروع وأمتع -فيما أرى- وهو عن طبيعة الأحداث والمواقف التي نختزنها في ذاكرتنا والتي نسميها (ذكريات) فلقد بدا لي أنها مجردُ أحداثٍ عَلِقت بأذهاننا لسبب اقتضى ذلك كاقتران فرح أو حزن أو حرج ونحو ذلك من مشاعر تجمعُها الإثارة , تفارقُ الحال الطبيعي . فإن قيل : نحن نتذكرُ أشياء كثيرةً ليس للمشاعر فيها أثرٌ يُذكر ؛ فالجواب : إن الوهمَ أليفُك اليومَ ! لقد نسيتَ سببَ الذكرى الحقيقي فقط ؛ وبقي أثره وهي الصور الباقية في مخيلة الذاكرة , ويكون هذا عادةً في الذكرى التي لم يرافقها شعور قوي لذا تبخّرَ مع الأيام , وفتّش نفسك , وحاول أن تتأمل , وسترى أن هذا الرأي قريبٌ من الصحة جداً –والله أعلم-.
والآن دعني أضرب لك مثلاً طريفاً لذلك : هبْ أن ذاكرتنا كجدارٍ مرت عليه السنونُ ومر خلالها بشرٌ أردوا أن يثبتوا على جسده الصُلب شيئاً يُعبرُ عن أحداثٍ جرت كان لها وقْعٌ اقتضى تدوينها (ذكرى) فلم يجدوا حافظاً كالجدار إن خانت الأفكار ؛ فمنهم من بلّ إصبعَه بريقه فخطَ ما أراد ؛ ومنهم من رسم بالفحم ؛ ومنهم نَقَشَ بنصل رمحٍ أو سكين ؛ ومنهم من حفرَ بأوتاد الحديد , تُرَى أي المذكورات يصمدُ أثره على جسدِ الجدار على كَرِ السنين والأعصار؟ لا شكَّ أن ما كان في الجدار أعمقَ أثراً , فهو أبقى ذِكراً , فكذلك الذكرياتُ على جدار أذهاننا منها ما يكتب أو ينقش أو يحفر , وعلى خطى العمر السريعة تتلاشى إلا ما حفرته مواقفُ ذات وقعٍ خاص جعلها ماثلةً كأن لم يمضِ عليها وقتٌ يُذكر. وتأمل أحداثاً كثيرة لم يبقَ منها إلا صُوَراً مُجْملةً لا تكاد تُذكر ؛ أما التفاصيل فلا مطمعَ فيها لأنها خالية من أي موقف شعوري ذي بالٍ , وتأمل الذكرى المروعة كموت حبيبٍ -مثلاً- فإنها لا تنمحي أبداً ؛ بل ربما استحضرنا تلك المواقفَ بتفاصيلها الدقيقة كأزيز الصدور والأنفاس المتسارعة المرافقة للبكاء المجهشِ , أو ملوحة الدموع عندما أغرقت الوجه وانسابت إلى الفم ؛ كأننا نعيشُ تلك اللحظة ؛ كأنْ لم تطوها السنونُ ؛ لأن المشاعرَ حفرتها بأوتاد الحديد على جدار ذاكرتنا العتيد ...
فهل عرفتَ المكونَ الرئيسي لما نسميه (ذكرياتنا)؟
_________________
من الثوابت التي يجب على العاقل أن يتوخاها في علاقاته الاجتماعية , فتكون عُمْدته إذا اختلطت عليه الأمور , ومُحْكماتُه إن دهمته المتشابهات ؛ واستبهمت عليه الخِيارات , ومنها :
* عليك بالصمت فإنه البليغٌ الذي لا يتلعثم , والخطيبُ الذي إن قال أفهم , وكم حَمِدنا الصمتَ بعدما تكلمنا وقلنا ما قلنا .
* إن استطعت أن لا تُعادي أحداً فافعل -ولن تستطيع- ؛ فإن قَدِرت أن لا تثير عداوةَ أحدٍ فافعل وهذه أسهل وأقرب إلى واقع الناس المعهود . واعلمْ أن أحمق الناس من يبادر بإحراق الصدقات بنيران العدوات وكان فيها رمقٌ تحييه أدنى رشفة سِلْم ؛ فاستبدَلََ الذي أدنى بالذي هو خير, وقد كان واجداً في السِلم مساغاً لو عقل ؛ فإن قلت : من الناس من لا بد من مواجهته بما يكره حتى يكف شره أو يخف ؛ فأقول : صدقت , ولكن هذه حال -عند التأمل- نادرة لأنك متى اجتهدت -بصدق- في تجنب المواجهة بالمكروه فستعثر على مخلصٍ حسن ؛ وإن سُدت السبل وتحتم المكروه ؛ فلا تنبغي المكابرة في أنها حالة نادرة لا تنقض قاعدتنا الحكيمة وهي "عدم استثارة العداوة ما استطعت" .
* اجعلِ القطيعةَ كلحم الميتة لا تحل إلا لمضطرٍ لم يجد إلى غيرها سبيلا ؛ فإن تناولَ منها فلا يزدْ على ما يُسكت الغضب العارض فقط , وهذه -أي القطيعة- بطبيعتها ستكون عارضةً طبعاً , وقد منحَ الشرعُ فرصةً لا تزيدُ على ثلاثةِ أيام ؛ أما قطعُ الحبالِ وفسخُ الوصالِ فكلا . وتذكّر أن القطيعة التي لا تكون إلا بعد إلفٍ وعِشْرة فهذه لها -عند الشرفاء- حُرمةٌ مرعيةٌ وحمى مصون لا تهون إلا على رقيقِ الوفاء صفيقِ الوجه -أجارك الله- وقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : الحُرُ من حفظ ودادَ لحظة , وقال سيد الخلق كلهم أجمعين عليه الصلاة والسلام : "إن حسن العهد من الإيمان" .
_________________
غاض الوفاءُ فما تلقاه في عِدةٍ ..... وأعوزَ الصدقُ في الأخبار والقَسَم
إن نكران الجميل موجعٌ حقاً ؛ فكيف إن كان ممن بذلتَ في خدمته وسعك , وتحمّلتَ من أجله ما أنقض ظهرك ؛ وربما واليتَ وعاديت , ووصلت وقطعت ؛ فإذا بالناكرِ يتجهم , وعن أحوالك يستفهم كأنه لا يعلم , ولكنك تعلم أنه يعلم , مع أنه بإنكارِهِ الصنيعةَ قد استوجبَ قبحَ القطيعة , ولكنك -إن شاء الله- ستخزي شيطانه ولن تترك الجميل مع كل أحد ما استطعتَ إلى ذلك سبيلاً , ووطنْ نفسَك -في مستقبلِ الأيام- على احتمال مرارات النكران وهي كثيرة , فالشاكرون هم في الناس الأقلون , فعلى بركة الله سرْ ؛ وإن لم ترَ من الأكثر ما يَسُر ؛ فما عند الله تعالى خير وأبقى , وحذاري أن تترك الفضائل لأجل التافهين الناكرين , وإياك أن يطردوك من باحةِ الخير والفضل بل أقم , وإن رغم أنف اللؤم , وعليك بالصبر فاصحبه فإنه كريمٌ لا يحب إلا مرافقة أشباهه . وفي هذا مزدجرٌ عن قبح كفران النعم التي تترا إليك من المنعم (حقاً) جل جلاله , فاللهم لك الحمد كما ينبغي أن تُحمد , لك الحمد ربنا عددَ خلقك , ورضا نفسك , ومداد كلماتك , لك كل الحمد ... وإن كانت حمدُك ذاتُه نعمةً من نعمك فكيف إذن نقضي ما في نفوسنا من حمدك ...
اللهم قد عجزنا ...
اللهم قد عجزنا ...
إذا كان شكري نعمة الله نعمةً ..... عليَّ له في مثلها يجب الشُّكر
فكيف بلوغ الشُّكر إلاّ بفضله ..... وإن طالت الأيَّام واتَّصل العمر
إذا مسَّ بالسَّراء عمَّ سرورها ..... وإن مسَّ بالضَّراء أعقبها الأجر
وما منـهما إلاّ له فيه نعمةٌ ..... تضيق بها الأوهام والبرُّ والبحر[/
SIZE]
]_________________[/
إن أشعرتَ من يعاملُكَ بمكرٍ وخبث بأنّ المواجهةَ هي الحل الوحيد الذي لا بد منه ؛ فاسمح لي أن أقول لك -بحق- : أنت غبي , وإن أبقيتَ له مخارجَ سِلميّةً يلوذُ بها إن أعيته الحِيَلُ , وعزّت عليه المكائد ؛ فأنت الذكي ؛ لأنك تعلم أن فرارَ الجبان خيرٌ من تلويثِ سيفك بدمه ... وشكراً
-----------
تنبيهٌ متأخر مع الأسف: هذه خواطرُ كتبتها من فترة طويلة ثم نقحتها على عجل ونشرتها كما ترون , ولن أعدمَ -إن شاء الله- من الإخوة ناصحاً مصححاً أو مرشداً مصوباً.