بسم الله الرحمن الرحيم

قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127

[مسألة قتل من يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم]

قال أبو بكر حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: «كان رجل من المسلمين أعمى فكان يأوي إلى امرأة يهودية فكانت تطعمه وتسقيه وتحسن إليه وكانت لا تزال تؤذيه في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمع ذلك منها ليلة من الليالي قام فخنقها حتى قتلها فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشد الناس في أمرها فقام الرجل فأخبره أنها كانت تؤذيه في النبي صلى الله عليه وسلم وتسبه وتقع فيه فقتلها لذلك فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم دمها»

قال أبو بكر حدثنا وكيع عن سفيان عن حصين عن شيخ عن ابن عمر أنه أصلت على راهب سب النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال: «إنا لم نصالحكم على شتم نبينا صلى الله عليه وسلم»

وفيه مجهول.

قال أبو بكر: وذكر أن أبا حنيفة قال: لا يقتل

حديث الشعبى مرسل وقد رواه أبو داود عن الشعبى عن على فقال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وعبد الله بن الجراح عن جرير عن مغيرة، عن الشعبي عن علي رضي الله عنه «أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها»

وهذا أيضا منقطع بين الشعبى وعلى كرم الله وجهه.

قال أبو داود حدثنا عباد بن موسى الختلي أخبرنا إسماعيل بن جعفر المدني عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة قال: حدثنا ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر قال: "فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الناس" فقال: «أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام» فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا اشهدوا أن دمها هدر»

وفيه عثمان الشحام وقد تُكِلَّمَ فيه.

وقد أجمع أهل العلم أن من سب النبى صلى الله عليه وسلم من المسلمين فقد صار بذلك كافرا مرتدا ثم اختلفوا هل تقبل منه التوبة إن تاب فقال مالك يقتل على كل حال ولا تقبل توبته وقال الشافعى إن تاب لم يقتل وهو عنده بمنزلة المرتد.

ثم اختلفوا فى أهل الذمة إذا أعلنوا بسب الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والطعن فى دين المؤمنين فقال مالك من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل. وقال الشافعى إن من أعلن منهم بذلك فقد انتقض عهده وصار من أهل الحرب والإمام فيه بالخيار فإن شاء الإمام قتله وأخذ ماله فيئا وإن شاء نفاه وإن شاء جدد معه عهدا. وقال أبو حنيفة يعزر ولا يقتل وهو قول الثورى.

وهذا كله إذا أعلنوا بذلك فأما إذا أسروه بينهم فإنهم لا يؤخذون به لأن اليهود والنصارى وسائر من تؤخذ منه الجزية كفار بالله يزعمون أن الإسلام باطل وأن محمدا صلى الله عليه وسلم كذاب وليس بنبى وقد أقروا على أديانهم بالجزية ولهذا كان فى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه مع أهل الذمة أن لا يظهروا صلبهم وشعائر دينهم بين ظهرانى المسلمين.

قال الشافعى فى كتاب الصلح مع أهل الجزية: "فأجبتك إلى أن عقدت لك ولهم علي وعلى جميع المسلمين الأمان ما استقمت واستقاموا بجميع ما أخذنا عليكم وذلك أن يجري عليكم حكم الإسلام لا حكم خلافه بحال يلزمكموه، ولا يكون لكم أن تمتنعوا منه في شيء رأيناه نلزمكم به وعلى أن أحدا منكم إن ذكر محمدا - صلى الله عليه وسلم - أو كتاب الله عز وجل أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به، فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين ونقض ما أعطي عليه الأمان وحل لأمير المؤمنين ماله ودمه كما تحل أموال أهل الحرب دماؤهم.
وعلى أن أحدا من رجالكم إن أصاب مسلمة بزنا، أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم، أو فتن مسلما عن دينه، أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال، أو دلالة على عورة المسلمين وإيواء لعيونهم، فقد نقض عهده وأحل دمه وماله، وإن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه، أو نال به من على مسلم مَنْعُه من كافر له عهد، أو أمان لزمه فيه الحكم" (الأم 4/208)

ثم قال: "وأيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا، وكذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين إن فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد، أو قصاص لا نقض عهد، وإن فعل ما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم، ولكنه قال: أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها، أو على صلح أجدده عوقب، ولم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص بقتل، أو قود فأما ما دون هذا من الفعل، أو القول وكل قول فيعاقب عليه، ولا يقتل.
(قال الشافعي) : - رحمه الله - فإن فعل، أو قال ما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول أسلم، أو أعطى جزية قتل وأخذ ماله فيئا" (الأم 4/210)

قال الطحاوى: "قال أصحابنا فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه وكان مسلما فقد صار مرتدا ولو كان ذميا عزر ولم يقتل
وقال ابن القاسم عن مالك من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين قتل ولم يستتب ومن شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم
وقال الثوري الذمي يعزر وذكر عن ابن عمر أنه يقتل
وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك فيمن سب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا هي ردة فإن تاب نكل وإن لم يتب قتل قال يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هو برأ ضرب مائة ولم يذكر فرقا بين المسلم والذمي
وقال الليث في المسلم يسب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يناظر ولا يستتاب ويقتل مكانه وكذلك اليهود والنصارى
وقال الشافعي ويشترط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله أو محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دين الله بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت منه ذمة الله عز وجل وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو جعفر فهذا يدل على أنه لو لم يشترط لم يستحل دمه بذلك
روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته اليهود فقالوا السام عليك فقالوا لولا يعذبنا الله بما نقول فنزلت {وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله} الآية وروى سعيد عن قتادة عن أنس أن يهوديا مر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال السام عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون ما قال قالوا نعم ثم رجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا وعليك
روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك قالت ففهمتها فقلت وعليكم السام واللعنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تسمع ما قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلت وعليكم
ومثل هذا الدعاء لو كان من المسلم لصار به مرتدا يقتل ولم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
روى شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها فقيل له ألا نقتلها قال لا قال فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا خلاف بين المسلمين أن من فعل ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ممن ينتحل الإسلام أنه مرتد يقتل
فإن قيل روى أبو يوسف عن حصين بن عبد الرحمن عن رجل عن عمر أن رجلا قال إني سمعت راهبا يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم العهد على هذا
قال أبو جعفر إسناده ضعيف ويحتمل أن يكون شرط عليهم أن لا يكون هذا منهم" (مختصر اختلاف العلماء - في الذمي يسب النبي صلى الله عليه وسلم)

قول الطحاوى فى كلام الشافعى: "فهذا يدل على أنه لو لم يشترط لم يستحل دمه بذلك" ليس عندى كما قال وذلك أن الشافعى قرن بين امتناعهم عن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يجرى عليهم حكم الإسلام ولا يصح عنده عقد الذمة أبدا إلا بشيئين أن تضرب على رؤوسهم الجزية وأن يضرب عليهم الصغار وهو عنده أن يجرى عليهم حكم الإسلام وإنما ذكر الشافعى هذا فى عقد الذمة ليُعْلِمَهُم بما يجب عليهم بالعقد لا لأنه لو لم يُذْكَرْ لم يجب عليهم ذلك فَذِكْرُهُ فى العقد أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء ليُعْلِمَهُم بأنهم إن فعلوا ذلك فقد نقضوا عهدهم والله أعلم. وهذا مثل أن يشترط المبتاع على البائع أن لا داء ولا خبث ولا غائلة ولا عيب ثم إنه إن لم يشترط فله أن يرد بالعيب أيضا لأنه شرط فى نفس العقد فكل ما كان داخلا فى العقد فقد جاز اشتراطه ولم يضر ترك اشتراطه. وذلك أيضا مثل الرجل ينكح المرأة على أنه إن شاء أمسكها وحبسها لنفسه وإن كرهت وإن شاء طلقها أو خلعها وإن كرهت وإن شاء جامعها وإن كرهت وإن شاء سافر بها وإن كرهت وإن شاء نكح وتسرى عليها وإن كرهت ولا تملك فراقه لأن ذلك كله حق له بما قال الله سبحانه وتعالى فى كتابه وجاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة وأجمع عليه المسلمون فإن نكحها ولم يشترط شيئا من ذلك فهو كما لو اشترطه ولا يضره ذلك. وكذلك المرأة إذا نكحت فاشترطت عليه أن لها مهرها ولها النفقة بالمعروف وأن لها عليه أن يعاشرها بالمعروف فذلك كله جائز ولو لم تشترطه لم يضرها ذلك. فأما إذا اشترطت عليه أن لا يتزوج عليها ولا يسافر بها وغير ذلك مما ليس من حقها عليها لو لم تشترطه فالقول فيها إن شاء الله ما قال على بن أبى طالب كرم الله وجهه وبه يقول عامة أهل العلم وهو قول مالك وأصحابه والشافعى وأصحابه وأبى حنيفة وأصحابه ولم يزل عليه العمل فى بلاد المسلمين وجميع هؤلاء يقولون سبق شرط الله شرطها وليس لها مما اشترطت عليه شىء وله أن يتزوج عليها ويسافر بها وهذا قول قد دل على صحته عمل المسلمين به والحمد لله رب العالمين.