بسم الله الرحمن الرحيم
احتلف أهل العلم فى تارك الصلاة عمدا من غير جحود فقال أكثرهم ليس بكافر وهو قول مالك والشافعى وأبى حنيفة وابن المنذر وهو قول لأحمد وبه أقول. وقال إسحاق وأحمد فى قوله المشهور عنه إنه كافر. ثم اختلف من لم يكفره فى عقوبته فقال مالك والشافعى يقتل وقال الزهرى وأبو حنيفة وأصحابه وابن المنذر يحبس ويضرب ولا يقتل وهذا قول حسن والله أعلم.
الرابط على الأرشيف:
الخلاف فى تارك الصلاة : Free Download, Borrow, and Streaming : Internet Archive
الخلاف فى تارك الصلاة
أجمع أهل العلم على أن أعظم الذنب بعد الكفر بالله تعالى ترك الصلاة وأجمعوا على أن تارك الصلاة شر من القاتل والزانى والسارق.
قال أبو بكر حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة»
قال أبو بكر حدثنا يحيى بن واضح عن حسين بن واقد قال: سمعت ابن بريدة يقول: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر»
قال أحمد فى عبد الله بن بريدة: "روى عنه حسين بن واقد أحاديث ما أنكرها"
قال أبو بكر حدثنا شريك عن عاصم عن زر عن عبد الله قال: «من لم يصل فلا دين له»
قال أبو بكر حدثنا عيسى ووكيع عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المهاجر عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك العصر فقد حبط عمله»
روى عبد الرزاق عن الثوري عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ترك الصلاة شرك»
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: «لا حظ في الإسلام لأحد ترك الصلاة»
قال الشافعى: "الصلاة التي هي أبين ما افترض الله عز وجل عليه بعد توحيد الله وشهادة أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بما جاء به من الله تبارك وتعالى" (الأم 1/292)
واختلف أهل العلم فى كفر تارك الصلاة فقال أحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث إن تارك الصلاة كافر لما جاء فى ذلك من الأثر وادعى بعضهم الإجماع عليه وغَلَّطَ أحمدُ من ادعى الإجماع على كفره غير أنه أحمد ادعى الإجماع على قتله وهذا خطأ أيضا وبقول هؤلاء قال عبد الملك بن حبيب من أصحاب مالك.
وقال مالك والشافعى وأبو حنيفة والزهرى وسائر أهل العلم إن تارك الصلاة وهو مقر بوجوبها ليس بكافر. وهو أيضا قول لأحمد. وهذا يدل على بطلان دعوى الإجماع على كفر تارك الصلاة وكيف يكون إجماع وعامة أهل العلم على خلافه.
بل كيف يكون إجماع على كفر تارك الصلاة ثم يختلف القائلون به فى الترك الذى يخرج صاحبه من الملة فقال بعضهم من ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها فقد كفر ومنهم من جعل وقت الظهر والعصر ووقت المغرب والعشاء فى التكفير واحدا فلا يكفر تارك الظهر حتى يخرج وقت العصر ولا يكفر تارك المغرب حتى يخرج وقت العشاء وتارك الفجر حتى يخرج وقتها كافر. ومنهم من قال لا يكفر حتى يتركها ثلاثة أيام. ومنهم من قال إذا تركها بالكلية فهو كافر وإلا فهو عاص وليس بكافر ولم يبين ما الترك المخرج من الملة عنده؟ أرأيت إن قال لك قائل: من ترك الصلاة ثلاثة أيام فقد كفر. وقال آخر: سبعة أيام. وقال غيرهما: شهر. لم يزد صاحب هذا القول أن كفر المسلمين بالرأى والتخرص ولعل تارك الصلاة خمسة أيام عند بعضهم كافر لأنه زاد عن ثلاث ومسلم عند غيرهم لأنهم لم يكمل خمسا.
ثم اختلف من قال إنه ليس بكافر فى عقوبته فقال مالك والشافعى: إن صلى وإلا قُتِل. وقال أبو حنيفة وأصحابه يحبس ويُضرب حتى يصلى وبه يقول ابن المنذر وهو قول حسن.
وقد غلط بعض الناس على الشافعى فنسبوا إليه القول بكفر تارك الصلاة وأخطأوا فهم جملة فى مختصر المزنى تشبه ما ذهبوا إليه وليس الذى قالوا كما قالوا وقول الشافعى فى غير موضع من كتابه أن تارك الصلاة ليس بكافر وهو قول المزنى وسائر أصحابه ونسبه إليه ابن المنذر ومحمد بن نصر.
وقد غلط الطحاوى أيضا على مالك والشافعى فنسب إليهما الكفر بترك الصلاة وهذا خطأ ولعله بلغه ذلك من بعض من ينتحل مذاهبهم ويقول بكفر تارك الصلاة فظن أنهم لم يأخذوه إلا عنهما فنسبه إليهما.
وقد تأول أكثر أهل العلم ما جاء من الآثار فى تكفير تارك الصلاة أنه كفر دون كفر كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أتى عرافا فسأله فصدقه فقد كفر وهذا عند أهل العلم كفر لا يخرج من الملة.
قال ابن أبى زيد: "ومن العتبية قال ابن القاسم عن مالك: ومن ترك الصلاة قيل له: صل. فإن صلى، وإلا قتل. ومن قال: لا أصلي. استتيب، فإن صلى وإلا قتل. وكذلك من قال: لا أتوضأ. قال ابن الماجشون، وأصبغ: إن قال: لا أجحدها، ولا أصلي. قتل.
قال ابن شهاب: إذا خرج الوقت، ولم يصل، قتل.
قال محمد: وقاله حماد بن زيد، وقال: تركها كفر يختلفون فيه. قال ذلك أيوب. فقال محمد: إن ترك صلاة واحدة حل دمه.
قال ابن حبيب: من تركها مكذبا أو متهاونا أو مفرطا، أو مضيعا، فهو بذلك كافر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة». فإن رفع إلى الإمام فعاود ما تركه فإن عاد إلى تركها فأوقفه. فقال: أنا أصلي. فليبالغ في عقوبته حتى يظهر إنابته.
فإن قال: هي فرض، ولكن لا أصلي. قتل، ولا يستتاب ثلاثا، كذب بها أو أقر، إذا قال: لا أصلي. ولا يؤخر عن وقت تلك الصلاة.
وكذلك من قال عند الإمام: لا أتوضأ، ولا أغتسل من جنابة، ولا أصوم رمضان.
ومن توضأ وصلى واغتسل وصام، وقال في ذلك كله إنه غير فرض علي. وكذب به، فهي ردة، فليستتب ثلاثا، فإن لم يتب قتل. وإن كذب بالحج فكذلك. وإن أقر به، وقال: لا أحج. قيل له: أبعدك الله. إذ ليس لضيق الوقت. وإن كذب بالزكاة استتيب كالردة. وإن أقر بها، ومنعها، أخذت منه كرها، فإن امتنع قوتل.
وذهب ابن حبيب أن تارك الصلاة متعمدا أو مفرطا كافر، وأنه إن ترك أخواتها متعمدا، من زكاة، وصوم، وحج، فقد كفر. قال: وقاله الحكم بن عتيبة.
وقال غير ابن حبيب: إنه لا يكفر إلا بجحد هذه الفرائض، وإلا فهو ناقص الإيمان؛ ولأنه يوارث، ويصلى عليه، واحتج بحديث مالك، عن عبادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة». وفي آخر الحديث: «ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة». وهذا يبين معنى الحديث الذي ذكره ابن حبيب. والله أعلم" (النوادر والزيادات 1/150)
وهذا الذى ذكره عن الزهرى من قتل تارك الصلاة من غير جحود لا يصح عنه والله أعلم بل قد صح عنه خلافه.
روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: "من شرب في رمضان، فإن كان ابتدع دينا غير الإسلام استتيب، وإن كان فاسقا من الفساق جلد ونكل وطوف وسمع به، والذي يترك الصلاة مثل ذلك"
قال ابن رشد: "مسألة: وسئل عن المرأة الناشز التي تقول: لا أصلي، ولا أصوم، ولا أستحم من جنابة، هل يجبر زوجها على فراقها؟ قال: لا يجبر على فراقها، ولكن إن شاء فارقها وحل له ما افتدت به من شيء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يجبر على فراقها، ولا يجب ذلك عليه، إذ ليست بكافرة مرتدة بتركها الصلاة والصيام والغسل من الجنابة، إذا كانت مقرة بفرض ذلك، على الصحيح من الأقوال، فله أن يؤدبها على ترك الصلاة ويمسكها؛ قال الله عز وجل: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} وقال: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة} فإن افتدت منه لتأديبه إياها على ترك الصلاة والصيام، حل له أن يقبل منها الفداء، إذا لم يؤدبها لذلك، وقد مضى في رسم باع غلاما، من سماع ابن القاسم، بيان هذا المعنى، وبالله التوفيق" (البيان والتحصيل 5/256)
وهذه امرأة نشزت على زوجها تريده أن يخلعها فأبى عليها فتركت الصلاة تظن أن ذلك يفرق بينهما وقد أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يُجبر على فراق امرأته ولو كان أبغض الناس إليها ولو بذلت له كل أموال الدنيا لأن النكاح عقد ملك لازم يملك به الرجل أمر امرأته فلا تملك أن تفارقه وكما لا يملك أن يأخذ منها المهر لو كرهها ولو قضى له به قاض كان باطلا وكان المهر لها بحاله فكذلك إذا كرهته هى وهو مؤد إليها حقها فلا تملك أن تفارقه ولو قضى لها قاض بذلك كان قضاؤه باطلا.
قال الشافعى: "فمن ذلك من ملك زوجة سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عليه أن يخيرها في المقام معه أو فراقها له وله حبسها إذا أدى إليها ما يجب عليه لها وإن كرهته" (الأم 5/150) يعنى أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه وكان ذلك مرة واحدة.
قال الشافعى: "وإن خلع أبو الصبي أو المعتوه أو وليه عنه امرأته أو أبا امرأته فالخلع باطل والنكاح ثابت، وما أخذا من المرأة أو وليها على الخلع فهو مردود كله وهي امرأته بحالها وكذلك إن كان مغلوبا على عقله أو غير بالغ فخالع عن نفسه فهي امرأته بحالها، وكذلك سيد العبد إن خالع عن عبده بغير إذنه لأن الخلع طلاق فلا يكون لأحد أن يطلق عن أحد أب ولا سيد ولا ولي ولا سلطان إنما يطلق المرء عن نفسه أو يطلق عليه السلطان بما لزمه من نفسه إذا امتنع هو أن يطلق وكان ممن له طلاق وليس الخلع من هذا المعنى بسبيل" (الأم 5/214)
قوله: "أو يطلق عليه السلطان بما لزمه من نفسه إذا امتنع هو أن يطلق وكان ممن له طلاق" يعنى المولى لأنه ألزم نفسه بالطلاق حين آلى من امرأته ثم أبى الفيئة بعد أربعة أشهر ولا يطلق السلطان عند الشافعى على أحد أبدا إلا المولى. وكل فرقة أجبر عليها الرجل عنده فهى فسخ ولا يكون يفسخ السلطان عنده إلا فى العيوب الأربع والأمة تعتق تحت عبد والتقصير فى الكفاءة والغرور فى الحرية والنسب والعجز عن المهر والنفقة.
قال الشافعى: "من ترك الصلاة المكتوبة ممن دخل في الإسلام قيل له لم لا تصلي؟ فإن ذكر نسيانا قلنا فصل إذا ذكرت، وإن ذكر مرضا قلنا فصل كيف أطقت قائما أو قاعدا أو مضطجعا أو موميا فإن قال أنا أطيق الصلاة، وأحسنها، ولكن لا أصلي وإن كانت علي فرضا قيل له الصلاة عليك شيء لا يعمله عنك غيرك، ولا تكون إلا بعملك فإن صليت، وإلا استتبناك فإن تبت، وإلا قتلناك فإن الصلاة أعظم من الزكاة" (الأم - الحكم في تارك الصلاة)
الاستتابة ههنا ليست للكفر بل لترك الصلاة.
قال الشافعى: " والحجة فيها ما وصفت من أن أبا بكر - رضي الله عنه – قال: «لو منعوني عقالا مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه لا تفرقوا بين ما جمع الله» (قال الشافعي) : يذهب فيما أرى، والله تعالى أعلم إلى قول الله تبارك وتعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وأخبر أبو بكر أنه إنما يقاتلهم على الصلاة والزكاة، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا من منع الزكاة إذ كانت فريضة من فرائض الله جل ثناؤه، ونصب دونها أهلها فلم يقدر على أخذها منهم طائعين، ولم يكونوا مقهورين عليها فتؤخذ منهم كما تقام عليهم الحدود كارهين وتؤخذ أموالهم لمن وجبت له بزكاة أو دين كارهين أو غير كارهين فاستحلوا قتالهم والقتال سبب القتل فلما كانت الصلاة، وإن كان تاركها في أيدينا غير ممتنع منا فإنا لا نقدر على أخذ الصلاة منه لأنها ليست بشيء يؤخذ من يديه مثل اللقطة، والخراج، والمال" (الأم - الحكم في تارك الصلاة)
الذى يذهب إليه الشافعى أن مانعى الزكاة لم يكونوا كفارا بمنعها ولكنهم كانوا بغاة مستحقين للقتال لقول الله تعالى: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله}
قال الشافعى: "وأهل الردة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربان، منهم قوم أغروا بعد الإسلام مثل طليحة ومسيلمة والعنسي وأصحابهم ومنهم قوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات فإن قال قائل ما دل على ذلك والعامة تقول لهم أهل الردة؟ (قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : فهو لسان عربي فالردة الارتداد عما كانوا عليه بالكفر والارتداد بمنع الحق قال ومن رجع عن شيء جاز أن يقال ارتد عن كذا وقول عمر لأبي بكر أليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» في قول أبي بكر هذا من حقها لو منعوني عناقا مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه معرفة منهما معا بأن ممن قاتلوا من هو على التمسك بالإيمان ولولا ذلك ما شك عمر في قتالهم ولقال أبو بكر قد تركوا لا إله إلا الله فصاروا مشركين وذلك بين في مخاطبتهم جيوش أبي بكر وأشعار من قال الشعر منهم ومخاطبتهم لأبي بكر بعد الإسار.
قال: وقالوا لأبي بكر بعد الإسار ما كفرنا بعد إيماننا ولكن شححنا على أموالنا" (الأم 4/227)
وكما قال الشافعى أقول وهو قول أكثر أهل العلم فى من امتنع عن الزكاة أو غيرها من الشرائع ونصب دونها فإنه يُقاتل ولا يكون كافرا. وقال أحمد إن من منع الزكاة وقاتل دونها لم يصل عليه فيشبه أن يكون كفره فمنع من الصلاة عليه وأما ما سواها من الشرائع فمن قاتل على منعها لم يكن كافرا عند عامة أهل العلم. ونسب بعض الناس إلى ابن تيمية أن كل طائفة امتنعت عن شعائر الإسلام الظاهرة فهى كافرة ولا يصح ذلك عن ابن تيمية وقوله كقول أهل العلم سواء.
قال الشافعى: "قلنا إن صليت وإلا قتلناك. كما يَكْفُرُ فنقول إن قبلت الإيمان وإلا قتلناك إذ كان الإيمان لا يكون إلا بقولك. وكانت الصلاة والإيمان مخالفين معا ما في يديك وما نأخذ من مالك لأنا نقدر على أخذ الحق منك في ذلك، وإن كَرِهْت" (الأم 1/292)
هذا الموضع الذى غلط فيه بعض الناس على الشافعى فظنوا أن قوله: "قلنا إن صليت وإلا قتلناك. كما يَكْفُرُ" معناه أنه يكفر بترك الصلاة وليس الذى قالوا كما قالوا ولو أنهم قرأوا ما قبلها وما بعدها وفهموا الكلام على وجهه لزال عنهم التوهم.
أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا امتنع عن أداء ما وجب عليه فى ماله وهو قادر على أدائه وقدر عليه السلطان فإنه لا يقتله ولكن يحبسه ويضربه حتى يؤدى ما وجب عليه فى ماله وإن وجد السلطان له مالا أدى ما عليه منه وإن وجد له عروضا باع عروضه وأدى من ثمنها لأنه حق قد وجب عليه وهو يقدر على أدائه فلا بد أن يؤديه بكل حال. أما الصلاة فإنه لا يمكن أن يجبره السلطان عليها لأن الصلاة لا تكون إلا بعمل بدنه فلما افترقت عن المال قيل له إن الصلاة لا نقدر على أخذها منك فإن صليت وإلا قتلناك. وشبهها الشافعى بالإيمان وذلك أن السلطان لا يملك أن يأخذه من أحد كما يأخذ ماله ولكن يقول لمن ارتد عن الإسلام إن أسلمت وإلا قتلناك. وهذا الذى احتج به الشافعى ليس عندى بحجة لأنه قد يؤاجر نفسه ثم يمتنع عن الإجارة فيحبسه السلطان ويضربه حتى يؤديها وهى عمل بدنه لا يستطيع السلطان أن يأخذها كما يأخذ ماله.
قال الشافعى: "وقد قيل يستتاب تارك الصلاة ثلاثا، وذلك إن شاء الله تعالى حسن فإن صلى في الثلاث، وإلا قتل" (الأم 1/292)
وهذا يدل على أن تارك الصلاة عنده ليس بكافر لأن الشافعى لا يرى أن يستتاب المرتد ثلاثا بل يقتل مكانه بكل حال. فإن قال قائل: فإن المزنى قد أنكر على الشافعى تفريقه بين المرتد وبين تارك الصلاة فى استتابته ثلاثا. قيل له: ولست أدفع هذا وإنما أنكر المزنى أن الشافعى قال فى المرتد إنه لا يستتاب ثلاثا لأن الحديث جاء بقتله وليس فيه ذكر إمهاله ثلاثا فلما رأى القتل على تارك الصلاة كان يجب على قياس قوله أن يقتل مكانه ولا يستتاب. وقد أنكر المزنى أيضا على الشافعى قوله فى من عجز عن نفقة امرأته إنه يؤجل ثلاثا فإن وجد ما ينفق عليها وإلا كان لها فراقه وقال المزنى ليس فى الإمهال نص. وقول الشافعى له وجه أغفله المزنى والله أعلم لأن قتل المرتد ثابت بالنص ولم يأت فى استتابته حديث صحيح أما تارك الصلاة والمعسر بنفقة امرأته فليس فيهما نص وإنما هو رأى رآه بعض العلم فرأى الشافعى أن يمهلهما ثلاثا فإن صلى التارك وأيسر المعسر فى الثلاث خرجنا من اختلاف أهل العلم وهذا قول له وجه من النظر والله أعلم.
قال الشافعى: "وقد خالفنا بعض الناس فيمن ترك الصلاة إذا أُمِرَ بها، وقال: لا أصليها فقال: لا يقتل، وقال بعضهم: أضربه وأحبسه، وقال بعضهم أحبسه، ولا أضربه، وقال بعضهم لا أضربه، ولا أحبسه، وهو أمين على صلاته (قال الشافعي) : فقلت لمن يقول لا أقتله: أرأيت الرجل تحكم عليه بحكم برأيك وهو من أهل الفقه فيقول قد أخطأت الحكم، ووالله لا أسلم ما حكمت به لمن حكمت له قال فإن قدرت على أخذه منه أخذته منه، ولم ألتفت إلى قوله، وإن لم أقدر، ونصب دونه قاتلته حتى آخذه أو أقتله فقلت له: وحجتك أن أبا بكر قاتل من منع الزكاة، وقتل منهم، قال: نعم، قلت: فإن قال لك: الزكاة فرض من الله لا يسع جهله، وحكمك رأي منك يجوز لغيرك عندك، وعند غيرك أن يحكم بخلافه فكيف تقتلني على ما لست على ثقة من أنك أصبت فيه كما تقتل من منع فرض الله عز وجل في الزكاة الذي لا شك فيه؟ قال: لأنه حق عندي وعلي جبرك عليه.
(قلت) : قال لك، ومن قال لك إن عليك جبري عليه؟ قال: إنما وضع الحكام ليجبروا على ما رأوا (قلت) : فإن قال لك: علي ما حكموا به من حكم الله أو السنة أو ما لا اختلاف فيه؟ قال: قد يحكمون بما فيه الاختلاف (قلت) : فإن قال: فهل سمعت بأحد منهم قاتل على رد رأيه فتقتدي به؟ فقال: وأنا لم أجد هذا فإني إذا كان لي الحكم فامتنع منه قاتلته عليه (قلت) : ومن قال لك هذا؟ (وقلت) : أرأيت لو قال لك قائل: من ارتد عن الإسلام إذا عرضته عليه فقال قد عرفته، ولا أقول به أحبسه وأضربه حتى يقول به. قال: ليس ذلك له لأنه قد بدل دينه، ولا يقبل منه إلا أن يقول به. قلت: أفتعدو الصلاة إذ كانت من دينه، وكانت لا تكون إلا به كما لا يكون القول بالإيمان إلا به أن يقتل على تركها أو يكون أمينا فيها كما قال بعض أصحابك: فلا نحبسه، ولا نضربه؟ قال لا يكون أمينا عليها إذا ظهر لي أنه لا يصليها، وهي حق عليه قلت أفتقتله برأيك في الامتناع من حكمك برأيك، وتدع قتله في الامتناع من الصلاة التي هي أبين ما افترض الله عز وجل عليه بعد توحيد الله وشهادة أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بما جاء به من الله تبارك وتعالى" (الأم 1/292)
هذا بين جدا فى أن الشافعى لا يرى كفر تارك الصلاة وذلك أنه لو كان كافرا لاحتج على مخالفه بأن المرتد عندنا وعندك يستتاب فإن تاب وإلا قتل ولما قال: "أو يكون أمينا فيها"
قال الشافعى: "حضور الجمعة فرض فمن ترك الفرض تهاونا كان قد تعرض شرا إلا أن يعفو الله كما لو أن رجلا ترك صلاة حتى يمضي وقتها كان قد تعرض شرا إلا أن يعفو الله" (الأم 1/239)
قال الشافعى: "فذهب بعض أهل الكلام إلى معنى سأصف ما كلمني به ومن قال قوله، فزعم أن فرض الحج على المستطيع إذا لزمه في وقت يمكنه أن يحج فيه فتركه في أول ما يمكنه كان آثما بتركه، وكان كمن ترك الصلاة وهو يقدر على صلاتها حتى ذهب الوقت، وكان إنما يجزئه حجه بعد أول سنة من مقدرته عليه قضاء كما تكون الصلاة بعد ذهاب الوقت قضاء، ثم أعطانا بعضهم ذلك في الصلاة إذا دخل وقتها الأول فتركها، فإن صلاها في الوقت، وفيما نذر من صوم، أو وجب عليه بكفارة أو قضاء، فقال فيه كله متى أمكنه فأخره فهو عاص بتأخيره" (الأم 2/129)
الذى يذهب إليه الشافعى أن من أخر الحج وهو يقدر عليه فليس بآثم وأن الحج لا يلزم أحدا إلا يعد أن يموت وقد كان وجب عليه الحج قبل أن يموت فيجزئه أن يحج عنه غيره بعد موته. ولا يُحِبُّ الشافعى لأحد قدر على الحج وهو حى أن يتخلف عنه بحال.
وهذا أيضا يدل على مباغضة الشافعى لأهل الكلام والعيب على طريقتهم وكان يعيب عليهم أنهم ينكرون السنن فمن ذلك قوله: "وما علمت من رد الأحاديث من أهل الكلام تروحوا من الحجة علينا إلى شيء" (الأم 2/126) مع أن أهل الكلام هؤلاء لم يكونوا قد أظهروا بعد القول بخلق القرآن وإنكار العلو والصفات ثم يأتى متكلم أشعرى وينتسب إلى الشافعى والشافعى منه برىء.
قال الطحاوى: "قال أبو حنيفة وأصحابه من ترك من المسلمين الصلاة على غير جحودها لم يكن بذلك مرتدا وكان مأخوذا بها حتى يصليها
وقال بعض حفاظ قول مالك إن من مذهب مالك أن من ترك صلاة متعمدا لغير عذر حتى خرج وقتها فهو مرتد ويقتل إلا أن يصليها وهو قول الشافعي" (مختصر اختلاف العلماء - في تارك الصلاة عامدا)
وما نسبه إلى مالك والشافعى خطأ وقد نقلت عنهم خلافه وهو قول أصحابهم.
قال الطحاوى: "وقد اختلف أهل العلم في تارك الصلاة كما ذكرنا، فجعله بعضهم بذلك مرتدا عن الإسلام، وجعل حكمه حكم من يستتاب من ذلك، فإن تاب وإلا قتل، منهم الشافعي، ومنهم من لم يجعله بذلك مرتدا، وجعله من فاسقي المسلمين وأهل الكبائر منهم، وممن قال بذلك أبو حنيفة رحمه الله، وأصحابه" (شرح مشكل الآثار 8/204)
وهذا أيضا خطأ على الشافعى ومذهبه أن تارك الصلاة ليس بكافر.
قال صالح: "قلت: رجل فرط في الصلاة، فلما أدركه الموت أقر بذلك؟
فقال: الصلاة لا تقضى، ولكن يصدق عنه.
قلت: فإنه تركها ولم يصل؟
قال: إذا كان عامدا استتبته ثلاثا، فإن تاب وإلا قتل.
قلت: فتوبته أن يصلي؟ قال: نعم" (مسائل صالح 295)
يشبه أن يكون أحمد لم يكفره بترك الصلاة لأنه لو كان كافرا بتركها لم يقل: "الصلاة لا تقضى" أو أنه جعله مسلما حين ندم على تركها وهذا خلاف قوله إن توبته أن يصلى. أو يكون جعل توبة العاجز عن الصلاة الندم.
قال ابن هانئ: "قال أبو عبد الله: من ترك الصلاة فقد كفر" (مسائل ابن هانئ 1876)
قال أبو بكر الخلال: "وقال: أخبرني محمد بن موسى ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا أبو الحارث أنه قال لأبي عبد الله: فيكون من يترك الصلاة كافرا؟
فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة»
قال: وسمعت قوما ناظروه في معنى هذه المسألة فسمعت من جوابه أنه يتأول الكتاب: {فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر} وقال فيه قولا غليظا" (أحكام أهل الملل 2/535)
واستدلال أحمد بالآية بعيد جدا وإنما كان كفر إبليس الاستكبار عن طاعة الله فى السجود لآدم وإنكار فضيلة آدم عليه ولا شك فى أن من ترك الصلاة استكبارا فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل بل إنه لو صلى وهو مستكبر يرى أن الصلاة غير لازمة له ولا واجبة عليه فهو كافر بالاستكبار نفسه.
قال الخلال: "قال أبو طالب: قلت: هؤلاء يقولون لو قال: هي علي إلى سنة لم يكفر، مثل ما يقول: العام أحج فلم يحج فيه، فكذلك إذا قال علي صلاة أصليها وإن كان بعد سنة؟
قال: ليس هذا بشيء، إذا تركها حتى يصلي صلاة أخرى فقد تركها.
فقلت: فقد كفر؟
قال: الكفر لا يقف عليه أحد ولكن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه"
فهذا توقف منه فى تكفيره ولو كان إجماعا لما توقف.
قال الخلال: "أخبرني محمد بن أبي هارون أن أبا الحارث حدثهم
قال: سئل أبو عبد الله عن رجل يدع الصلاة وله امرأة تأمره بالصلاة فلا يقبل منها؟
قال: أرى أن تُخْلَعَ منه.
وقال: أخبرنا محمد بن علي قال: حدثنا يعقوب بن بختان وأخبرني محمد بن جعفر قال: حدثنا أبو الحارث قال: وأخبرني الفضل بن زياد (قال): سئل أبو عبد الله عن المرأة لها زوج يسكر ويدع الصلاة؟ قال: إن كان لها ولي فرق بينهما.
وقال: أخبرني موسى بن سهل قال: حدثنا محمد بن أحمد الأسدي قال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب عن إسماعيل بن سعد قال: سألت أحمد عن الرجل هل يحل له أن يقيم مع امرأته لا تصلي ولا تغسل من جنابة ولا تتعلم القرآن؟
قال: أخشى أن لا يجوز المقام معها" (أحكام أهل الملل 2/550)
قوله: "أرى أن تُخْلَعَ منه" يعنى تٌنزع منه ويفرق بينها وبينه لأنه عنده كافر بترك الصلاة. وقال: "إن كان لها ولي فرق بينهما" يعنى أن ينتزعها منه لأجل كفره وإنما جعل أحمد الأمر إلى الولى ههنا لأن القضاة فى زمانه كانوا لا يكفرون تارك الصلاة ولا يفرقون بينه وبين امرأته وقد مضى كلام ابن القاسم وابن رشد فلما كانت المرأة لا تملك أن تفارق وكان الطلاق والخلع إلى الزوج دونها ودةن السلطان والقاضى أمر أحمد وليها أن ينتزعها منه لأجل كفره عنده.
وقوله فى الذى تركت امرأته الصلاة: "أخشى أن لا يجوز المقام معها" يدل على أنه ليس معه إجماع ولا نص صريح فى كفر تارك الصلاة وإلا لم يتردد فى تكفيرها والحكم بالفرقة بينهما.
قالت المرجئة إن الإيمان اعتقاد وقول دون عمل ولا يزيد بالعمل ولا ينقص فقالوا إن من صلى فليس خيرا ممن لم يصل ومن صام فليس بخير ممن لم يصم وقالوا ذلك فى أعمال الجوارح كلها وهذا قول شنيع ينكره عامة المسلمين وخاصتهم. وفى قول المسلمين إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فمن صلى وصام وحج البيت الحرام وعمل صالحا خير ممن لم يعمل صالح.
فخرج فى زماننا قوم جهلوا قول المرجئة وظنوا أن قول المسلمين فى الإيمان أنه قول وعمل أن من لم يعمل عملا صالحا بجوارحه حتى مات فهو كافر واحتج رأسهم بقول الله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} وهذه آيات نزلت فى المشركين فعمد إليها ووضعها فى المسلمين والله المستعان. ومن العجب أنهم يقولون إن من ترك الصلاة فهو كافر. فيقال لهم: أرأيتم لو ترك كل عمل صالح سوى الصلاة أيكون كافرا؟ قالوا: لا يكون كافرا لأنه الصلاة عمل صالح. قيل لهم: أرأيتم لو ترك الصلاة وعمل سائر أعمال البر؟ قالوا: هو كافر بتركه الصلاة.
فمسألتهم التى أتوا بها محالة على مذهبهم وقد وافقوا أهل البدع من حيث لا يدرون.
قال ابن المنذر: "وفيه سوى ما ذكرناه ثلاثة أقاويل لثلاث فرق من أهل الكلام.
قالت فرقة: هو فاسق، لا مؤمن، ولا كافر، مخلد في النار، إلا أن يتوب.
وقالت فرقة: هو كافر بالله العظيم، حلال الدم والمال.
وقالت طائفة: إنما استحق اسم الكفر من أسلم، ثم لم يصل شيئا من الصلوات حتى مات، لأن في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} أريد به جميع الصلوات. فمن أسلم، ثم لم يصل شيئا من الصلوات حتى مات، مات كافرا ومن صلى شيئا من الصلوات في عمره، لم يستحق هذا الاسم" (الإشراف - باب اختلاف أهل العلم في تارك الصلاة)
لعل الفرقة الأولى هم المعتزلة والثانية الخوارج ولا أدرى ما الثالثة حتى رأيناهم فى زماننا.
وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.