الجن في السُّنة

الشيخ عبدالعزيز السلمان


ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن عفريتًا من الجن تفلَّت عليَّ البارحة؛ ليقطع عليَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أَربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه، فذكرت قول أخي سليمان: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾ [ص: 35].

وورد أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم جاءت تزوره وهو معتكف، فقام معها مودعًا حتى بلغت باب المسجد، فرآه رجلان من الأنصار فسلما عليه، فقال: على رِسْلكما إنما هي صفية بنت حيي»، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكَبُرَ عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خَشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا».

وهذا صريح واضحٌ في أن الشيطان يخترق الجسم البشري ويسري فيه كما يسري الدم، ومع خفائه، فقد التزم الشيطان لعَنه الله في عداوته سبعة أمور: أربعة في قوله تعالى: ﴿ وَلَأُضِلَّنَّه ُمْ وَلَأُمَنِّيَنّ َهُمْ وَلَآمُرَنَّهُم ْ فَلَيُبَتِّكُنّ َ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُم ْ فَلَيُغَيِّرُنّ َ خَلْقَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 119]، وثلاثة منها في قوله تعالى: ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين ﴾ [الأعراف: 16، 17].

وهذا الالتزام يبيِّن أنه عدو متظاهر بالعداوة، ولذلك فصَّل الله عداوته باشتمالها على ثلاثة أشياء: (السوء)، وهو متنازل جميع المعاصي من القلب والجوارح، (والفحشاء) وهي ما عظُم جُرمه وذنبه؛ كالكبائر التي بلغت الغاية في الفحش، وذلك كالزنا واللواط، والقول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وشرعه.

وروى مسلم أن فتى من الأنصار قتَل حية في بيته، فمات في الحال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في المدينة جنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان».

وهكذا تكرَّرت الروايات الصحيحة أن الجن كانوا بالمدينة وقد أسلم بعضهم، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود يولَد إلا نخَسه الشيطان إلا ابن مريم وأمه».

وروى مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحدٍ إلا وكَّل الله به قرينَه من الجن"، فرأى الصحابة أن قوله صلى الله عليه وسلم عام، فقالوا: يا رسول الله، وإياك؛ أي: حتى أنت، فقال صلى الله عليه وسلم: «وإياي لكن الله قد أعانني عليه، فأسلَم فلا يأمرني إلا بالخير».

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ، فجعل يحثو من الطعام، فأخفته وقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعني فإني مُحتاج ولي عيالٌ وبي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال رسول الله: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة»؟ قال: قلت يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالًا، فرحِمته فخلَّيت سبيله، قال: «أما أنه كذَبك وسيعود»، فرصدته فجاء يحثو من الطعام، فعل ذلك ثلاث ليال، كل ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أما أنه قد كذبك وسيعود»، فلما كان في الثالثة قلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات تزعُم إنك لا تعود، فقال: دعني أعلِّمك كلمات ينفعك الله بها، فقلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ... ﴾ [البقرة: 255]، حتى ختم الآية، فإنه لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يَقرَبك شيطان حتى تُصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما أنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة»، قلت: لا، قال: «ذلك شيطان».

عن أبي السائب أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته قال: فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عراجين في ناحية البيت، فالتفت فإذا حية فوثبتُ لأقتلها، فأشار إليَّ أن اجْلِس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعُرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة»، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به فأصابتْه، فقالت: اكفُف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فإذا بحيَّة عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظَمها به، ثم خرج فركَزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يدري أيهما كان أسرع موتًا الحية أم الفتى، قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يُحييه لنا فقال: «استغفروا لصاحبكم»، ثم قال: «إن بالمدينة جنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتُلوه، فإنما هو شيطان»، وفي رواية عنه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئًا منها، فحرجوا عليها ثلاثة، فإن ذهب وإلا فاقتلوه، فإنه كافرٌ»، وقال لهم: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم».

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يُسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا وثب بالصلاة أدبر، حتى إذا قُضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا واذكر كذا - لِما لم يذكر من قبلُ - حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى»؛ متفق عليه، و(التثويب): الإقامة، يخطر: يوسوس.

وعن ابن مسعود رصي الله عنه قال: ذُكِرَ عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام حتى أصبح قال: «يَعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقد، يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقُد، فإن استيقَظ فذكر الله تعالى انحلَّت عقدة، فإن صلى انحلت عُقَدُه كلها، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»؛ متفق عليه.

اللهم انظِمنا في سِلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين، وآمنَّا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفِر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.