تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: أصحاب الهمم العالية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي أصحاب الهمم العالية

    أصحاب الهمم العالية (1)

    أ. د. عبدالله بن محمد الطيار



    إنَّ لذَّة كلِّ أحدٍ على حسب قَدْرِهِ وهِمَّته، وشرفِ نفسِه؛ فأشرفُ الناسِ نفسًا، وأعلاهم هِمَّةً، وأرفعُهم قَدْرًا - مَن لذَّتُه في معرفةِ اللهِ ومَحَبَّتِه، والشوق إلى لقائه، والتودُّد إليه بما يحبُّه ويرضاه، فلذَّته في إقباله عليه، وعُكُوف هِمَّته عليه.

    ودون ذلك مراتبُ لا يُحصيها إلا الله؛ حتى تنتهي إلى مَن لذَّته في أخسِّ الأشياءِ مِن القاذوراتِ والفواحشِ في كلِّ شيءٍ مِن الكلام، والأفعال والأشغال.

    والفَرْقُ كبيرٌ بينَ الضعفين، والبَوْنُ شاسع، ولو عُرض على مَن هِمَّتُه عَلِيَّة أن يتلذَّذ بهذه السفاسِف، لَنَفَرَ منها وترَكها، والعكس صحيح؛ فلو عُرض على الثاني التلذُّذ بالطاعة، والتعلُّق بالله، لَنَفَرَ مِن ذلك والعِياذ بالله.

    وأَكْمَلُ الناسِ لذةً مَن جُمع له بين لذَّة القلب والروح ولذَّة البَدَن، فهو يَتناول لذَّاتِه المباحةَ على وجهٍ لا ينقص حظَّه مِن الدار الآخرة، ولا يَقطع عليه لذَّة المعرفة والمحبَّة والأنسِ بربِّه، والقربِ منه بإخلاصِ العبوديةِ له سبحانه، فهذا الصنف ممن قال الله فيهم: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: 32].

    وأبخَسُ الناسِ حظًّا مِن اللذة مَن تَناوَلها على وجهٍ يَحُول بينه وبين لذَّات الآخرة، فيكون ممن يُقال لهم يومَ استيفاءِ اللذَّاتِ: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا ﴾ [الأحقاف: 20].

    فالجميعُ تمتَّعوا بالطيبات، لكن الصنف المحمود تمتَّعوا بها على الوجه الذي أَذِنَ اللهُ فيه، فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة.

    والصنف الثاني المذموم تمتَّعوا بها على الوجه الذي لم يَأْذَنِ اللهُ به، بل دعاهم إليه الهوَى والشهوة، فانقطعَت عنهم لذَّةُ الدنيا، وفاتتْهم لذَّةُ الآخرة، فلا لذة الدنيا دامت، ولا لذة الآخرة حصلت لهم.

    فمَن أَحَبَّ اللذة ودوامَها، والعيش الطيب، فليجعل لذة الدنيا مُوصلة إلى لذة الآخرة؛ بأن يستعين على فراغ قلبه لله، فيُخلص في عبادته، ويتناول ما يُعرض له من ملذَّات الدنيا على أساس الاستعانة والقوة على الطاعة والعبادة، لا لمجرَّد الشهوة والهوى، حتى وإن كان ممن لم يُدرك لذَّاتِ الدنيا وطيباتها، فليجعل ما نقص منها زيادة في لذَّة الآخرة، ويجاهد في منع نفسه منها بالترك؛ ليستوفيَها كاملة في الآخرة، فطيبات الدنيا ولذَّاتها نِعْم العون لمن صحَّ طلبُه لله والدار الآخرة، وكانت هِمَّته لما هناك، وبئس القاطع لمن كانت هي مقصودَهُ وهِمَّته وحولها يُدندِن، وفواتها في الدنيا نِعْم العون لطالب الله والدار الآخرة، وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة.

    فمَن أخَذ منافعَ الدنيا على وجهٍ لا ينقص حظَّه من الآخرة، ظفر بهما جميعًا.

    فلا شيءَ أفسَدُ للقلبِ مِن التعلُّق بالدنيا والركون إليها؛ فإن متاعها قليل، ولا تطمعوا بالإقامة فيها؛ فإن البقاء فيها مستحيل، كيف لا والمنادي يناجي كل يوم: يا عبادَ الله، الرحيل، الرحيل، فالموت ما فيه فوت ولا تعجيل، ولا يقبل الفداء ولا التبديل، فلنستعدَّ له؛ فإنه أقرب إلينا مِن حَبْل الوريد.

    والتعلُّقُ بالدنيا وإيثارُها، والركونُ إليها - يُقعِد المسلمَ عن التطلُّع إلى الآخرة، والعملِ وإتعابِ الجسدِ في سبيل الله والدعوةِ إليه، وهيهات لقلبٍ فاسد مريض أن يَقوَى على الطاعة والعبادة، والقيامِ بحقوق الله، وحقوق الناس، والدنيا فيها قابليةُ الإغراءِ لمن تعلَّق بها وأحبَّها؛ ولهذا وصفها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: ((إنَّ الدنيا حلوةٌ خضِرةٌ، وإنَّ الله مُستخلفُكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)).

    وصلِّ اللهم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.




  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: أصحاب الهمم العالية

    أصحاب الهمم العالية (2)

    أ. د. عبدالله بن محمد الطيار

    لقد حذَّر اللهُ جل وعلا من الوقوع في الدنيا، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [فاطر: 5].

    ووجْهُ الاغترارِ بالدنيا أن فيها مباهجَ ومناظرَ وملذاتٍ للأنفُس والأعيُن والأسماع، تهواها النفسُ بطبيعتها، وتُؤْثرها على ما سِواها؛ قال الله تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 17 - 16].

    وقال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ﴾ [القيامة: 22 - 21].

    فإذا تركت النفْس وشأنها، زاد تعلُّقُها بالدنيا، وزاد التِصاقُها بها؛ حتى تُصبح هي كل غايتها، ومنتهى أملها، ومبلغ عِلمها؛ قال تعالى: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [النجم: 29].

    وعلاج ذلك كلِّه تخليصُ القلبِ مِن أسْرها، وطرد تعلُّقه بها؛ بأن يجعل زوالها نُصْب عينيه، ويجزم بلقاء الآخرة، وما أعدَّه اللهُ فيها مِن النعيم المقيم لأوليائه.

    ويتدبَّر الآياتِ المنزلةَ، مثلَ: قوله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 18 - 19].

    وقوله تعالى: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء:7 7].

    وقوله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 20].

    والله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 8 - 7].

    إن أصحاب العقول الراجحةِ يُقارنون بين ملذَّات الدنيا، وملذَّات الآخرة، وهنا يُرجِّحون دون أدنى شكٍّ الآخرةَ على الدنيا، ويَستَصحِبون معهم قطْع الأملِ في هذه الدنيا، ويحسُّون أنهم في غربة، وأنهم مسافرون عنها، وعمَّا قليل سيرحلون، وهذا الرحيل إجباريٌّ، وليس اختياريًّا.

    وإذا وسوس لهم الشيطانُ، وألقى في روعهم أنهم شباب، وأنهم في صحة وعافية، وبإمكانهم الرجوع إلى الطاعة، والإقبال على الآخرة في سِنٍّ متأخِّرة، فإنهم يَطرُدُون هذا الوسواسَ باستحضار الذين رحلوا شبابًا، وكهولًا وهم الآن تحت الثرى، ومتى وقفَ المسلمُ وقفةَ محاسَبةٍ وهو في المقبرة، تذكَّر مَن عاش وفاتَهم؛ مِن الصغار والكبار والأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، وجزم أنه بعد وقتٍ سيثوَّى معهم، وهنا لا ينفعه إلا عمله الصالح، فهذا يُعطيه دافعًا للعمل، وزيادةِ الطاعة والعبادة، وهنا يتجهَّز للآخرة بعمل الطاعات؛ إذ لا يَدري متى يُنادَى عليه بالرحيل، وكلَّما زاد تعلُّقُ العبدِ المؤمن بالآخرة، خفَّت روحُه وسمَت وتلذَّذَت بأنواع العبادة، وزهدَت في الدنيا ومتاعها الزائل.

    وقد أوصَى الخليفةُ الراشدُ عليُّ بنُ أبي طالب ابنَه الحسَنَ بقوله: (أَحْيِ قلبَك بالموعظة، وأَمِتْهُ بالزهادة، وقَوِّهِ باليقين، ونَوِّرْهُ بالحكمة، وذَلِّلْهُ بذكْر الموتِ، وقرِّره بالفناء، وبصِّره بفجائع الدنيا، وحذِّره صولةَ الدهر، وفُحْشَ تقلُّبِ الليالي والأيام، واعرِضْ عليه أخبار الماضين، وذكَّره بما أصاب مَن كان قبلك مِن الأوَّلين، وسِرْ في ديارهم وآثارهم، وانظر فيما فعلوا، وعمَّا انتقلوا عن الأحبَّة، وحلَّوا في دار غربة، وكأنك عن قليل قد صِرْتَ كأحدهم، فأصلِح مثواك، ولا تَبِعْ آخرتك بدنياك... إلخ هذه الوصية الطويلة العظيمة.

    وصلِّ اللهم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •