بسم الله الرحمن الرحيم
قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127
[مسألة الخيار في المصراة]
قال أبو بكر حدثنا وكيع حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار إن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر»
قال أبو بكر حدثنا وكيع عن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «من اشترى مصراة فهو فيها بخير النظرين إن ردها رد معها صاعا من طعام أو صاعا من تمر»
والرجل هو أبو هريرة والله أعلم.
قال أبو بكر: وذكر أن أبا حنيفة قال بخلافه
هذا الحديث لا يرويه غير أبى هريرة ولأجل هذا تركه أبو حنيفة وأصحابه عدا أبا يوسف لأنهم لا يأخذون بحديث أبى هريرة إلا ما وافق قياسهم بزعمهم وقالوا لا يكون له ردها ناقصة وقد أخذ اللبن الذى كان فيها عند البيع وإنما يرجع بأرش العيب. ثم إن أبا حنيفة زعم أنه يحتج بهذا الحديث فى أن لا يجوزُ خيارُ البيع فوق ثلاث لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لمشترى المصراة الخيار إلى ثلاث وهذا أيضا قول الشافعى وخالفهم فيه غيرهم. فترك أبو حنيفة أصل الحديث الذى عليه أكثر أهل العلم وادعى أنه منسوخ بزعمه ثم احتج به فيما خالفه فيه كثير من أهل العلم والله المستعان.
وقال سائر أهل العلم بجملة الحديث وهو قول مالك والشافعى وأحمد وإسحاق والليث بن سعد وابن أبى ليلى وأبى يوسف وزفر.
واختلفوا فى الوقت الذى يكون فيه لمشترى المصراة الخيار فقال الشافعى وأحمد ثلاثة أيام على ما جاء فى بعض روايات الحديث وإن كان قد تبين له العيب الذى بها قبل ثلاثة أيام. وقال مالك وأصحابه إذا تبين له العيب فإما أن يردها أو يمسكها ولا يكون له أن يردها بعد ذلك واحتجوا بالرواية التى ليس فيها ذكر ثلاثة أيام.
واختلفوا فيما يرده المشترى مع المصراة فقال مالك والشافعى وأحمد يرد معها صاعا من تمر وقال مالك إن له أن يرد صاعا من قوت أهل البلد سوى التمر وفى قول الشافعى وأحمد لا يجوز إلا التمر. وقال زفر يرد صاعا من تمر أو نصف صاع من بر. وقال أبو يوسف يرد ما حلب من اللبن أو ثمنه إن كان استهلكه.
قال سحنون: "قلت: أرأيت إن اشتريت شاة مصراة فحلبتها ثم حبستها حتى حلبتها الثانية ثم جئت لأردها أيكون ذلك لي؟ قال: نعم لك أن تردها وإنما يختبر ذلك الناس بالحلاب الثاني ولا يعرف بالأول.
قلت: فإن حلبتها ثلاث مرات؟
قال: إذا جاء من ذلك ما يعرف أنه قد اختبرها قبل ذلك فما حلب بعد ذلك فهو رضا منه بالشاة ولا يكون له أن يردها، قال: وهو رأيي.
قلت: أرأيت إن اشتريت شاة على أنها تحلب قسطا؟ قال: البيع جائز في رأيي، وتجرب الشاة فإن كانت تحلب قسطا وإلا ردها، قال: وقد جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «رد من الغنم ما لم تشترط فيها أنها تحلب كذا» وكذا إذا اشتراها وهي مصراة فهذه أحرى أن يردها إذا اشترط؛ لأنه جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيا أمسكها، وإن ردها رد معها صاعا من تمر» .
قلت: أكان مالك يأخذ بهذا الحديث؟ قال ابن القاسم: قلت لمالك: أتأخذ بهذا الحديث؟
قال: نعم. قال مالك: أَوَلِأَحَدٍ في هذا الحديث رأيٌ؟ قال ابن القاسم: وأنا آخذ به إلا أن مالكا قال لي: وأرى لأهل البلدان إذا نزل بهم هذا أن يعطوا الصاع من عيشهم. ومصرُ الحنطةُ هي عَيْشُهم.
قلت: أرأيت إن حلبها فلم يرض حلابها فأراد ردها واللبن قائم لم يأكله ولم يبعه ولم يشربه فقال: لي خذ شاتك وهذا لبنها الذي حلبت منها أيكون ذلك له أم يرد الصاع معها ويكون له اللبن أو لا يكون له أن يردها ويرد معها اللبن للحديث الذي جاء؟ قال: يكون عليه صاع وليس له أن يرد اللبن، ولو كان له أن يرد اللبن وإنما أريد بالحديث الصاع مكان اللبن إذا فات اللبن لكان عليه أن يرد لبنا مثله في مكيلته ولكنه حكم جاء عن النبي - عليه السلام - فإذا زايلها اللبن كان المشتري بالخيار إن شاء أن يمسكها أمسكها وإن شاء أن يردها ردها وصاعا معها من تمر وليس له أن يردها بغير صاع وإن كان معها لبن إلا أن يرضى البائع أن يقبلها بغير لبنها.
قلت: فإن قال: البائع أنا أقبلها بهذا اللبن الذي حلبت منها، قال: لا يعجبني ذلك لأني أخاف أن يكون ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفي؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض عليه صاعا من تمر إن سخط المشتري الشاة، فصار ثمنا قد وجب للبائع حين سخط المشتري الشاة صاع من تمر عليه يفسخه في صاع من لبن قبل أن يقبض الصاع الذي وجب له فهذا لا يجوز في رأيي.
ولم أسمع من مالك فيه شيئا." (المدونة - بيع الشاة المصراة)
قال الشافعى: "أخبرنا هشيم عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن ابن مسعود قال: من ابتاع مصراة فهو بالخيار إن شاء ردها وصاعا من طعام. وهكذا نقول وبهذا مضت السنة وهم يزعمون أنه إذا حلبها فليس له ردها لأنه قد أخذ منها شيئا" (الأم 7/185)
قال الشافعى: "فإن كان رضيها المشتري وحلبها زمانا ثم أصاب بها عيبا غير التصرية فله ردها بالعيب ويرد معها صاعا من تمر ثمنا للبن التصرية ولا يرد اللبن الحادث في ملكه؛ لأن «النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الخراج بالضمان»" (مختصر المزنى - باب بيع المصراة)
ولبن التصرية هو اللبن الذى كان فى ضرعها ساعة البيع فجعل الشافعى ثمنه صاعا من تمر. فأما ما حدث بعد ذلك من اللبن فهو للمشترى لأنه حادث فى ملكه وكان عليه ضمان الشاة أو الناقة أو البقرة لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى أن الخراج بالضمان.
قال الشافعى: "قال أفتوجدنا أن الناس يثبتون لأبي هريرة رواية لم يروها غيره أو لغيره؟ قلت نعم قال وأين هي؟ قلت قال أبو هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها» فأخذنا نحن وأنت به، ولم يروه أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تثبت روايته غيره قال أجل. ولكن الناس أجمعوا عليها فقلت فذلك أوجب للحجة عليك أن يجتمع الناس على حديث أبي هريرة وحده، ولا يذهبون فيه إلى توهينه بأن الله - عز وجل - يقول {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية. وقال {وأحل لكم ما وراء ذلكم} وقلت له وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا» فأخذنا بحديثه كله وأخذت بجملته فقلت الكلب ينجس الماء القليل إذا ولغ فيه، ولم توهنه بأن أبا قتادة روى «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهرة أنها لا تنجس الماء» ونحن وأنت نقول لا تؤكل الهرة فتجعل الكلب قياسا عليها فلا تنجس الماء بولوغ الكلب، ولم يروه إلا أبو هريرة فقال قبلنا هذا؛ لأن الناس قبلوه قلت فإذا قبلوه في موضع ومواضع وجب عليك وعليهم قبول خبره في موضع غيره، وإلا فأنت تحكم فتقبل ما شئت وترد ما شئت. فقال: قد عرفنا أن أبا هريرة روى أشياء لم يروها غيره مما ذكرت وحديث المصراة وحديث الأجير وغيره" (الأم 3/218)
وفى كتاب اختلاف أبى حنيفة وأبى ليلى: "وإذا اشترى المشتري بيعا على أن البائع بالخيار شهرا، أو على أن المشتري بالخيار شهرا فإن أبا حنيفة - رضي الله تعالى عنه - كان يقول البيع فاسد ولا يكون الخيار فوق ثلاثة أيام بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول «من اشترى شاة محفلة فهو بخير النظرين ثلاثة أيام إن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر، أو صاعا من شعير» فجعل الخيار كله على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن أبي ليلى يقول الخيار جائز شهرا كان، أو سنة وبه يأخذ يعنى أبا يوسف"
قال الشافعى فى اختلاف العراقيين: "وإذا اشترى الرجل العبد، أو أي سلعة ما اشترى على أن البائع بالخيار، أو المشتري، أو هما معا إلى مدة يصفانها فإن كانت المدة ثلاثا، أو أقل فالبيع جائز وإن كانت أكثر من ذلك بطرفة عين فأكثر فالبيع منتقض فإن قال قائل وكيف جاز الخيار ثلاثا ولم يجز أكثر من ثلاث؟ قيل لولا الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاز أن يكون الخيار بعد تفرق المتبايعين ساعة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل لهما الخيار إلى أن يتفرقا، وذلك أن رجلا لا يجوز أن يدفع ماله إلى البائع ويدفع البائع جاريته للمشتري فلا يكون للبائع الانتفاع بثمن سلعته ولا للمشتري أن ينتفع بجاريته، ولو زعمنا أن لهما أن ينتفعا زعمنا أن عليهما إن شاء أحدهما أن يرد رد فإذا كان من أصل مذهبنا أنه لا يجوز أن أبيع الجارية على أن لا يبيعها صاحبها لأني إذا شرطت عليه هذا فقد نقصته من الملك شيئا ولا يصلح أن أملكه بعوض آخذه منه إلا ما ملكه عليه تام فقد نقصته بشرط الخيار كل الملك حتى حظرته عليه وأصل البيع على الخيار لولا الخبر كان ينبغي أن يكون فاسدا؛ لأنا نفسد البيع بأقل منه مما ذكرت فلما شرط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «في المصراة خيار ثلاث بعد البيع» وروي عنه - عليه الصلاة والسلام - «أنه جعل لحبان بن منقذ خيار ثلاث فيما ابتاع» انتهينا إلى ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخيار ولم نجاوزه إذا لم يجاوزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن أمره به يشبه أن يكون كالحد لغايته من قبل أن المصراة قد تعرف تصريتها بعد أول حلبة في يوم وليلة وفي يومين حتى لا يشك فيها فلو كان الخيار إنما هو ليعلم استبانة عيب التصرية أشبه أن يقال له الخيار حتى يعلم أنها مصراة طال ذلك، أو قصر كما يكون له الخيار في العيب إذا علمه بلا وقت طال ذلك، أو قصر، ولو كان خيار حبان إنما كان لاستشارة غيره أمكنه أن يستشيره في مقامه وبعده بساعة وأمكن فيه أن يدع الاستشارة دهرا فكان الخبر دل على أن خيار ثلاث أقصى غاية الخيار فلم يجز لنا أن نجاوزه ومن جاوزه كان عندنا مشترطا بيعا فاسدا" (الأم 7/105)
قال ابن هانئ: "وسئل عمن باع مصراة؟
قال: هو بالخيار، إن شاء أمسكها المشتري، وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر، لابد.
قيل له: فإن أنفق عليها أكثر من ذلك؟
قال: إنما يحبسها ثلاثة أيام" (مسائل ابن هانئ 1203)
قال عبد الله: "سألت أبي عن حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى أن خراج العبد بضمانه.
قال: أذهب فيه إلى هذا الحديث في العبد، له وجهه، وفي المصراة يردها ويرد معها صاعا، له وجهه، ولهذا وجهه، أذهب إليهما جميعا" (مسائل عبد الله 1041)
وفى أصل محمد بن الحسن: "بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من اشترى شاة محفلة فهو بخير النظرين إلى ثلاثة أيام» وبلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جعل رجلا من الأنصار بالخيار في كل بيع يشتريه ثلاثة أيام.
والخيار عندنا ثلاثة أيام فما دونها، ولا يكون أكثر من ذلك. ولو جعلت المدة أكثر من ثلاثة أيام فلا خير فيه إن طالت المدة، فيدخل في هذا ما لا يحسن في طول المدة ويتغير المبيع، وهذا قول أبي حنيفة. وأما في قول أبي يوسف ومحمد فالخيار جائز وأن اشترط شهرا أو أكثر من ذلك بعد أن يبين ذلك إلى وقت معلوم" (الأصل – باب الخيار)
فاحتج أبو حنيفة بحديث أبى هريرة فى توقيت الخيار بثلاث فلما احتج به غيره عليها فى رد المصراة زعم أنه منسوخ.
وقد استقبح أبو جعفر الطحاوى أن يصرح برد حديث أبى هريرة فأخذ يجتهد فى رد هذا الحديث بما أنا ذاكره عنه إن شاء الله.
قال الطحاوى: "وخالف ذلك كله آخرون فقالوا: ليس للمشتري ردها بالعيب ولكنه يرجع على البائع بنقصان العيب. وممن قال ذلك أبو حنيفة ومحمد بن الحسن رحمة الله عليهما. وذهبوا إلى أن ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مما تقدم ذكرنا له في هذا الباب منسوخ. فروي عنهم هذا الكلام مجملا ثم اختلف عنهم من بعدهم في الذي نسخ ذلك ما هو؟" (شرح معانى الآثار 4/19)
وهذا من عجائبهم إذ ادعوا أن الحديث منسوخ بغير بينة ثم اجتهد أتباعهم من بعدهم فى معرفة ما نسخ هذا الحديث. وليس الأمر كذلك ولكنهم ردوه لأنه من حديث أبى هريرة.
قال الطحاوى: "فقال محمد بن شجاع فيما أخبرني عنه ابن أبي عمران نسخه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم من هذا الكتاب. فلما قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرقة الخيار ثبت بذلك أنه لا خيار لأحد بعدها إلا لمن استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله «إلا بيع الخيار» . قال أبو جعفر: وهذا التأويل عندي فاسد لأن الخيار المجعول في المصراة إنما هو خيار عيب وخيار العيب لا يقطعه الفرقة. ألا ترى أن رجلا لو اشترى عبدا فقبضه وتفرقا ثم رأى به عيبا بعد ذلك أن له رده على بائعه باتفاق المسلمين لا يقطع ذلك التفرق الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآثار المذكورة عنه في ذلك. فكذلك المبتاع للشاة المصراة فإذا قبضها فاحتلبها فعلم أنها على غير ما كان ظهر له منها وكان ذلك لا يعلمه في احتلابه مرة ولا مرتين جعلت له في ذلك هذه المدة وهي ثلاثة أيام حتى يحلبها في ذلك فيقف على حقيقة ما هي عليه. فإن كان باطنها كظاهرها فقد لزمته واستوفى ما اشترى. وإن كان ظاهرها بخلاف باطنها فقد ثبت العيب ووجب له ردها به. فإن حلبها بعد الثلاثة أيام فقد حلبها بعد علمه بعيبها فذلك رضاء منه بها. فلهذه العلة التي ذكرت وجب فساد التأويل الذي وصفت" (شرح معانى الآثار 4/19)
وهذا أيضا من قلة الإنصاف لأنهم لا يأخذون بحديث «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» ويزعمون أنه منسوخ ويتأولونه ليصرفوه عن ظاهره فكيف يكون ناسخا عندهم لحديث المصراة ثم يقولون هو أيضا منسوخ؟
قال: "وقال عيسى بن أبان: كان ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحكم في المصراة بما في الآثار الأول في وقت ما كانت العقوبات في الذنوب يؤخذ بها الأموال. فمن ذلك ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة أنه «من أداها طائعا فله أجرها وإلا أخذناها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل» ومن ذلك ما روي عنه في حديث عمرو بن شعيب في سارق الثمرة التي لم تحرز فإنه يضرب جلدات ويغرم مثليها. وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في باب وطء الرجل جارية امرأته، فأغنانا ذلك عن إعادة ذكرها هاهنا. قال: فلما كان الحكم في أول الإسلام كذلك حتى نسخ الله الربا أفردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كانت لها أمثال وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التصرية وروي عنه في ذلك فذكر ما قد حدثنا الربيع المؤذن قال: ثنا أسد قال: ثنا المسعودي عن جابر الجعفي عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن بيع المحفلات خلابة ولا يحل خلابة مسلم» فكان من فعل ذلك وباع ما قد جعل يبيعه إياه مخالفا لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وداخلا فيما نهى عنه فكانت عقوبته في ذلك أن يجعل اللبن المحلوب في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمر ولعله يساوي آصعا كثيرة ثم نسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي وردت الأشياء إلى ما ذكرنا. فلما كان ذلك كذلك ووجب رد المصراة بعينها وقد زايلها اللبن علمنا أن ذلك اللبن الذي أخذه المشتري منها قد كان بعضه في ضرعها في وقت وقوع البيع عليها فهو في حكم المبيع وبعضه حدث في ضرعها في ملك المشتري بعد وقوع البيع عليها فذلك للمشتري. فلما لم يكن رد اللبن بكماله على البائع إذا كان بعضه بما لم يملك بيعه ولم يمكن أن يجعل اللبن كله للمشتري إن كان ملك بعضه من قبل البائع ببيعه إياه الشاة التي قد ردها عليه بالعيب وكان ملكه له إياه بجزء من الثمن الذي كان وقع به البيع فلا يجوز أن يرد الشاة بجميع الثمن ويكون ذلك اللبن سالما له بغير ثمن. فلما كان ذلك كذلك منع المشتري من ردها ورجع على بائعه بنقصان عيبها قال عيسى: فهذا وجه حكم بيع المصراة" (شرح معانى الآثار 4/20)
وليس الذى قال كما قال لأن اللبن الذى يرد لأجله المشترى صاعا من تمر إنما هو لبن التصرية الذى كان فيها ساعة صفقة البيع فأما ما حدث بعده من اللبن فهو للمشترى بالضمان ولا يرد به شيئا. وأما ما رواه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بيع المحفلات خلابة ولا يحل خلابة مسلم» فلسنا ندفع هذا ولا ننكره وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغش والتدليس فى المصراة وغير المصراة وليس ينفى ذلك أن من ابتاع معيبا فله أن يرده بالعيب ولا ينافى ذلك ما جاء فى المصراة لأنها مخصوصة بما جاء فيها من السنة الثابتة كما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم العرايا من نهيه عن المزابنة وكلٌ سنةٌ يجب الأخذ بها ولا عذر لأحد فى ترك واحدة منهما.
قال أبو جعفر: "والذي قال عيسى من هذا يحتمل ما قال غير أني رأيت في ذلك وجها هو أشبه عندي بنسخ هذا الحديث من ذلك الوجه الذي ذهب إليه عيسى. وذلك أن لبن المصراة الذي احتلبه المشتري منها في الثلاثة الأيام التي احتلبها فيها قد كان بعضه في ملك البائع قبل الشراء وحدث بعضه في ملك المشتري بعد الشراء إلا أنه قد احتلبها مرة بعد مرة. فكان ما كان في يد البائع من ذلك مبيعا إذا أوجب نقض البيع في الشاة وجب نقض البيع فيه. وما حدث في يد المشتري من ذلك فإنما كان ملكه بسبب البيع أيضا وحكمه حكم الشاة لأنه من بدنها هذا على مذهبنا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لمشتري المصراة بعد ردها جميع لبنها الذي كان حلبه منها بالصاع من التمر الذي أوجب عليه رده مع الشاة. وذلك اللبن حينئذ قد تلف أو تلف بعضه فكان المشتري قد ملك لبنا دينا بصاع تمر دين فدخل ذلك في بيع الدين بالدين ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد عن بيع الدين بالدين.
حدثنا أبو بكرة، وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم، قال أبو بكرة في حديثه: أخبرنا موسى بن عبيدة، وقال ابن مرزوق في حديثه عن موسى بن عبيدة الزيدي، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ.
يعني: الدين بالدين. فنسخ ذلك ما كان تقدم منه مما روي عنه في المصراة مما حكمه حكم الدين" (شرح معانى الآثار 4/20)
ليس فى ما احتج به الطحاوى حجة لأن التمر الواجب على من رد المصراة حالٌّ ليس بدين. ألا ترى أن رجلا لو كان له دنانير حالَّة على رجل من بيع متقدم فلما أتاه ليقبضها منها تراضيا على أن يصرفها منه بدراهم يقبضها قبل أن يتفرقا فإن ذلك جائز ولا يجوز ذلك إذا كانت الدنانير إلى أجل غير حالَّة؟ ثم لو كان دينا بدين لكان مخصوصا بما جاء فيه من الحديث ويكون ما سواه من الدين بالدين ممنوعا وهذا غير ممتنع.
وحديث النهى عن الدين بالدين لا يروى بسند صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه مما أجمع الفقهاء على القول به وتثبيته وإن كان لم يصح سنده وهذا حجة على قرامطة نجد الوهابية الذين جَهَّلُوا أهلَ العلم جميعا وزعموا أن قولهم لا يلزمهم وأنهم لا يأخذون إلا بالحديث الذى رواه العدول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم هم يقولون بهذا الحديث وحديث طلاق الهازل ولا يُرويان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه يصح لكن أجمع أهل العلم على القول بهما فكان يلزمهم على أصل مذهبهم أن لا يقولوا بشىء من ذلك.
قال الطحاوى: "ويقال للذي ذهب إلى العمل بما روي في المصراة مما قد ذكرناه في أول هذا الباب قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «الخراج بالضمان» وعملت بذلك العلماء.
قال: فتلقى العلماء هذا الخبر بالقبول وزعمت أنت أن رجلا لو اشترى شاة فحلبها ثم أصاب بها عيبا غير التحفيل أنه يردها ويكون اللبن له. وكذلك لو كان مكان اللبن ولد ولدته ردها على البائع وكان الولد له وكان ذلك عندك من الخراج الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم للمشتري بالضمان. فليس يخلو الصاع الذي توجبه على مشتري المصراة إذا ردها إلى البائع بالتصرية أن يكون عوضا من جميع اللبن الذي احتلبه منها الذي كان بعضه في ضرعها في وقت وقوع البيع وحدث بعضه في ضرعها بعد البيع أو يكون عوضا من اللبن الذي كان في ضرعها في وقت وقوع البيع خاصة. فإن كان عوضا منهما فقد نقضت بذلك أصلك الذي جعلت له الولد واللبن للمشتري بعد الرد بالعيب لأنك جعلت حكمها حكم الخراج الذي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم للمشتري بالضمان. وإن كان ذلك الصاع عوضا مما كان في ضرعها في وقت وقوع البيع خاصة والباقي سالم للمشتري لأنه من الخراج فقد جعلت للبائع صاعا دينا بلبن دين وهذا غير جائز في قولك ولا في قول غيرك. فعلى أي الوجهين كان هذا المعنى عليه عندك فأنت به تارك أصلا من أصولك. وقد كنت أنت بالقول بنسخ هذا الحكم في المصراة أولى من غيرك لأنك أنت تجعل اللبن في حكم الخراج وغيرك لا يجعله كذلك" (شرح معانى الآثار 4/21)
يقصد أبو جعفر بكلامه هذا الشافعى رحمه الله وقد رد الشافعى على هذا ومثله بأنه إذا صحت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال به أهل العلم فلا معنى للقياس مع قوله صلى الله عليه وسلم وليس فى سنته إلا اتباعها ولهذا أجاز الشافعى المساقاة فى النخل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى العنب قياسا على النخل وأصل قوله أن المساقاة غير جائزة إلا أن يأتى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بخلاف ذلك فليس فى سنته إلا اتباعها والله أعلم.