أسباب التعدد في التحليل النحوى
يلحظ المرء أن تعدد الأوجه في تحليل أحد العناصر التركيبية أمرٌ شائعٌ ومألوفٌ في درسنا النحوي، ومن ثم ألفنا أساليب الجواز عند النحاة، إذ نرى أحياناً أن أحدهم قد يجيز أكثر من وجه في عنصر ما. كما ألفنا الخلاف بينهم في أثناء التحليل، فمنهم من يرى وجهاً فيما يتناول، ثم يأتي آخر رافضاً ما سبق ومضيفاً وجهاً جديداً، وربما وقف أحدهم عند شاهدٍ ما قيلت فيه أوجه كثيرة تمثّلها جهات متنوعة، فيحاكم الأوجه ليضعف بعضها أو يرفضه ويرجّح أو يجيز بعضها الآخر، وهكذا شاع الجواز في تحليلهم وكثر الأخذ والرد بالترجيح والتضعيف والرفض في حوارهم.
ونحاول في هذا البحث أن نلقي الضوء على الأسباب التي تقود إلى تعدد الأوجه في تحليل أحد العناصر التركيبية، ملتزمين بمنهج وصفي يبتعد عن الأحكام المعيارية التي تبين التفاوت بين الأوجه، من حيث القوة والضعف.
* * *
نظر النّحاة في طبيعة النظام التركيبي والعناصر التي يتشكل منها من حيث الأسس التي تحكمها والمعاني التي تتمثل بها، وبعد أن لاحظوا أن هناك أنماطاً تركيبية معينة تتحكم في نظام اللغة التركيبي جرّدوا منها هيكلاً نظريًّا، يُعدُّ قواعد نحوية يقاس عليها التوليد والتحليل، وتمثّل النظام المطرد في اللغة، بيد أن طبيعة اللغة الإنسانية التي لا تخضع للأحكام المطلقة واجهتم بأنماط أخرى تقلُّ اطّراداً، وتعكس شواهد بمستويات مختلفة شعرية ونثرية، فانبرى النّحاة لها بالتحليل وانقسموا فريقين، الأول يوجّه في ضوء المطّرد، والآخر يجعل من هذه التي تقل عن المطّرد قواعد ينقاس عليها، ومن ثَمَّ كثر التعدد في تحليل مثل هذه الشواهد التي خرجت على الأصول المطردة، وتشعبت المواقف منه من حيث التضعيف والجواز والرفض.
وإذا كانت اللغة تعكس الطبيعة الإنسانية بأنها لا تخضع للأحكام خضوعاً مطلقاً فإنها تعكس تلك الطبيعة بمظهر آخر يمثل الغموض المحير الذي لا يخضع لتفسير واحد، فقد لاحظ النحاة أن هناك شواهد لم تخرج على قاعدة ولم يؤثر فيها أمرٌ سياقي، وتبقى فيها بعض القضايا المحيرة في الفهم التي تقبل غير وجه، مما جعل طبيعة اللغة الإنسانية سبباً في تعدد أوجه التحليل أحياناً.
ولا شك أن المفسر عندما يتناول نصاًّ ما ينقاد إلى فهم معين، وهذا الفهم يعد حصيلةً لتفاعل أمرين، المعطيات السياقيّة التي يتشكل منها المعنى، وطبيعة المتلقي من حيث التكوين الفطري والمكتسب، إذ يتعدد المعنى في نظر المفسر الواحد بسببٍ من المعطيات السياقية التي يرتكز عليها في فهم النص، ويقود هذا إلى تعدد في التحليل النّحوي عنده، وقد يختلف فهم المعنى باختلاف الناس، مما يجعلنا نرى التفاوت النسبي في عملية التلقي وتحديد المعنى أمراً شائعاً، وهو ما يجعل التحليل النّحوي أحياناً يختلف الاختلاف نفسه، كما يظهر في تفاسير القرآن الكريم وغيرها.
ويبدو أن هذه القضايا المشار إليها قابلة للاجتهاد مع مرور الأيام، فإذا كانت الشواهد التي تمثل الفصحى وقد خرجت على المطرد ثابتة فإن الأشخاص الذين ينظرون فيها يتزايدون بمرور الزمن، وكذلك الأمر مع ما تمثله طبيعة اللغة، أو النصوص المهمة الثابتة، كالقرآن الكريم، ومن ثم كثر التعدد بالتوليد والتفريع، وكثر الأخذ والرد بالجواز والترجيح والتضعيف والرفض.
ومما تقدم يمكن النظر إلى الأسباب التي كانت وراء ظاهرة التعدد من أربعة جوانب: الخروج على القاعدة، وطبيعة اللغة، والمعنى، والاجتهاد.
أولاً- الخروج على القاعدة:
يبدو أن القاعدة في النحو العربي لم تحظ إلى يومنا هذا بدراسة معمّقة( )، ولعل المتأمل يلاحظ أن القواعد بمعناها الواسع هي مجموعة من الأحكام، استخلصت من الأنماط التركيبية التي تمثل النظام التركيبي للغة العربية، وهذه الأحكام تستنبط للقياس عليها في عملية التحليل النّحوي، أو في توليد الكلام عند أبناء اللغة، ولعل هذا الأمر كان السبب الذي جعل كثيراً من هذه القواعد يجرَّد في مقولات نظرية
والملاحظ أن هذه القواعد عند النحاة قسئفع الفاعل والمبتدأ والخبر، والمتلازم بين الموصول وصلته، والعامل والإسناد وغيره. ثم إن ما بني على المطّرد ينقسم قسمين أيضاً، وذلك بحسب أصل الوضع وعدمه، فهناك قواعد أصول وأخرى فروع، ومن النوع الأول، مثلاً أن يقال: إن الأصل في المفعول به التأخّر عن فعله( )، وبذلك تُجرَّد قاعدة مبنية على أصل الوضع، وقد يخالف هذا الأمر بشواهد مطّردة أيضاً، فيقدم المفعول به على فعله لغاية بلاغية، ومن ثم تولد قاعدة فرعية مبنية على مطردٍ خرج على أصل الوضع تقول: يجوز تقديم المفعول به على الفعل( ). وأصل الوضع في العربية أن يذكر الجار قبل "أن" المصدرية، وقد خولف هذا الأصل بشواهد مطردة، فحذف الجار عند أمن اللبس، مما جعلهم يجردون قاعدة مبنية على مطرد خرج على أصل الوضع تقول: يطرد حذف الجار مع "أن" المصدرية إذا أمن اللبس( ).
أما القسم الآخر من القواعد فهو ما اختلف فيه، وشكل ملمحاً بارزاً من ملامح الخلاف النّحوي، ولعل السبب في عدم الإجماع على هذه القواعد يعود إلى أمرين، الأول هو اضطراب مفهوم المطرد عند النّحاة أحياناً، فهناك أنماط تركيبية يعتقد بعضهم أنها تطرد في الكلام شعراً ونثراً، فيجعل منها قاعدة يقيس عليها، على حين يعتقد بعضهم الآخر أن هذه الأنماط لا تطرد في كلام العرب، وبذلك لا يجوز التقعيد لها والقياس عليها، من ذلك أسلوب القلب، فقد ذهب قسم من النحاة إلى أنه يجوز في الكلام والشعر اتساعاً واتكالاً على فهم المعنى، وبناءً على ذلك حلّلوا بعض الأساليب التي وردت في القرآن الكريم قياساً على القلب، على حين ذهب نحاة الأندلس إلى أن هذا النمط غير مطرد، ولا يجوز في الكلام إنما يجوز في الشعر اضطراراً، وبذلك لم يقيسوا تلك الأساليب التي وردت في القرآن الكريم عليه، بل وجهوها وجهة أخرى( ). فالنحاة هنا لم يختلفوا في التقعيد والقياس على المطرد، وإنما اختلفوا في تحديد المطّرد، وبناءً على ذلك حدث الخلاف في التقعيد والقياس.