بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد.. فهذه تعليقات كنت قد علقتها على النسخة المطبوعة من كتاب التمييز، وقد أتصرف في الأصل قليلا حيث أرى صعوبة في ضبط النص على النسخة الوحيدة من مخطوطته إذ القصد فهم النص لا التحقيق. راجيا من الله التوفيق والسداد.بسم الله الرحمن الرحيمقُرِىءَ على أبي حاتِمٍ مَكيِّ بنِ عَبدانَ([1] ) قالَ: سمعتُ مسلمَ بنَ الحجاجِ القُشيريَّ يقولُ: بالله نستعين، وبحوله نجيب ونرغب إليه في التوفيق للرشد والصواب، ولا قوة إلا بالله. أمّا بعدُ..
{سبب التأليف}فإنك -يرحمك الله- ذكرت أن قِبَلَك قومًا يُنكرون قول القائل من أهل العلم إذا قال: "هذا حديث خطأ"، و"هذا حديث صحيح"، و"فلان يخطىء في روايته حديثَ كذا، والصوابُ ما روى فلانٌ بخِلافه"، وذكرت أنهم استعظموا ذلك من قول من قاله، ونسبوه إلى اغتياب الصالحين من السلف الماضينَ، وحتى قالوا: "إن من ادّعى تمييزَ خطأِ روايتِهم من صوابِها، متخرِّصٌ([2] ) بما لا علم له به، ومدعٍّ علمَ غيب لا يوصل إليه"([3] ).
واعلم -وفقنا الله وإياك- أنْ لولا كثرةُ جهلةِ العوامِ مستنكري الحقِّ، ورادِّيهِ بالجهالةِ.. لما بانَ فضلُ عالمٍ على جاهلٍ، ولا تبيّنَ علمٌ مِن جهل، ولكن الجاهل يُنكر العلم لتركيب الجهل فيه، وضِدُّ العلم هو الجهل، فكل ضِدٍّ نافٍ لضدِّه، دافعٌ له لا محالةَ، فلا يَهُولَنَّكَ استنكارُ الجُهالِ، وكثرةُ الرُّعَاعِ([4] ) لما خُصَّ به قوم وحُرِموه، فإنَّ اعتدادَ العلمِ دائرٌ إلى معدَنِهِ، والجهلَ واقفٌ على أهله([5] ).
وسألتَ أن أذكر لك في كتابي روايةَ أحاديثَ مما وَهِمَ قوم في روايتها فصارت تلك الأحاديثُ عند أهل العلم في عِداد الغلط والخطأ ببيان شافٍ أبينها لك حتى يتضح لك ولغيرك-ممن سبيلُهُ طلبُ الصوابِ سبيلُكَ([6] ) - غَلَطُ من غَلَطَ وصوابُ من أصابَ منهم فيها.
وسأذكرُ لك إن شاء الله من ذلك ما يُرْشِدُكَ اللهُ، وتَهْجُمُ على أكثرَ([7] ) مما أذكره لك في كتابي، وبالله التوفيق.
{أنواع الرواة في الحفظ}وبعدُ فإنّ الناس متباينون في حفظهم لما يَحفظون, وفي نقلهم لما يَنقِلون، فمنهم:
الحافظ المتقنُ الحفظَ المتوقي لما يلزم توقيه فيه([8] ).
ومنهم المتساهل المُشيبُ حفظَه بتوهمٍ يتوهَمُهُ أو تَلقينٍ يُلَقَّنُهُ من غيره([9] ) فيَخْلِطُهُ بحفظه ثم لا يُميزه عندَ أدائِه إلى غيره([10] ).
ومنهم من همته حفظُ متونِ الأحاديثِ دونَ أسانيدها فيتهاونُ في حفظ الأثر([11]) ويَتخرَّصُها([12]) من بعدُ فيُحيلها بالتوهم على قوم غيرِ الذينَ أُدِّيَ إليه عنهم.
وكل ما قلنا من هذا في رواة الحديث ونُقّال الأخبار.. فهو موجود مستفيض.
ومع ما ذكرتُ لك من منازلهم في الحفظ ومراتِبهم فيه فليس من ناقل خبر وحامل أثر من السلف الماضين إلى زماننا وإن كان من أحفظ الناس وأشدِّهم توقّيًا وإتقانا لما يحفظ ويَنقِل إلا والغلطُ والسهو ممكنٌ في حفظه ونقلِه، فكيف بمن وصفت لك ممن طريقُه الغفلةُ والسهوُ في ذلك.
([1]) مكي بن عبدان بن محمد أبو حاتم التميمي النيسابوري سمع مسلما وروى تصانيفه عنه، توفي سنة 325 هـ رحمه الله.
([2]) أي متكهن قائل بالظن والوهم.
([3]) ذكر اعتراضين: الأول: أن الكلام على الرواة وتجريحهم من باب الغيبة، الثاني: أن تمييز صحيح الروايات من خطئها قول بالتخرص.
([4]) أي العوام الذين لا نظر لهم.
([5]) يقصد أن العلم المعتد به يرجع فيه إلى معدنه وأصله وهم أصحاب العلم الذين يؤخذ منهم العلم، وأما الجهل فيقف على أهله لا يتعداهم.
([6]) أي كسبيلك.
([7]) أي سيذكر في الكتاب من الأمثلة والبيان ما يجعل الناظر الفطن يتبين له علل أحاديث أخر غير مذكورة في كتابه فإن الشيء يعرف بنظيره.
([8]) من الرواية بالتوهم، وقبول التلقين في الحديث.
([9]) التلقين هو أن يقرأ الرواي على الشيخ مروياته ويدخل فيها ما ليس من حديثه في متن أو سند فيقبله الشيخ ولا يميزه ويحفظه على أنه من حديثه.
([10]) فيجعل ما حفظه من شيخه وما لقنه من الحديث واحدا عند الأداء.
([11]) المراد من الأثر ما يشمل السند.
([12]) أي الأسانيد.