يقول الله -تبارك وتعالى- في محكم كتابه: (يا أيّها الّذِين آمنوا اتّقوا اللّه ولْتنْظرْ نفْسٌ ما قدّمتْ لِغدٍ واتّقوا اللّه إِنّ اللّه خبِيرٌ بِما تعْملون)[الحشر: 18] الآية.
(يا أيّها الّذِين آمنوا اتّقوا اللّه) أي اجعلوا بينكم وبين غضب الله وعقابه وقايةً يمنعكم منه، بامتثال أوامره، واجتناب نهيه.وفي هذا إشعار بأنّ الإيمان يقتضي سلوك سبيل التّقوى.
ثم قال: (ولْتنْظرْ نفْسٌ ما قدّمتْ لِغدٍ) أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم، وعرضكم على ربّكم.
(إِنّ اللّه خبِيرٌ بِما تعْملون) فالله -جل جلاله- عالم بجميع أحوالنا، لا تخفى عليه منّا خافية، ولا يغيب عليه من أمرنا جليلٌ ولا حقيرٌ.
وهذا يوجب شدّة الجدّ والاجتهاد في العمل الصالح، والبعد والابتعاد عن كلّ قبيح طالح.
قال العلّامة السّعدي -رحمه الله-: "هذه الآية الكريمة أصلٌ في محاسبة العبد نفسه، وأنّه ينبغي له أن يتفقّدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه والّتوبة النّصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصّرا في أمر من أوامر الله بذل جهده واستعان بربّه في تكميله وتتميمه" ا. هـ.
من كان في علم الله أنّه سيموت بعد عام واحد، فلم يبق له في هذه الدّار إلّا أشهر معدودات أو أيّام محدودات أو قل: ساعات قليلات، لا ندري على من سيأتي الدّور هذا العام، ومن تكون منيّته فيه.
إنّه الموت الذي لا يفرق بين كبير أو صغير، ولا ذكر أو أنثى، ولا غني أو فقير، ولا صالح أو طالح -نسأل الله أن يلطف بنا وأن يحسن خواتمنا-.ألا ومن أراد القرب من الله، وخفّة الحساب في الآخرة؛ فليسلك سبيل محاسبة النفس في الدّنيا، قال الحسن: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسبها لله، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".
وقال ميمون بن مهران: " لا يكون العبد متّقيًا حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه".
فلنتأمل حالنا مع الصلاة، وما أدراك ما الصلاة؟ فهل نحن مقيمين لها حق الإقامة، بحيث نفرح بها أمام الله يوم القيامة؟ أم أنّنا من الذين ضيّعوا أركانها وشروطها وواجباتها فما رعوها حق رعايتها؟ من الذين يسرعون في ركوعها، وينقرون -نقر الدّيكة- سجودها؟ أين نحن من خشوعها؟ أين نحن من استحضار قلوبنا فيها؟ نخادع الله أم نخادع أنفسنا؟ أين الكثير منّا من أدائها مع جماعة المسلمين؟ أين هذه الجموع المباركة في صلاة الفجر، والظهر والعصر، أين هي في المغرب والعشاء؟
لتساءل نفسك: كم صلاة ضيعت فما صليت في الوقت المحدد شرعا؟ كم ظهرا مع العصر جمعت؟ وكم عصرا مع المغرب جمعت؟ بل كم مرّة جمعت الصلوات الخمس في وقت واحد؟
من سلم من النّاس أن تهاون في صلاة فلم يصلّها لا في وقتها ولا في غير وقتها؟ فمن يصليها عنك أيها الإنسان؟
هذا عن الصّلاة، أمّا عن الصّيام، فيا حسرتا على الصّيام، لا يعرفه الكثير منّا إلّا في شهر رمضان، وكأننا قد أخذنا من عند الله الضمان بقبول صيام الفرض، أفلا نعلم أنّ صيام التّطوع من أهمّ فوائده أنّه يجبر ما في صيام الفرض من الخلل.
نعم، وأيّنا يسلم من هذا الخلل، ودليل ذلك واضح لا يُحتاج إلى كثير عناء في بيانه، ذلك أنّ الله -تعالى- يقول: (يا أيّها الّذِين آمنوا كتِب عليْكم الصِّيام كما كتِب على الّذِين مِنْ قبْلِكمْ لعلّكمْ تتّقون)[البقرة: 183].
فإن أعظم ثمرات الصيام: التّقوى، وأين هي التّقوى؛ وقد ملأنا الدينا بالمنكرات؟
فلنراجع أنفسنا ولنحسن فهم حقيقة الصّيام، ولنعلم أنّه من لم يدع قول الزور والعمل به، وجميع المعاصي، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
يوم القيامة؛ (يوْم يحْمى عليْها) على ما يكنزون: (فِي نارِ جهنّم فتكْوى بِها جِباههمْ وجنوبهمْ وظهورهمْ هذا ما كنزْتمْ لِأنْفسِكمْ فذوقوا ما كنْتمْ تكْنِزون)[التوبة: 35].
ومن وفقهم الله لإيتاء الزكاة، هل هم يعطونها مستحقّيها؟ أم أنّهم يحابون فيها أقاربهم ومعارفهم ممن لا حق له فيها؟
ثمّ هذه الأموال التي نتكلّم عن زكاتها، هل نحن حريصين على مصادرها؟ هل نحن متحرّين فيها أن لا يكون دينار منها من الحرام؟ أم أنّنا من الذين لا يبالون ولا يهمّنا من أين دخل هذا المال إلى جيوبنا؟
سواء من ربا أو رشوة، أو قمار أو بيع لمحرم، من خمر، أو .. أو.. ، دخان أو مخدّر، و.. وغيرها؟
ألا نعلم أن الله طيّب لا يقبل إلا طيّبا؟
أم أنّه لم يطرق سمعنا قطّ ما رواه أبو بكر الصّديق مرفوعا إلى النّبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنّة جسد نبت من سحت فالنّار أولى به".
أمّا إذا كان المال حلالا -وهذا ما نرجو أن يكو عليه النّاس أجمعهم- فإنّنا بلا شكّ مقصرون في حسن استغلاله، وكثير منّا لا يبالي عن ماله فيما أنفقه، أفي الحلال أم في الحرام، ولولا خشية الإطالة لأتينا بفضائحنا في هذا المجال، ولكن هما سؤالان يوم القيامة بين يدي الله عن المال: "من أين اكتسبته؟ وفيما أنفقته؟"
فلنُعدّ للسؤال جوابا، وللجواب صوابا.
هذا عن بعض عباداتنا ومعاملاتنا، فماذا عمّا أنعم الله علينا من جوارحنا؟
أيها الناس: أبصارنا؛ كم تجرّأت على المحارم فتجولت ها هنا، وها هنا؛ تنظر في الصّور المحرمة: نساء متبرجات، بل كاسيات عاريات، على الشّاشات التلفاز في المسلسلات، والبرامج الثقافية زعموا! والسّياسية والنّشرات، وفي الجرائد والمجلات الخليعات، بل على الواقع في الشوارع والطّرقات، وخاصّة في الأعياد والأعراس والحفلات، ناسين أو متناسين قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "العينان تزنيان وزناهما النظر".
هكذا، شُكرنا لنعمة البصر؛ بإطلاق النّظر، وكففناه عن كتاب الله وتلاوته، وتدبّر معانيه، للعمل به، غضضناه عن قراءة كتب أهل العلم الموثوقة تفقها في الدين، رأينا المنكرات فما أنكرنا ولا نهينا، رأينا بها المظلومين فما تكلّمنا ولا للحقّ نصرنا.
من هذه العيون سالت دموع العاشقين لكرة القدم لخسارة فريقه، وما سالت لسماع كلام الله الذي لون نزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله!.
من هذه العيون تسيل دموع بناتنا للقصص المؤثّرة في الأفلام والمسلسلات، وما تسيل لما يجري في بلاد المسلمين من ظلم ونكال الظالمين!.
أمّا آذاننا؛ فقد سُخّرت لسماع كلّ باطل من القول، على رأس ذلك مزامير الشيطان، بريد الزّنا، ورقية الشيطان، من آلات الطرب واللّهو من المعازف، وأصوات المخنثين من الرجال، والفاسقات الفاجرات من النّساء، وأعراضنا عن سماع طيب القول من التّلاوات العطرة لكتاب الله، وأعرضنا عن سماع الدّروس والمواعظ، والعلم النافع، والنّصح والتوجيه.
ولا تحدثني عن اللّسان؛ فما أصغر حجمه، وما أعظم جُرمه: أين المجالس التي تخلو من الغيبة والقدح في أعراض النّاس والنميمة؟ أين هي من الألسن التي طهُرت من الكذب في الجدّ والهزل؟ أين هي من السّلامة من السّخرية من الناس؟ وأين .. وأين .. وأين؟
بل أعظم من ذلك كلّه؛ القلب وما أدراك ما القلب، الذي لو صلح لصلح سائر الجسد، ولو فسد لفسد سائره.
قلوبنا أصبحت معلّقة بالدّنيا، بالدّرهم والدينار، أبت إلّا أن تحلّ عليها دعوة النّبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار".
قلوبنا امتلأت حقدا وبغضا لإخواننا المسلمين، وامتلأت حبّا لأعداء الله من الفاسقين، بل من الكفّار، خاصّة لصنفين منهم: "لاعبي كرة القدم" و "الفنّانين المغنين".
ألا وإنّ " المرء مع من أحب يوم القيامة".
وقلوبٌ أخرى تعلّقت بغير الله، فأشركت به، واعتقدت أنّ أهل القبور من الأولياء والصّالحين يضرون وينفعون، وفي هذا الكون مع الله يتصرّفون، فها هم يدعونهم وبهم يستغيثون، وآخرون في حلّ مشاكلهم إلى السّحرة والكهّان والعرافين يلجؤون، إلى الذين يتعاملون مع الجنّ، ولا يتعاملون إلّا بعد أن يشركوا بالله ويكفرون.
عباد الله: هذه جملة من مخازينا التي قضينا بها عامنا الفارط، بل أعوامنا، هذه جملة من مخازينا التي غفلنا عن محاسبة أنفسنا عنها، وهي جملة يسيرة، ووقفات قليلة، لو أردنا الإحاطة بكل ما نقع فيه لما وسع ذلك المجلدات، ولكن حسبنا الإشارة، فاللّبيب بالإشارة يفهم.
ولئن كنت قد تغافلت عن كثير من فضائحنا لضيق الوقت أو نسيانا، فإنّ الذي بيده ملكوت كلّ شيء لا يخفى عليه شيء، أليس هو القائل: (فمنْ يعْملْ مِثْقال ذرّةٍ خيْرًا يره * ومنْ يعْملْ مِثْقال ذرّةٍ شرًّا يره)[الزلزلة: 7- 8].
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-: "حاسبوا أنفسكم قبل تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهّبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم".
مذكّرا بقوله -عز وجل-: (يوْمئِذٍ تعْرضون لا تخْفى مِنْكمْ خافِيةٌ)[الحاقة: 18].أي يوم القيامة لا تخفى على الله خافية من أجسامنا ولا من أعمالنا، فالله -تعالى- عالم الغيب والشهادة.وفي هذا السياق، يقول الله -عز وجل- في آيتين تتفطر منها القلوب الحيّة، وتخرّ لها الجبال الراسية.
أمّا الأولى: فقوله جل وعلا: (ونضع الْموازِين الْقِسْط لِيوْمِ الْقِيامةِ فلا تظْلم نفْسٌ شيْئًا وإِنْ كان مِثْقال حبّةٍ مِنْ خرْدلٍ أتيْنا بِها وكفى بِنا حاسِبِين)[الأنبياء: 47]
أما الثانية: فقوله -جل وعلا-: (ووضِع الْكِتاب فترى الْمجْرِمِين مشْفِقِين مِمّا فِيهِ ويقولون يا ويْلتنا مالِ هذا الْكِتابِ لا يغادِر صغِيرةً ولا كبِيرةً إِلّا أحْصاها ووجدوا ما عمِلوا حاضِرًا ولا يظْلِم ربّك أحدًا)[الكهف: 49].
فسبحان الله! ما أشدّ غفلاتنا، وقد علمنا أن الله لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.
وما أعظم اغترارنا بفضل ورحمته، وقد عرفنا أنّه لا يترك مثقال ذرّة من الحسنات والسيئات إلّا أتى بها.
الشيخ شعيب العلمي
ملتقى الخطباء