قال ابن رشيد في الجزء الخامس من رحلته (ص 76 - 80):
(( وفي وصف خُليص أقول من قصيد:
وخليص إذ وردنا خِلْصَهُ ........... فرعى الله أُوَيقاتَ الورود
..... وهذا البيت اتفقت فيه موافقة حسنة في التصغير، كرَعت في مورد الحسن لا تُحلأ عنه. وذلك أن
الشعراء أكثروا من التصغير في محال، إما لضرورة وزن، أو لقصد ضعيف غير قوي. وربما ندر منهم فيما صدر عنهم ما يستحسن.
كان شيخنا بحر البلغاء وحبر الأدباء أبو الحسن حازم بن محمد [القرطاجني] رحمه الله يقول، وقرأته بخطه: كان أبو الطيب المتنبي مولعا بالتصغير. ولم يوفق من ذلك إلا في قوله:
ظللت بين أصيحابي أكفكفه ............ وظل يسفح بين العذر والعذل
فحسن هذا لما كان الموطن مظنة لقلة الصحب. فكثيرا ما يستعملون ذكر الخليلين في هذا الموضع.
قلت: ووجه حسن البيت الذي أنشدته من طريقين:
أحدهما: المناسبة اللفظية فإن خليصا مصغر وأويقات كذلك. والمناسبة اللفظية مما تعتبر. ومن مستحسن ذلك قول الأديب البارع أبي عبد الله محمد بن غالب الرصافي رحمه الله:
بلادي التي ريشت قويدمتي بها ............ فريخ وآوتني قرارتها وكرا
فحسن موقع تصغير القادمة لمكان تصغير فرخ.
الثاني وهو أقوى للحظ المعنوي. وهو أن أوقات السرور توصف بالقصر. وقد أكثر الشعراء من ذلك حتى قلت:
ولم يزل زمن الأفراخ مختصرا
فناسب ذلك التصغير.
ومما كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله يستحسنه من ذلك قول الشريف:
يُوَلِّع الطل بردينا وقد نسجت ............ رويحة الفجر بين الضال والسلم
فإن لقوله رويحة حسنَ موقع من النفس، لأنهم لما كانوا يقولون نسيم عليل، ونفس خافت، كان تصغير لفظ الريح في هذا البيت مستحسنا مختارا. ولذلك سمعنا شيخنا أبا الحسن رحمه الله يعيب قول ابن عمار:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى ............ [والنجم قد صرف العنان عن السرى]
لأن الانبراء كأنه اعتراض بقوة، والنسيم من شأنه أن يوصف باللدونة والرقة.
ومن التصغير الذي له طلاوة وحسن موقع قول أبي العلاء صاعد بن عيسى الكاتب:
إذا لاح من برق العقيق وُمَيْضَة ............ تدق على لمح العيون الشوائم
فحسن تصغير الوميضة لما وصفها بالدقة والخفاء.
ومن المستحسن قول أبي العلاء المعري:
إذا شربت رأيت الماء فيها ............ أُزَيرِق ليس يستره الجران
لما وصفها برقة الأعناق ودقتها حسن تحقير ما يمر عليها من الماء لضيق مسلكه. فمقداره لذلك نزر.
ومن المستحسن قول عمر بن أبي ربيعة:
وغاب قُمير كنت أرجو غيوبه ............ وروّح رُعيان ونوّم سُمّر
فحسن تصغير القمر هنا لأنه قد دل بإخباره أنه غاب عند ترويح الرعيان ونوم السمار على أنه كان هلالا.
ومما استحسن قول أبي نصر بن نباتة:
ففي الهضبة الحمراء إن كنت ساريا ............ أغيبر يأوي في صدوع الشواهق
لأن الحية توصف بالضؤول والدقة، وحسبك قول النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ............ من الرقش في أنيابها السم ناقع
ونحو منه قول الشريف:
زال، وأبقى عند وراثه ............ جُذَيم مال عرّفته الحقوق )).
-----------------------------
قلت: أما ما ذكره عن المتنبي من ولوعه بالتصغير؛
فمنه قوله:
أخذت بمدحه فرأيت لهوا ............. مقالي للأحيمق يا حليم
وقوله:
وفارقت مصرا والأسيود عينه .............حذار فراقي تستهل بأدمع
وقوله:
ونام الخويدم عن ليلنا .............وقد نام قبل عمى لا كرى