الحقيقة المنسيَّة

حسن رمضان البوطي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
أذكِّر نفسي أولًا وإخواني من بعدي بكلامٍ طالما تأفَّف من الحديث فيه كثيرٌ من الناس، ولكنه مصير، لا بدَّ أن كلَّ واحد منَّا سيذوق هذه الجرعة، ويا عجبًا كيف يتأتَّى للمؤمن بالله ورسوله أن يتأفَّفَ وأن يستوحشَ مِن الحديث عن ذكْره، بعد أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا مِن ذكْر هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات))؛ رواه الترمذي؟!

فلنتذكر جميعًا أننا على موعدٍ مع الموت، ألم نقرأ قول الله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]؟! فإلى متى سنظل متقلبين بين الشهوات والأهواء، ونحن نسعى في لهثٍ دائبٍ لجمع المزيد والمزيد من حطام الدنيا؟!

لا بدَّ أن نفكر جيدًا في المصير الأخير الذي قال عنه الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾ [الجمعة: 8]، ولكن التفرقة في المصير الأخير: ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185].

والميت هو الذي يضع في الموتِ معناه، فإن شاء وضع في الموت معنى العرس، فهو من هذا العرس على ميعاد، وإن شاء وضع في الموت معنى المصيبة، فهو من هذه المصيبة أيضًا على ميعاد.

وأنت أيها الإنسان، إنك الآن تملك الفرصة، فإن شئت جعلت - خلال هذه الفرصة - من الموت عرسًا سوف تقبل عليه، وإن شئت جعلت منه مصيبةً سوف تكون مصيرًا لا محيدَ لك عنه، ولا مفرَّ لك منه.

فإن عرَفت كيفيةَ السير إلى الله، وإن عرَفت كيفية السلوك الذي يجمعك غدًا مع الله، وأنت سعيد قرير العين مطمئن البال، إن سلكت طريقك وأنت تضبط نفسك بالنهج الذي أوصاك الله عز وجل به وبيَّنه لك، إن عملتَ الصالحات، ولم تفسد في الأرض، ولم تجعل من شهواتِك وأهوائك قانونًا يُسيِّرك، وجعلتَ من أوامر الله تعالى منهجًا لك، فاعلم أنك قد وضعت بذلك في الموت حقيقة العرس، فإذا جاء الموتُ فلسوف تكون غدًا قريرَ العين، وسترحل إلى لقاء الله عز وجل وأنت تتمتع بأجمل لحظة شعرتَ بها في حياتك أجمع.

أما إن تركتَ هذا النهج، وأخضعتَ نفسك لما توحي به إليك شهواتُك وأهواؤك، وانحرفتَ عن النهج الذي أحبَّه الله لعباده، فاعلم أنك وضعتَ بذلك في الموت حقيقة المصيبة، وأيُّ مصيبة!

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((مَن أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لِقاءَه، ومَن كَرِهَ لقاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقاءَه)).

فكيف سيكون القدوم على الله غدًا؟
لنقرأ قول الله تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 93 - 95].

إنه لَمِنَ الضروري أن نسعى لنكون من المحسنين، حتى إذا أقبلنا إلى ربِّنا غدًا يكون إقبالُنا إليه كإقبال المسافر على أهله، لا من المسيئين، فيكون إقبالُنا إلى ربنا كإقبال العبد الهارب يُجَرُّ إلى مولاه جرًّا وهو ينتظر العقاب.

أسأل اللهَ تعالى أن يجعلنا ممن قال فيهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ﴾ [الكهف: 107]، ولا يجعلنا ممن قال فيهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 140].

والحمد لله رب العالمين.