إن تنصروا الله ينصركم
الحمد لله معز الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره ، نصر عبده و أعز جنده الموحدّين و هزم الأحزاب وحده قال جل ثناؤه " يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم " و قال أيضا " و كان حقا علينا نصر المؤمنين " و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ينصر من يشاء و يخذل من يشاء بيده الخير و هو على كل شيء قدير و أشهد أن محمدا- صلى الله عليه و سلم- عبده و رسوله و صفيُّه من بين خلقه وحبيبه أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كلّه و لوكره الكافرون أما بعد :
لقد فُجِعَ كل غيور من أبناء هذه الأمة المسلمة للأحداث الأخيرة التي ألـمّت بنساء المؤمنين بأرض القيروان التي كانت في يوم من الأيام حاضرة علمية تتوق إليها نفوس طلبة العلم من مشارق الأرض و مغاربها ، بل كانت حِصْنا للإسلام من هجمات أعداء هذا الدِّين يلوذُ به كل من ابتغى النُّصرة ؛ و لكن سُنَّة الله لا تتغيّر و لا تتبدّل فهؤلاء صحابة رسول الله- صلى الله عليه و سلم- بعدما رفعهم ربهم و نصرهم في بدر و هم أذلّة و ذلك لما حقّقوا العبودية ؛ فلما كانت أُحُد و خالف بعضهم أمر رسول الله – صلى الله عليه و سلم- و تنازعوا في الأمر كما أخبر سبحانه "حتى إذا فشلتم و تنازعتم في الأمر و عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم و لقد عفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين" أصابهم القرح ُ، وصرّح في آية أخرى عن سبب تولّي بعض من حضر الغزوة فقال جل ثناؤه"إن الذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا و لقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم". بل رسول الله - صلى الله عليه و سلم- كانت له ناقة لا يسبقها أحدٌ فجاء مرّة أعرابيٌّ فسابقها ببعيره فسبقها فوقع في قلب الصحابة شيء ، فقال رسول الله – صلى الله عليه و سلم- "إِنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ إِلاَّ وَضَعَهُ". فما ألـمَّ بالأمة اليوم في مشارق الأرض و مغاربها من نكبات إنما لوقوع بعض الأمة فيما يسخط الله تبارك و تعالى و تخليها عن تحقيق النُّصرة و شروطها و التي هي موضوع هذه المقالة. و ستكون لنا وقفة مع آية من سورة الصف و حظّ كل واحد منها .
قال تعالى :" يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل و كفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين"، و المعنى :" يا أيها الذين صدَّقوا الله و رسوله ، كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من "أنصاريَ إلى الله" ، يعني من أنصاري منكم إلى نصرة الله لي"ا.هـ راجع تفسير الطبري. و يكون المعنى كذلك : من يكون من خاصتي منكم في نصرة الله ، و هذا نداءٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين بأن يكونوا أنصارا لدينه و لكتابه و لرسوله و مثّل لهم بعيسى عليه السلام -كلمة الله و روحه ألقاها إلى مريم- لماّ قال للحواريين من أنصاريَ إلى الله. و حواريُّ الرجل : صفيُّه و خاصّته مأخوذ من الحَور و هو البياض الخالص. و السؤال المطروح الآن : هل نحن حقا أنصارٌ لله ؟ سؤالٌ محتاجٌ لكثير من التأنّي للجواب عليه ، و الواقع ابتداء يشهد بكذب الدعوى ، لكن لا بأس أن نواصل التسليم جدلا بأننا أنصار لله باعتبار أننا على الدين الحق !! وكشف زيف هذا التسليم أو تصديقه نستشفه من الكلام على الآية الآنفة الذكر. و كتوطئة للموضوع نعرف أولا قصة عيسى مع الحواريين و ما الذي دار بينه و بين أصحابه ، روى الإمام الطبري رحمه الله بسنده عن ابن عباس قال: "لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه -وهم في بيت اثنا عشر رجلا- من عينٍ في البيت ورأسُه يقطر ماء؛ قال : فقال: إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرّة بعد أن آمن بي؛ قال : ثم قال: أيُّكم يُلْقَى عليه شَبَهِي فيُقتَلَ مكاني، ويكون معي في درجتي؟ قال: فقام شاب من أحدثهم سِنًّا، قال: فقال أنا. فقال له : اجلس؛ ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب، فقال أنا؛ قال: نعم أنت ذاك؛ فأُلقِيَ عليه شَبَهُ عيسى، ورُفع عيسى من رَوْزَنَة(1) في البيت إلى السماء؛ قال: وجاء الطلب من اليهود، وأخذوا شَبَهه. فقتلوه وصلبوه ، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرّة بعد أن آمن به، فتفرّقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء الله، ثم رفعه إليه، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة:كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الطائفتان الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم،"فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة" يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى،"فأيدنا الذين آمنوا على عدّوهم فأصبحوا ظاهرين" في إظهار محمدٍ دينَهم على دين الكفار، فأصبحوا ظاهرين" ا.هـ راجع تفسير الطبري (22/622-623 ط تركي) . و لما خاطب الله قريشا بهذه الآيات ماذا كان ، فعن قتادة قال: " قد كانت لله أنصار من هذه الأمة تجاهد على كتابه وحقِّه. وذُكر لنا أنه بايعه ليلة العقبة اثنان وسبعون رجلا من الأنصار ، ذُكر لنا أن بعضهم قال : هل تدرون عَلامَ تبايعون هذا الرجل ؟ إنّكم تبايعون على محاربة العرب كلّها أو يُسلموا(2). ذُكر لنا أن رجلا قال :" يا نبيّ الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت"، قال :" أشترط لربّي أن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئًا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما منعتم منه أنفسكم وأبناءكم" قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا نبيّ الله ؟ قال: "لكم النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة"، ففعلوا، ففعل الله"ا.هـ المصدر نفسه (22/620) .فرضي الله عن الأنصار الذين صار حبُّهم من الإيمان و بغضهم من النفاق كما هو معتقد أهل السنة ، لأنّ اسمهم نزل من السّماء فلم يُسمَّ حيٌّ من السّماء اسما لم يكن لهم قبل ذلك غيرهم . و في السيرة كذلك أن العباس بن عبد المطلب لما أراد الاطمئنان على ابن أخيه قال للأنصار :"فإن كنتم أهل قوة و جَلَد و بصيرة بالحرب و استقلال بعداوة العرب قاطبة فإنها سترميكم عن قوس واحدة" كان الجواب من البراء بن معرور –رضي الله عنه- :"قد سمعنا ما قلت : و إنا والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه و لكنّا نريد الوفاء و الصدق و بذل مهج أنفسنا دون رسول الله".
أيها الأحبة إن نصرة الدين و إقامته لها تكاليف عظام و صفات واضحة في كتاب الله و في سيرة النبي –صلى الله عليه و سلم – و في سيرة الصحابة –رضوان الله عليهم- فمن لم يتصف بهذه الصفات لا يستطيع القيام بنصرة هذا الدّين ، من ذلك ما ذكره سبحانه في سورة المائدة :" يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبُّهم و يحبُّونه أذِلَّة على المؤمنين أعِزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم " و في خبر ورقة بن نوفل لما قصّ عليه النبي –صلى الله عليه و سلم- ما جرى له في الغار، قال ورقة: " يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة : هذا النّاموس الذّي أُنزِل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، أكون حيّاً حين يخرِجُك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوَ مخرجيَّ هم). فقال ورقة : نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزَّراً" رواه البخاري . فحرِيٌّ بمن يريد نصرة هذا الدّين و تحمُّل أعبائه بحقّ أن يُوَطِّن نفسه على معاداة أهل الباطل له و رميهم له جميعا عن قوس واحدة ، لا كما يزعم دعاة التعايش و الجوار اليوم الذين يريدون كسر جدار العداوة لكن بالتنازلات التي تُذِلُّ أهل الإسلام و قد تودي بهم إلى هاوية الرِدَّة ، و ما فتوى شيخ الأزهر في قضية الحجاب في فرنسا عنا ببعيد و الله المستعان. و نصرة الدّين كذلك ليست كلاما نتداوله حديثا على الأرصفة أو نخصِّص له فُتات أوقاتنا بل هي بيعة و سلعة الله غالية ، ألا ترى أن الأنصار لما فعلوا فعل الله ، فما الذي يمنعنا أن نقتفي أثرهم و نسلك سبيلهم ؟ نعرف هذا من خلال معرفة معنى النصرة في القرآن الكريم ، ذكر أهل التفسير أن النصر في القرآن على أربعة أوجه :
أحدها: المنع و منه قوله سبحانه في البقرة :" فلا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينصرون " و في الشعراء :"هل ينصرونكم أو ينتصرون" أي : يمنعونكم من عذاب الله .
الثاني : العون و منه قوله سبحانه في الحج :"و لَيَنصُرَنَّ الله من ينصُره " و في الحشر :" و لئن قوتلتم لننصرنكم" و في سورة محمد :" أن تنصروا الله ينصركم" .
الثالث : الظفر و منه قوله سبحانه في البقرة :" و انصرنا على القوم الكافرين".
الرابع : الانتقام و منه قوله سبحانه في الشورى : "و لمن انتصر بعد ظلمه" و في سورة محمد " و لو شاء الله لانتصر منهم " و في القمر " إني مغلوب فانتصر".
فهذه المعاني الأربع للنّصر لا يظهر حظّ الناس منها إلا ما رحم ربّي. الشيطان وجد أنصارا، الكفر وجد أنصارا، الباطل وجد أنصارا، الظلم والحَيف وجدا أنصارا، الرّذيلة وجدت أنصارا، دعاة الإباحية وجدوا أنصارا، خِسَّة الهمّة وجدت أنصارا، الغناء -وما أكثر عشّاقه- وجد أنصارا، كرة القدم وجدت أنصارا، حتى تعطلت الجمعة والجماعات في المساجد، الصليب وجد أنصارا؛ فكل ما يبغضه الله ورسوله ويحرِّمه الله ورسوله وجد أنصارا عندنا. أمّا الدّين والقرآن ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأخلاق والفضيلة والعدل والإنصاف والقسط وجمع الكلمة ووحدة الصفّ، والجماعة والائتلاف، والحجاب، ونصرة المستضعفين، والهمُّ للدّين والهمُّ لأمر المسلمين، وكل ما يحبه الله ورسوله، كل هذا لم يجد عندنا أنصارا، ثم نزعُم وندّعي ونتبجّح بأننا مسلمون وأنّ ربنا الله، ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، بل ونريد أن نظهر على عدوّنا هذا لعمري من الأماني. إن من كان وليه الله ورسوله ودينه الإسلام -الذي هو قول وعمل- من كان هذا حاله لابدّ أن يحقِّق النّصر بمعانيه الأربع كما اشترط القرآن ؛ فإن كان من معاني النّصر "المنع" فيجب أن نمنع ونصون أنفسنا وأهلينا من مساخط الله تعالى ، وإن كان من معاني النصر "العون" فلابدّ من التعاون على البرِّ والتقوى ولابدّ من طلب العون من الله سبحانه كما قال شيخ الإسلام " تأملت أنفع الدعاء فوجدته في قوله سبحانه " إياك نعبد و إياك نستعين " و هو طلب العون من الله على طاعته و عبادته " ذكره ابن القيم. و إن كان من معاني النّصر "الظفر" فلابدّ من تحقيق أسباب النّصر والظفر فإن كلمة (دعا يدعو) لا تَمْحُ كلمة (عدا يعدو) ولكن يمحوها (أعدَّ يُعِدُّ) و(استعَدَّ يستَعِدُّ) فأعِدّوا واستعِدّوا تظهر أمجادكم وتزدهر أعيادكم. وإن كان من معاني النّصر "الانتقام" فلابد من التصديق بوعد الله أنه سينتقم من أعداءه وذلك بأيدي المؤمنين.
فلا ينفع الحديث عن الإسلام والحرمات والمستضعفين وماذا يجب مع كل واحدة منها فهذا يحسنه أكثر الناس لكن الذي ينفع هو العمل ، وقد افتتح سبحانه سورة الصف بقوله: "يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" [الصف 2-3]، وإذا كان الحواري هو الخاصّة والصفيُّ من النّاس فمن هم أهل الله على الحقيقة. والجواب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" فإذا فهمت هذا رجعت بك أيها المبارك إلى قوله تعالى : "وقال الرسول يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا". فلما هجرنا القرآن استلزم ذلك تضييع معاني النُّصرة الأربع و توضيح الفكرة في كلام رائق لابن القيم رحمه الله :" هجر القرآن أنواع :أحدهما: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه, وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصّل العلم. والرابع: هجر تدبّره وتفهّمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله :" وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً " [الفرقان 30]. وإن كان بعض الهجر أهون من بعض " ا.هـ راجع الفوائد . فاللهم ردنا إلى القرآن ردا جميلا و اشرح صدورنا للحق و قيض لهذه الأمة من عدولها من ينصر دينك و كتابك واجعل منهم ، و الحمد لله أولا و آخرا.
و كتبه
أبو حاتم القسنطيني
http://www.merathdz.com/play.php?catsmktba=1891
--------------------------------------------------------------------------------
(1) : الروزنة : الكُوّة
(2) : في السيرة أن أسعد بن زرارة عندما قاموا لمبايعة النبي – صلى الله عليه و سلم- قال لهم : رويدا يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا و نحن نعلم أنه رسول الله و إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة و قتل خياركم و أن تعضكم السيوف فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه و أجركم على الله و إما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله ، فقالوا يا سعد أمط عنا يدك فوالله لا نذر هذه البيعة و لا نستقيلها