لنا حاجةٌ والعذر فيها مقدَّمٌ ... خفيفٌ مُعنَّاها مضاعفةُ الأجرِ
فإن تقضها فالحمد لله ربِّنا ... وإن تكن الأخرى ففي أوسع العذر
على أنَّه الرَّحمن معطٍ ومانعٌ ... وللرِّزق أسبابٌ بها قدرٌ يجري
فأجابه محمد بن عبد الله بن طاهر:
فسلها تجدني موجباً لقضائها ... سريعاً إليها، لا يخالجني فكرُ
شكورٌ بإفضالي عليك بمثلها ... وإن لم تكن فيما حوته يدي شكر
فهذا قليلٌ للذي قد رأيتُه ... لحقِّك لا مَنٌّ عليك ولا فخر
فقال القاضي: أريد كتابا إلى موسى بن عبد الملك في تعجيل أرزاقي. قال: أو خير من ذلك؟ أعجّلها من مالي، وأكتب إلى موسى، فإذا وَصَلَت كنتَ مخيراً في ردها أو أخذها. قال: وأنت والله يا أمير كما قال القائل:
فبابك ألينُ أبوابهم ... ودارُك مأهولة عامره
وكفاك أندى من المُعصِرات في الليلة الثجة الماطره
وكفُك آلفُ بالمعتَفِين من الأم بابنتها الزائره
فمنك العطاء، ومنا الثناء بكل مُحبِّرة سائره
وكان سوار بن عبد الله ظريفاً مطبوعاً صاحب عاطفة رقيقة ونَفَس شاعري، خامر قلبه شيء من الوجد لجارية له أبدت له شيئاً من الجفاء، فنظم أبياتاً وطلب من أحد المغنين غناءها، قال عبد الله بن العباس الربيعي وكان من أشهر مغني عصره: لقيني سوار بن عبد الله القاضي فأصغى إلي وقال: إنَّ لي إليك حاجة فإتني في خفية، فجئته، فقال: لي إليك حاجة قد أنِستُ بك فيها، لأنك لي كالولد، فإن شرطتَ لي كتمانها أفضيتُ بها إليك، فقلت: ذلك للقاضي عليَّ شرطٌ واجب، فقال: إني قلت أبياتاً في جارية لي أميلُ إليها وقد قَلَتني وهَجَرَتني، وأحببتُ أن تصنع فيها لحنا وتسمعَنيه، وإن أظهرته وغنيته بعد ألا يعلم أحد أنه شعري، فلست أبالي، أتفعل ذلك؟ قلت: نعم حبا وكرامة، فأنشدني:
سلبتِ عظامي لحمَها فتركتِها ... عَواريَ في أجلادها تتكسرُ
وأخليتِها من مخها فتركتِها ... قوارير في أجوافها الريحُ تصفرُ
إذا سمعتْ ذكرَ الفراق تراعدت ... مفاصلها خوفاً لما تتنظرُ
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري ... بِلى جسدي لكنني أتستر
وليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنها روح تذوب فتقطر
قال عبد الله: فصنعت فيه لحنا، ثم عرفته خبره في رقعة كتبتها إليه، وسألته وعدا يعدني به للمصير إليه، فكتب إلي: نظرت في القصة فوجدت هذا لا يصلح ولا ينكتم علي حضورك وسماعي إياك، وأسأل الله أن يسرك ويبقيك. فغنيت الصوت وظهر حتى تغنى به الناس، فلقيني سوار يوما فقال لي: يا ابن أخي، قد شاع أمرك في ذلك الباب حتى سمعناه من بعد كأنا لم نعرف القصة فيه، وجعلنا جميعا نضحك.
قال صالح بن إسحاق الجرمي الفقيه النحوي: دخلتُ حماماً في درب الثلج، فإذا فيه سوار بن عبد الله القاضي في البيت الداخل قد استلقى وعليه المئزر، فجلست بقربه فساكتني ساعة ثم قال: قد أحشمتني يا رجل، فإما أن تخرج أو أخرج، فقلت: جئت أسألك عن مسألة، فقال: ليس هذا موضع المسائل، فقلت: إنها من مسائل الحمام، فضحك وقال: هاتها، فقلت: من الفتى الذي يقول:
سلبتِ عظامي لحمها فتركتِها ... عَواريَ مما نالها تتكسرُ
فقال سوار: أنا والله قلتها. قلت: فإنه يغنى بها ويجود، فقال: لو شهد عندي الذي يغني بها لجزت شهادته.
ولم يكن سوار يحرص على صحبة السلاطين إذا كان فيها ما يتعارض مع هيبة القضاء، فقد قال: وصفني محمد بن عبد الله بن طاهر للمتوكل، فمضيت إليه فلم أجد عنده ما أحب؛ فتوجهت إلى بغداد فبدأت بمحمد بن عبد الله، فقال لي: ما صنعت يا أبا عبد الله؟ فقلت:
رجعنا سالمين كما بدأنا ... وقد عظمت غنيمة سالمينا
وما تدرينَ أيَّ الأمر خير ... أَما تَهوَينَ أم ما تكرهينا
أما في مجلس القضاء فكان رحمه الله ممن يرقبون الله في قضائهم، ويعلمون أن فوق حكمهم حاكم عدل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال بكار بن محمد بن سيرين رأيت سوار بن عبد الله - وأراد أن يحكم - فرفع رأسه إلى السماء وترقرقت عيناه ثم حكم.
قال إبراهيم بن إسحاق: رأيت رجلاً من جماعة السلطان يكلم سوار بن عبد الله في قضية قضى بها عليه ويتهدده، وسوار ساكت، فلما فرغ الرجل من كلامه قال سوار:
زعم الفرزدقُ أنْ سيقتل مِرْبَعاً ... أبشر بطول سلامة يا مِربعُ
ثم لم يزده على ذلك